فصل: تفسير الآية رقم (141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وجْه الخسران أنهم لم يلتفتوا إلى أن الله يرزقهم ويرزق أبناءهم أيضًا، ولعلك أيها الأب قتلت ولدًا، كنت ستعيش أنت في رحاب رزقه، وكثيرًا ما يكون البعض من الأولاد صاحب رزق وفير، ويقال عن مثل هذا الابن: إن وجهه وجه الخير والسعد والبركة، فمن يوم أن وُلد ولد معه الخير، وذلك حتى لا يتأبى الإنسان على عطاء الله؛ لأنك حين تتأبى على عطاء الله تحرم نفسك العطاء فيما تظنه غير عطاء، وهذا خسران كبير.
إننا نلحظ أن العرب كانوا في بيئة تستجيب وتلبي الصريخ، فساعد يصرخ من في شدة نزلت به واستنجد، يجد من ينقذه، والأولى بالنجدة أهل الرجل وأولاده. والمثال على ذلك ما حدث من جد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذهب ليحفر البئر، وجاءت قريش ووقفت له حتى لا يحفر. فقال: لو أن لي عشرة أبناء سأضحي بواحد منهم. إذن فكثرة الأولاد في هذه المسائل تعطي العزوة وتكثر الصريخ، ولا يفعل ذلك إلا المفطور على النجدة.
وإن قتلت ابنًا خوفًا من الفقر فقد تخسر رزقًا قد يكون في طي من تقتل من الذرية، وفوق ذلك تفقد مباهج الشأن أو العزوة أو الآل. أو على الأقل أنهم قد خسروا الا أنهم عاكسوا مرادات الله في الإيجاد بالإنجاب. {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ...} [الأنعام: 140]
و{سَفَهًا} تعني طيشًا، وحمقًا، وجهلًا. {.. وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افتراء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]
وهم حين يحرمون على أنفسهم ما رزقهم الله من الأنعام، فهم أهل حمق وضلال وخسران فلو تركوها لانتفعوا منها في حمل أثقالهم أو فيما تدره من لبن، أو في أكل لحمها. إنهم بحمقهم وجهلهم قد خسروا كثيرًا، وهم مع ذلك فعلوا ما فعلوا بكذب متعمد على الله، وهم قد ضلوا ولم يكونوا أهلًا للهداية، وكان يكفي أن يصفهم بقوله: {قَدْ ضَلُّواْ}؛ لكنه أضاف: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لأن الضلال هو عدم الذهاب إلى المقصد الموصل للغاية، وقد يكون ذلك عن جهل بالطريق، لكن الحق سبحانه رسم لهم طريق الحق فآثروا الذهاب إلى الضلال مع وجود طريق الحق. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}
أخرج البخاري وعبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا} إلى قوله: {وما كانوا مهتدين}.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم} قال: نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة، كان الرجل يشترط على امرأته إنك تئدين جارية وتستحبين أخرى، فإذا كانت الجارية التي توأد غدًا من عند أهله أو راح وقال: أنت علي كأمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فترسل إلى نسوتها فيحفرن لها حفرة فيتداولنها بينهن، فإذا بصرن به مقبلًا دسسنها في حفرتها وسوّين عليها التراب.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم} قال: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه. وفي قوله: {وحرموا ما رزقهم الله} قال: جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميًا تحكمًا من الشيطان في أموالهم، وجزأوا من مواشيهم وحروثهم، فكاق ذلك من الشيطان افتراء على الله.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي رزين أنه قرأ {قد ضلوا قبل ذلك وما كانوا مهتدين}. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال الصابوني:
البَلاَغَة:
1- {قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} أي أفرطتم في إِضلال وإِغواء الإِنس، ففيه إِيجاز بالحذف ومثله {استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي استمتع بعض الإِنس ببعض الجن، وبعضُ الجن ببعض الإِنس.
2- {النار مَثْوَاكُمْ} تعريف الطرفين لإِفادة الحصر.
3- {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
4- {وَلِكُلٍّ} أي لكل من العاملين فالتنوين عوضٌ عن محذوف.
5- {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} صيغة الاستقبال {تُوعَدُونَ} للدلالة على الاستمرار التجددى، ودخولُ إِنَّ واللام على الجملة للتأكيد لأن المخاطبين منكرون للبعث لذا أكّد الخبر بمؤكدين.
