فصل: تفسير الآية رقم (145):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} في نصبه ستة أوجه:
أحسنها: أن يكُون بدلًا من حملوة وفَرْشًا لولا ما نَقَله الزَّجَّاج من الإجماع المُتقدِّم، ولكن ليس فيه أنَّ ذلك مَحْصُول في الإبل، والقَوْل بالبدلِ هو قَوْل الزَّجَّاج والفرَّاء.
والثاني: أنه مَنْصُوب بـ {كُلُوا} الذي قَبْلَه أي: كُلُوا ثمانية أزْوَاج، ويكن قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا} إلى آخره كالمُعَتَرِض بين الفِعْل ومَنْصُوبه، وهو قول عَلِيّ بن سُلَيْمَان وقدَّرَه: كُلُوا لَحْم ثَمَانِية.
وقال أبو البَقَاء- رحمها لله: هو مَنْصُوب بـ {كُلُوا} تقديره: كلوا مِمَّا رزقَكُم اللَّه ثمانية أزْوَاج، {ولا تسرفوا} مُعْتَرِض بَيْنَهُما.
قال شهاب الدَّين: صوابه أن يقول: ولا تَتَّبعُوا بدل ولا تُسْرفُوا؛ لأن كُلُوا- الذي يَلِيه ولا تُسْرِفوا- ليس مُنْصَبًّا على هذا؛ لأنه بعيد منه، ولأن بَعْده ما هو أوْلَى منه بالعمل، ويحتمل أن يَكُون الناسخ غَلَط عَلَيْه، وإنما قال هو: ولا تَتَّبِعُوا؛ ويدل على ذلك أنه قال: تقديره: كُلُوا ممَّا رَزَقكُم اللَّه و{كُلُوا} الأوَّل ليس بَعْدَه {ممَّا رَزقكُم}، إنما هو بَعْد الثَّاني.
الثالث: أنه عَطْف على {جَنَّاتٍ} أي: أنْشَا ثَمَانِية أزْوَاج، ثم حُذِفَ الفِعْل وحَرْف العَطْفِ؛ وهو مذهب الكسَائِيّ.
قال أبو البقاء: وهو ضعيف.
قال شهاب الدين: الأمْر كذلك وقد سُمِع ذلك في كلامهم نَثْرًا ونَظْمًا: ففي النثر قوله: أكلتُ لَحْمًا سمَكًا تَمْرًا وفي نَظْمِهِم قول الشاعر: [الخفيف]
كَيْفَ أصْبحْتَ كَيْف أمْسَيْتَ مِمَّا ** يَزْرَعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَرِيم

أي: أكلت لَحْمًا وسمكًا وتمرًا، وكيف أصْبَحْت وكيف أمْسَيْت، وهذا على أحَدِ القولين في ذلك.
والقول الثاني: أنه بدل بداء؛ ومنه الحديث: إنَّ الرَّجُلَ لَيصَلَّى الصَّلاة، وما كُتِبَ له نِصْفُهَا ثلثُهَا رُبْعُها إلى أنْ وَصَلَ إلى العُشْرِ.
الرابع: انه مَنْصُوبٌ بفعل مَحْذُوفٍ مدلول عليه بما في اللَّفْظِ، تقديره: كُلُوا ثمانية أزْوَاج؛ وهذا أضْعَفُ مما قبله.
الخامس: أنه مَنْصُوب على الحالِ، تقديره: مُخْتَلفة أو متعدِّدَة، وصاحب الحال: الأنْعَام فالعَامِل في الحال ما تعلَّق به الجَارُّ وهو مِنْ.
السادس: أنه مَنْصُوب على البدل من محلِّ {مِمَّا رَزَقَكُم اللَّه}.

