فصل: تفسير الآية رقم (158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالصّدق في الأَقوال: استواءُ اللسان على الأَقوال؛ كاستواءِ السُّنبلة على ساقها.
والصّدقُ في الأَعمال: استواء الأَفعال على الأَمر والمتابعة؛ كستواءِ الرّأْس على الجَسَد.
والصّدق في الأَحوال: استواءُ أَعمال القلب والجوارح على الإِخلاص، واستفراغ الوُسْع، وبذل الطاقة؛ فبذلك يكون العبد من الذين جاءُوا بالصّدق.
وبحسب كمال هذه الأُمور فيه، وقيامِها به تكون صِدّيقيّته، ولذلك كان لأبي بكر الصّدّيق ذروة الصّدّيقيّة، حتى سُمّى الصّدّيق على الإِطلاق.
والصّدّيق أَبلغ من الصَّدُوق، والصَّدُوق أَبلغ من الصَّادق، فأَعلى مراتب الصدق مرتبة الصدّيقيّة، وهى كمال الانقياد للرّسول، مع كمال الإِخلاص للمرسِل.
وقد أَمَر سبحانه رسوله أَن يسأَله أَن يجعل مُدْخله ومُخرجه على الصّدق، فقال: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا}.
وأَخبر عن خليله إِبراهيم عليه السّلام أَنَّه سأَله أَن يجعل له لسان صِدق في الآخِرين.
وبشَّر عباده أَنَّ لهم قَدَم صِدق، ومقعد صدق؛ فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}، وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ}.
فهذه خمسة أَشياء: مدخل الصّدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصّدق، وقَدَم الصّدق.
وحقيقة الصّدق في هذا الأَشياءِ هو الحقّ الثَّابت المتَّصل بالله، الموصِّل إِلى الله، وهو ما كان به وله من الأَعمال والأَقوال.
وجزاءُ ذلك في الدّنيا والآخرة.
فمُدخَل الصّدق ومُخرَج الصّدق أَن يكون دخوله وخروجه حقًّا ثابتًا لله تعالى ومرضاتِه.
متَّصلا بالظَّفر ببغيته، وحصول المطلوب، ضِدّ مُخرَج الكذب ومُدخله الذي لا غاية له يوصّل إِليها، ولا له ساقٌ ثابتة يقوم عليها؛ كمُخرَج أَعدائه يوم بدر.
ومُخرج الصّدق كمخرجه هو وأَصحابه في ذلك الغَزْو.
وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله والله وابتغاءَ مرضاة الله، فاتَّصل به التَّأْييدُ، والظفر، والنَّصر.
وإِدراك ما طلبه في الدّنيا والآخرة؛ بخلاف مدخل الكذب الذي رام أَعداؤه أَن يدخلوا به المدينة يوم الأَحزاب؛ فإِنَّه لم يكن بالله ولا لله بل محادّة لله وسوله، فلم يتَّصل به إِلاَّ الخِذلانُ والبوار، وكذلك مدخل مَنْ دخل من اليهود والمحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حِصن بنى قُرَيطة؛ فإِنَّه لمّا كان مدخل كذب أَصابهم منه ما أصابهم.
وكلّ مدخل ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله، فهو مدخل صدق ومخرج صدق، ولذلك فُسّر مدخل الصّدق ومخرجه بخروجه من مَكة، ودخوله المدينة.
ولا ريب أَنَّ هذا على سبيل التَّمثيل؛ فإِنَّ هذا المدخل والمخرج من أَجلّ مداخله ومخارجه صلَّى الله عليه وسلَّم، وإِلاَّ فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق.
إذ هي بالله، ولله، وبأَمره، ولابتغاءِ مرضاته.
وما خرج أَحد من بيته أَو دخل سُوقًا أَو مَدْخلا آخر إِلاَّ بصدق أَو كذِب.
فمدخل كلّ أَحد ومخرجه لا يَعْدُو الصّدق والكذب والله المستعان.
وأَمّا لسان الصّدق فهو الثناءُ الحسن من سائر الأُمم بالصّدق ليس بِالكذب؛ كما قال عن أَنبياء: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}، والمراد باللسان هاهنا الثناءُ الحسن، فلمّا كان باللسان وهو محلّه عبّر عنه به؛ فإِنَّ اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا، واللغة كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}، {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ}، {وَهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ}، ويراد به الجارحة نفسها كقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}.
وأَمَّا قدم الصّدق ففُسِّر بالجنة، وفسّر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وفُسّر بالأَعمال الصّالحة.
وحقيقة القدم: ما قدّموه، ويقدَمون عليه يوم القيامة، وهم قدّموا الأَعمال والإِيمان بمحمّد صلَّى الله عليه وسلم، ويقدَمون على الجنة؛ ومَن فسّر بالأَعمال وبالنبي صلَّى الله عليه وسلم فلأَنَّهم قدّموها، وقدّموا الإِيمان به بين أَيديهم.