6- {مَا رَزَقَهُمُ الله افتراء عَلَى الله} إظهار الاسم الجليل في موضع الإِضمار لإِظهار كمال عتوهم وضلالهم أفاده أبو السعود. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
هذا جواب قسم مَحْذُوف وقرأ ابن كثير وابن عامر، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن: {قَتَّلُوا} بالتشديد؛ مُبَالغَة وتكثيرًا، والباقون بالتّخْفِيفِ.
و{سَفَهًا} نصب على الحالِ، أي: ذوي سَفَهٍ أو على المَفْعُول من أجْلِه، وفيه بَعْدٌ؛ لأنه ليس عِلَّة بَاعِثة أو عَلَى أنه مصدر لِفِعْل مقدَّر، أي: سَفَهُوا سَفَهًا أو على أنه مَصْدر على غير الصَّدْر؛ لأن هذا القَتْل سَفَهٌ.
وقرأ اليماني {سُفَهاء} على الجَمْع، وهي حال وهذه تقوِّي كون قراءة العامَّة مَصْدرًا في موضع الحال، حيث صرّح بها، و{بِغَيْر علِمٍ}: إما حالٌ أيضًا وإما صِفَة لـ {سَفَهًا} وليس بِذَلكَ. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {مهلك القرى} أي قرى أشخاص الإنسان {بظلم} وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية {وأهلها غافلون} لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد. {وربك الغني} عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة {ذو الرحمة} خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم. {واعملوا على مكانتكم} أي على ما جبلتم عليه {إني عامل} على ما جبلت عليه {قتل أولادهم شركاؤهم} من الشياطين والنفس والهوى والدنيا {سيجزيهم بما كانوا يفترون} لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكون له نور إذا لم يكن لامتثال الشرع {قد خسر الذين قتلوا أولادهم} لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب {وما كانوا مهتدين} لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد. وقال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (141):

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار، وأتقن تقرير هذه الأصول لاسيما في هذه السورة، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، وعجب سبحانه ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيبًا بعد تعجيب، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخًا في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم أنصف الناس، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس، وبطلبهم للآيات تعنتًا مع ادعائهم أنهم أعقل الناس، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس- إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهموه سبحانه من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفًا عن سلف، تنبيهًا على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيرًا للناس عن الالتفات إليهم واغترار بأقوالهم، قال في موضع الحال من {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام} [الأنعام: 136] مبينًا عظيم ملكه وشمول قدرته وباهر اختياره وعظمته، زيادة في التعجيب منهم في تصرفهم في ملكه بغير إذنه سبحانه وشرعهم ما لم يأذن فيه في سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد عودًا على بدء وعللًا بعد نهل، لأنه المدار الأعظم والأصل الأقوم: {وهو} أي لا غيره {الذي أنشأ} أي من العدم {جنات} أي من العنب وغيره {معروشات} أي مرفوعات عن الأرض على الخشب ونحوه، أي لا تصلح إلا معروشة، ومتى لم ترفع عن الأرض تلف ثمرها {وغير معروشات} أي غير مرفوعات على الخشب، أي لا تصلح إلا مطروحة على الأرض مثقلة بما يحكم وصولها إليها، ومتى ارتفعت عن الأرض تلفت، فما ذلك لطبيعة ولا غيرها وإلاّ لاستوت الجنات كلها لأن نسبتها إلى السماء والأرض واحدة، فما اختلف إلا بفاعل مختار واحد لا شريك له، لا يكون إلا ما يريد.
ولما ذكر الجنات الجامعة، خص أفضلها وأدلها على الفعل بالاختيار، وبدأ بأشهرها عند المخاطبين بهذه الآيات فقال: {والنخل} أي وأنشأ النخل {والزرع} حال كونه {مختلفًا أكله} أي أكل أحد النوعين، وهو ثمره الذي يؤكل بالنسبة إلى الآخر، وأكل كل نوع بالنسبة إلى الأشجار وغيرها في الحمل والطعم وغيره، بل ويوجد في العذق الواحد الاختلاف، وأما اختلاف مقداره بكون هذا في غاية الطول وهذا في غاية القصر فأمر واضح جدًا {والزيتون والرمان}.