.فصل في بيان كلمة زَوْج:

الوَاحِد إذا كان وْحده فهو فَرْد، وإذا كان مَعَهُ غيره من جِنْسِه سُمِّي زَوْجًا وهما زَوْجَان؛ قال تعالى: {خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] وقال: {ثمانِيَة أزْوَاج} ثم فَسَّرها بقوله: من الضَّأنِ اثْنَيْنِ ومِن المَعْزِ اثْنَيْنِ ومِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ.
قال القرطبي: والزَّوْج: خلاف الفَرْد؛ يقال: زَوْج أو فَرْد كما يقال خَسًا أو ذَكًا، شفع، أو وترن فقوله: {ثَمَانِيَة أزْواجِ} يعني ثمانية أفراد وكُلُّ فرد عنه العرب يحتاج على آخر يُسَمَّى زوجًا، يقال للذكر: زوج وللأنثى زَوْجٌ، ويقع لَفْظُ الزَّوْج للواحد والاثْنَيْن، يقال: هما زَوْجَان وهما: زوْجٌ؛ كما يقال: هما سِيَّان وهما سَوَاء، وتقول: اشْتَرْيت زَوْجِيْ حَمَام وأنت تعني: ذكرًا وأنْثَى.
قوله: {مِنَ الضَّأنِ اثْنَيْن} في نصب {اثْنَيْنِ} وجهان:
أحدهما: أنه بَدَلٌ من {ثَمَانِيَة أزْوَاج} وهو ظَاهِر قول الزَّمَخْشَري؛ فإنه قال: والدَّلِيلُ عليه {ثَمَانِيَة أزْوَاجٍ} ثم فسَّرها بقوله: {مِنَ الضَّأنِ اثْنَيْنِ} الآية؛ وبه صرح أبُو البقاءِ فقال: واثْنيْنِ بدل من الثَّمانية وقد عُطِف عَلَيْه بقيَّة الثمانِية.
والثاني: أنه مَنْصُوب بأنْشَا مقدَّرًا؛ وهو قول الفَارِسيِّ ومِنْ تتعلَّق بما نَصَب اثْنَيْنِ.
والجُمْهُور على تسْكِين همزة {الضَّأن} وهو جَمْع ضَائِن وضائنه؛ كتاجِرٍ وتارجة وتَجْر، وصَاحِبٍ وصَاحِبَة وصَحْب، وراكب ورَكْب.
وقرأ الحسن وطلحة بن مُصَرِّف وعيسى نب عمر: الضَّأن بفتحها؛ وهو إمَّا جمع تكْسِير لضَائِنٍ؛ كما يقال: خَادِم وخَدَمن وحَارِس وحَرَس، وطالِب وطَلَب، وإما اسْمُ جمعٍ، ويجمع الضَّأنُ على ضَئِين؛ كما يقال: كَلْب وكَلِيبٌ؛ قال القائل: [الطويل]
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ** لَعَلَّي إلى أرْضِ الحَبيبِ أطِير

وقرا أبان بن عُثْمَان: اثنان بالرَّفْع على الابتداء، والخَبَر الجَارُّ قَبْلَه، وقرأ بان كثير وأبو عمرو وابنُ عامر: {المَعَز} بفتح العين والباقون بسُكُونِها، وهما لُغَتَان في جَمْع مَاعِز، وقد تقدَّم أن فَاعِلًا يجمع على فَعْلٍ تارة، وعلى فَعَل أخرى؛ كتَاجِر وتَجْر وخَادِم وخَدْم، وتقدَّم تحقيقه، ويُجْمَع أيضًا على مِعْزَى وبها قرأ أبَيٌّ، قال امْرُؤ القيس: [الوافر]
ألا إنْ لا تَكُنْ إبلٌ فَمِعْزَى ** كَأنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا العصِيُّ

وقال أبو زَيْد: إنه يَجْمَع على أمْعُوزٍ؛ وأنشد: [الكامل]
-............... ** كالتِّيْسِ فِي أمْعُوزِهِ المُتَرَبِّل

ويُجْمَع أيضًا على مَعْيز؛ وأنْشَدُوا لامرئ القيس: [الوافر]
ويَمْنَحُهَا بَنُوا شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ ** مَعِيزَهُم حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ

قال القُرْطُبِيُّ: والمعْزُ من الغَنَمِ خلاف الضَّأنِ، وهي ذَوَات الأشْعَار والأذْنَاب القَصَار، وهو اسم جِنْسٍ، وكذلك المَعَزَ والمعيزُ والأمعُوز والمِعْزى، وواحد المِعْزَ، ماعز؛ مثل صَاحِب وصَحْبٍ، والأنْثى ماعِزَة وهي العنز والجَمَع مَوَاعِز، وأمْعز القَوْمُ: كثرة مَعْزَاهُم، والمعّاز: صَاحِبُ المِعْزى والمَعَز: الصَّلابة من الأرْضِ، والأمْعَز: المكان الصُّلب الكَثِير الحَصَى، والمعزاء أيضًا، واستمعز الرَّجُل في امْر، جَدَّ، والأبل: اسمُ جَمْع لا وَاحِد له من لَفْظِه بل وَاحِده جَمَلٌ نَاقَةٌ وبَعِير، ولم يَجِيْ اسْم على فِعِل عند سيبويه غيره، وزاج غير سبويه بكِرًا وإطِلًا ووتِدًا ومِشِطًا، وسيأتي لِهَذا مَزيد بيان في سورة الغَاشِيَةِ- إن شاء الله تعالى- والنِّسَبة إليه إبَليّ بِفَتْح البَاءِ يَتَوالى كَسْرَتَانِ مع ياءَيْن.
قوله: {آلذَّكرين حَرَّمَ} آلذّكريْن: منصوب بما بَعْدَه؛ وسبب إيلائه الهمزة ما تقدَّم في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] وأم عاطفة للأنْثَيْين على الذَّكَرَيْن؛ وكذلك أمْ الثانية عَاطِفة مَا الموْصُولة على ما قَبْلَها، فمحلُّها نصب، تقديرُه: أم الَّذِي اشْتَمَلت عليه أرْحَام، فلما التقت الميم سَاكِنَةً مع ما بَعْدَها، وجب الإدْغَام.
قال القُرْطُبي: ووردَت المدَة مع أل الوصْل؛ لتفرق بين الاسْتِفْهَام والخبر، ويجوز حَذْف الهَمْزِة؛ لأن أم تَدُلُّ على الاسْتِفْهَام؛ كقوله: [المتقارب]
تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ** ومَاذَا يَضيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ

و{أمْ} في قوله تعالى: {أمْ كُنْتُم شُهَداءَ} مُنْقَطِعة ليست عَاطِفَة؛ لأن ما بَعْدَها جُمْلة مستقِلَّةٌ بنفسها فتُقَدَّر ببَلْ والهمزة، والتَّقْدِير: بل أكُنْتُم شُهَدَاء، وإذا: مَنْصُوب بـ {شُهَدَاء} أنكر عَلَيْهم ما ادَّعُوه، وتهَكَّم بهم في نِسْبتهم إلى الحُضُور في وَقْتِ الإيصَاءِ بذلك، وبهذا: إشارة إلى جَمِيع ما تقدَّم ذكره من المُحَرَّمات عندهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (145):

قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما تضمن قوله افتراء عليه افتراء على الله والتعبير في ذلك كله بالاسم الأعظم أن كون التحريم ليس إلاّ من الله أمر معلوم ليس موضعًا للشك لأنه الملك الأعظم ولا حكم لغير الملك، ومن حكم عن غير أمره عذب؛ حسن بعد إبطال دينهم والبيان لأن من حرم شيئًا بالتشهي مضل وظالم قولُه مبينًا البيان الصحيح لما يحل ويحرم جوابًا لمن يقول: فما الذي حرمه سبحانه وما الذي أحله: {قل} معلمًا بأن التحريم لا يثبت إلاّ بوحي من الله: {لا أجد} أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، فإن لا كلمة لا تدخل على مضارع إلاّ وهو بمعنى الاستقبال {في ما}.
ولما كان ما آتاه صلى الله عليه وسلم قد ثبت بعجزهم عن معارضته أنه من الله، بني للمفعول قوله: {أوحي إليّ} أي من القرآن والسنة شيئًا مما تقدم مما حرمتموه مطلقًا أو على حال دون حال وعلى ناس دون آخرين طعامًا {محرمًا على طاعم} أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى {يطعمه} أي يتناوله أكلًا وشربًا أو دواء أو غير ذلك {إلا أن يكون} أي ذلك الطعام {ميتة} أي شرعًا، والميتة الشرعية هي ما لا يقبل التذكية، وهو كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية {أو دمًا مسفوحًا} أي مراقًا من شأنه السيلان لا من شأنه الجمود كالكبد والطحال.
ولما كان النصارى قد اتخذوا أكل الخنزير دينًا، نص عليه وإن كان داخلًا في قوله ميتة على ما قررته في المراد بها، وقال: {أو لحمِ خنزير} ليفيد تحريمه على كل حال سواء ذبح أم لا، ولو قيل: أو خنزيرًا لاحتمل أن يراد تحريم ما أخذ منه حيًا فقط، وقال: {فإنه} أي الخنزير {رجس} ليفيد نجاسة عينه وهو حي، فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى، وكل ما وافقه في هذه العلة كان نجسًا، لا يعاد الضمير على اللحم لأنه قد علمت نجاسته من تحريمه لعينه، فلو عاد عليه كان تكرارًا.
ولما ذكر المحرم لعينه ذكر المحرم لعارض، فقال مبالغًا في النفي عنه بأن جعله نفس المعنى الذي وقع النهي لأجله: {أو فسقًا} أي أو كان الطعام خروجًا مما ينبغي القرار فيه من فسيح جناب الله الذي من توطنه أمن واهتدى وسلم من ضيق الهوى في ذكر الغير الذي من خرج إليه خاف وضل، وهلك وتوى؛ ثم قال مفسرًا له مقدمًا لما هو داخل في الفسق من الالتفات إلى الغير: {أهل لغير الله} أي الذي له كل شيء لأن له الكمال كله {به} أي ذكر غير اسمه عليه بأن ذبح له تدينًا؛ ثم ذكر لطفه بهذه الأمة في إباحته لهم في حال الضرورة كل محرم رحمة منه لهم وسترًا لتقصيرهم فقال: {فمن اضطر} أي حصل له جوع خشي منه التلف، وبني للمفعول لأن المعتبر حصول الاضطرار لا كونه من معين، ومن التعبير بذلك تؤخذ حرمة ما زاد على سد الرمق لأنه حينئذٍ لا يكون مضطرًا {غير باغ} أي على غيره بمكيدة {ولا عاد} أي على غيره بقوته ولا متجاوز سد الضرورة {فإن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وإلى أمتك الضعيفة بجعل دينها الحنيفية السمحة {غفور} أي يمحو الذنب إذا أراد {رحيم} أي يكرم المذنب بعد الغفران بأنواع الكرامات، فهو جدير بأن يمحو عن هذا المضطر أثر تلك الحرمة التي كدرها ويكرمه بأن يجعل له- في حفظه بذلك لنفسه إذا صحت فيه نيته- أجرًا عظيمًا، وقد تكلفت الآية على وجازتها بجميع المحرمات من المأكولات مع الإشارة بلفظ الرجس والفسق إلى جميع أصناف المحرمات وإلى أن ارتكابها موجب للخبث والانسلاخ من الخير، وذلك هو سبب تحريمها؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة: وجه إنزال هذا الحرف- أي حرف الحرام- طهرة الخلق من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم، فما اجتمعت فيه كان أشد تحريمًا وما وجد فيه شيء منها كان تحريمه بحسب تأكد الضرورة إلى طهرته، وكما اختلف أحوال بني آدم بحسب اختلاف طينتهم من بين خبيث وطيب وما بين ذلك، اختلف أحوالهم فيما به تجدد خلقهم من رزقهم، فمن اغتذى بدنه من شيء ظهرت أخلاق نفس ذلك المغتذى به وأوصافه في نفسه، ورين على القلب أو صفاء، لتقويه بما يسمى عليه من ذكر الله أو كفر به بذكر غيره، وجامع منزله على حده من استثناء قليله من متسع الحلال قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا} [الأنعام: 125] هذا لمضرته بالبدن {أو لحم خنزير} وهذا لتخبيثه للنفس وترجيسه لها كما قال تعالى: {فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به} وهذا لرينه على القلب، وهذه الآية مدنية وأثبتها تعالى في سورة مكية إشعارًا بأن التحريم كان مستحقًا في أول الدين ولكن أخر إلى حين اجتماع جمة