ولما كان معظم القصد في هذا السياق نفي الشريك وإثبات الفعل بالاختيار، لم يدع الحال إلى ذكر كمال الشبه فاكتفى بأصل الفعل فقيل: {متشابهًا} أي كذلك {وغير متشابه} أي في اللون والطعم والفساد وعدمه والتفكه والاقتيات والدهن والماء- إلى غير ذلك من أحوال وكيفيات لا يحيط بها حق الإحاطة إلا بارئها سبحانه وعز شأنه، ولعله جمع الأولين لأن كلًا منهما يدخر للاقتيات ولا يسرع فساده مع المفارقة في الشكل، والاختلاف في النوع بالشجر والنجم، والتفاوت العظيم في المقدار، والأخيرين لأن الأول لا يفسد بوجه، والثاني يسرع فساده، ويدخر كل منهما على غير الهيئة التي يدخر عليها الآخر مع كونهما من الأشجار وتقاربهما في المقدار وتفاوت ثمرتهما في الشكل والقدر وغير ذلك.
ولما كان قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء} [الأنعام: 99] في سياق الاستدلال على أنه لا فاعل إلا الله، أمر فيه بالنظر إلى الثمر والينع ليعتبر بحالهما، وكانت هذه الآية في سياق التعنيف لمن حرم ما رزقه الله والأمر بالأكل من حلال ما أنعم به والنهي عن تركه تدينًا فقال تعالى هنا: {كلوا} وقدم الأولى المستدل بها على وجود البارئ وتفرده بالأمر لأن اعتقاد ذلك سعادة روحانية أبدية؛ وقال أبو حيان في النهر: لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب، قال: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} [الأنعام: 99] إشارة إلى الإيجاد أولًا وإلى غايته، وهنا لما كان في معرض الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال: كلوا، ودل على أن الرزق أكثر من خلقه بقوله: {من ثمره}، ولما كان هذا الأمر للإباحة لا للارادة، قيده لئلا يقتضي إيجاد الثمر في كل جنة في كل وقت فقال: {إذا أثمر} فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة الدنياوية السريعة الانقضاء وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب. انتهى.
وعبر بإذا دون إن تحقيقًا لرجاء الناس في الخصب وتسكينًا لآمالهم رحمة لهم ورفقًا بهم إعلامًا أنه إن وقع جدب كان في ناحية دون أخرى وفي نوع دون آخر، وإباحة للأكل في جميع أحوال الثمرة نضيجة وغير نضيجة.
ولما كان في الآيات الحاكية مذاهب الكفار تقبيح أن يجعلوا شيئًا من أموالهم لأحد بأهوائهم، أشار هنا إلى أنه فرض فيها حقًا وجعل له مصارف بقوله: {وآتوا حقه} ولما أباح سبحانه أكله ابتداء وانتهاء، بين أنه خفف عنهم الوجوب قبل الانتهاء فقال: {يوم حصاده} أي قطعه جذاذًا كان أو حصادًا، فكذلك أول وقت نصاب الأمر وهو موسع، والحق أعم من الواجب والمندوب، فإن أريد الندب عم الأنواع الخمسة الماضية: العنب المشار إليه بالعرش وما بعده، وإن أريد الوجوب فقد أشير بالتعبير بالحصاد إلى أن الأصل في ذلك الحبوب المقتاتة، وأما غيرها فتابع علمه ببيان النبي صلى الله عليه وسلم فيطلق عليه الحصاد مجازًا.
ولما أمر الله بالأكل من ثمره وبإيتاء حقه، نهى عن مجاوزة الحد في البسط أو القبض فقال: {ولا تسرفوا} وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف، فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى شيء منها للزكاة، والإسراف في الصدقة حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئًا، ويؤيده {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]، {ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29]، ثم علله بقوله: {إنه لا يحب المسرفين} أي لا يعاملهم معاملة المحب فلا يكرمهم، وقيل لحاتم الطائي: لا خير في السرف فقال: ولا سرف في الخير. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول، وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة، ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة، وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة.
والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم، وقلة محصولهم، وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم، والاغترار بشبهاتهم فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي، وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال: {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات}.
واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة، وهو قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} [الأنعام: 99] فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع، وهي: الزرع والنخل، وجنات من أعناب والزيتون والرمان، وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب، ثم النخل، ثم الزرع، ثم الزيتون ثم الرمان وذكر في الآية المتقدمة {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ متشابه} وفي هذه الآية: {متشابها وَغَيْرَ متشابه}
ثم ذكر في الآية المتقدمة {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم، وذكر في هذه الآية: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فأذن في الانتفاع بها، وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء، فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم وههنا أذن في الانتفاع بها، وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء، والأول أولى بالتقديم، فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها. اهـ. بتصرف يسير.