الإسلام بالمدينة تأليفًا لقلوب المشركين وتيسيرًا على ضعفاء الدين الذين آمنوا واكتفاء للمؤمنين بتنزههم عن ذلك وعما يشبهه استبصارًا منهم حتى أن الصديق رضي الله عنه كان قد حرم الخمر على نفسه في زمن الجاهلية لما رأى فيها من نزف العقل، فكيف بأحوالهم بعد الإسلام! وألحق بها في سورة {الذين آمنوا} ما كان قتله سطوة من غير ذكر الله عليه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما أدرك بالتذكية المنهرة للدم الموصل في التحريم لفساد مسفوحه بما هو خارج عن حد الطعام في الابتداء والأعضاء في الانتهاء المستدركة ببركة التسمية أثر ما أصابها من مفاجأة السطوة، وألحق بها أيضًا في هذه السورة تحريم الخمر لرجسها كالخنزير كما ألحقت المقتولة بالميتة، وكما حرم الله ما فيه جماع الرجس من الخنزير وجماع الإثم من الخمر حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه حظ من ذلك، فألحق بالخنزير السباع حماية من سورة غضبها لشدة المضرة في ظهور الغضب من العبيد لأنه لا يصلح إلاّ لسيدهم، وحرم الحمر الأهلية حماية من بلادتها وحرانها الذي هو علم غريزة الخرق في الخلق، وألحق صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر التي سكرها مطبوع تحريمَ المسكر الذي سكره مصنوع، وكما حرم الله ما يغر العبد في ظاهره وباطنه حرم عليه فيما بينه وبينه ما يقطعه عنه من أكل الربا، والربا بضع وسبعون بابًا والشرك مثل ذلك، وجامع منزله في قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا} إلى قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275] إلى انتهاء ذكره إلى ما ينتظم من ذلك في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة} [آل عمران: 113]- الآية ما يلحق بذلك في قوله: {وما آتيتم من ربا} [الروم: 39]- الآية، هكذا قال: إن هذه الآية مدنية، وهو- مع كوني لم أره لغيره- مشكل بقوله: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} [الأنعام: 119]- الآية.
ولما كان تحريم الربا بين الرب والعبد، كان فيه الوعيد بالإيذان بحرب من الله ورسوله، ولذلك حمت الأئمة ذرائعه أشد الحماية، وكان أشدهم في ذلك عالم المدينة حتى أنه حمي من صورته من الثقة بسلامة الباطن منه، وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين العبد ونفسه، وكما حرم الله الربا فيما بينه وبين عبده من هذا الوجه الأعلى كذلك حرم أكل المال بالباطل فيما بين العبد وبين غيره من الطرف الأدنى، وجامع منزله في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} [البقرة: 188]- الآية إلى ما ينتظم به من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] إلى ما ينتظم به من قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النسا: 2]- الآيات في أموال اليتامى، فحرمه تعالى من جهة الأعلى والمثيل والأدنى، وانتظم التحرير في ثلاثة أصول: من جهة ما بين الله وبين عبده ومن جهة ما بين العبد وبين نفسه، ومن جهة ما بين العبد وبين غيره، مما تستقرأ جملة آية في القرآن وأحاديثه في السنة ومسائله في فقه الأئمة؛ ولما كان له متسع، وقع فيما بين الحلال البين والحرام البين أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، لأنها تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه، فلوقوعها بينهما يختلف فيها ولعرضه في الأولى، وعن حماية الله عباده عن وبيل الحرام تحقق لهم اسمه الطيب، فلم يتطبب بطب الله من لم يحتم عن محرماته ومتشابهاتها، وهو الورع الذي هو ملاك الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف الحرام تمامًا في العلم والحال والعمل: اعلم أن الإنسان لما كان خلقًا جامعًا كانت فيه بزرتان: بزرة للخير وبزرة للشر، وبحسب تطهره وتخلصه من مزاحمة نبات بزرة الشر تنمو فيه وتزكو بزرة الخير، ولكل واحدة من البزرتين منبت في جسمه ونفسه وفؤاده، فأول الحروف في الترتيب العمل، والأساس لما بعده هو قراءة حرف الحرام، لتحصل به طهرة البدن الذي هو السابق في وجود الإنسان فمن غذي بالحرام في طفولته لم يقدر على اجتناب الآثام في كهولته إلا أن يطهر الله بما شاء من نار الورود في الدنيا من الأمراض والضراء، فهو الأساس الذي ينبني عليه تطهر النفس من المناهي وتطهر الفؤاد من العمه والمجاهل، والذي تحصل به قراءة هذا الحرف هو الورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق وما يغضب الرب، فمن أصاب شيئًا من ذلك ولم يبادر إليه بالتوبة عذب بكل آية قرأها وهو مخالف لحكمها من لم يبال من أيّ باب دخل عليه رزقه لم يبال الله من أيّ باب أدخله النار.