وأَمّا مقعد صدق فهو الجنَّة عند ربّهم تبارك وتعالى.
ووصْف ذلك كلِّه بالصّدق مستلزم ثبوتَه واستقراره، وأَنَّه حقّ، ودوامَه ونفعه وكمال عائدته؛ فإِنَّه متَّصل بالحقّ سبحانه، كان به وله.
فهو صدقٌ غير كذب، وحَقّ غير باطل، ودائم غير زائل، ونافع غير ضارّ، ما للباطل ومتعلقاته إِليه سبيل ولا مدخل.
ومن علامات الصّدق طُمأْنينة القلب إِليه، ومن علامات الكذب حصول الرِّيبة؛ كما في الترمذىّ مرفوعًا: «الصّدق طمأْنيننة، والكذب ريبة»، وفى الصّحيحين: «إِنَّ الصّدق يَهدى إِلى البرّ، وإِنَّ البرّ يهدى إِلى الجنَّة، وإِنَّ الرّجل لَيَصْدُقُ حتى يُكتب عند الله صِدّيقًا، وإِنَّ الرّجل لَيَكْذبُ حتى يكتب عند الله كَذَّابًا»، فجعل الصّدق مفتاح الصّدّيقيّة ومبدأَها، وهى غايته، فلا يَنال درجتَها كاذبٌ البتَّة، لا في قوله، ولا في عمله، ولا في حاله.
ولاسيما كاذبٍ على الله في أَسمائه وصفاته، بنفى ما أَثبته لنفسه، أَو بإِثبات ما نفاه عن نفسه، فليس في هؤلاءِ صِدّيق أَبدًا.
وكذلك الكذب عليه في دينه، وشَرْعه بتحليل ما حرّمه، وتحريم ما أَحلَّه، وإِسقاط ما أَوجبه، وإِيجاب ما أَسقطه، وكراهة ما أَحبّه، واستحباب مالم يحبّه، كلّ ذلك مُنافٍ للصّدّيقيّة.
وكذلك الكذب معه في الأَعمال بالتَّحلِّى بحِلْية الصّادقين المخلِصين، الزاهدين المتوكلِّين وليس منهم.
وكانت الصّدّيقيّة كمال الإِخلاص، والانقياد والمتابعة في كلّ الأُمور؛ حتى إِنّ صِدْق المتبايِعَيْن يُحلّ البركة في بيعهما، وكذبهما يَمْحَى بركة بيعهما؛ كما في الصّحيحين: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: «البيّعان بالخيار مالم يتفرّقا، فإِنْ صَدَقَا وبَيّنا بُورِكَ لهما بيعهما، وإِن كَذَبا وكتما مُحِقَت بركة بيعهما».
وقد تَنوَّعَتْ كلمات السّادة في حقيقة الصّدق.
فقال عبدالواحد ابن زيد رحمه الله: الصّدق الوفاءُ لله بالعمل.
وقيل: موافقة السرّ النطقَ.
وقيل: استواءُ السرّ والعلانية، يعنى أَنَّ الكاذب علانيته خير من سريرته؛ كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه.
وقيل: الصّدق: القول بالحقّ في مَوَاطن الهَلَكة.
وقيل: كلمة الحقّ عند من يخافه ويرجوه.
وقال الجُنَيد: الصادق يتقلّب في اليوم أَربعين مرّة.
المرائى يثبت على حالة واحدة أَربعين سنة.
وذلك لأَنَّ العارضات والواردات التي ترِد على الصّادق لا ترد على الكذَّاب المرائى، بل فارغ منهما لا يُعارضه الشَّيطان كما يعارض الصّادق، وهذه الواردات توجب تقلّب قلبِ الصّادق بحسب اختلافها وتنوّعها، فلا تراه إِلاَّ هاربًا مِن مكانٍ إِلى مكان، ومن عملٍ إِلى عمل، ومن حالٍ إِلى حال؛ لأَنَّه يخاف في كلّ ما يطمئنّ إِليه أَن يقطعه عن مطلوبه.
وقال بعضهم: لم يشمّ روائح الصّدق مَنْ داهن نفسه أَو غيره.
وقال بعضهم: الصّادق: الذي يتهيّأُ له أَن يموت ولا يستحى مِن سِرّه لو كُشف.
قال تعالى: {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وقال إِبراهيم الخوّاص: الصّادق لا يُرَى إِلاَّ في فَرض يؤدّيه، أو فضل يعمل فيه.
وقال الجنيد مرّة: حقيقة الصّدق أَن تَصدُق في مواطن لا ينجيك منها إِلا الكذب.
وفى أَثَرٍ إِلَهىّ: مَن صَدَقنى في سريرته صدَقته في علانيته عند خَلْقى.
وقال سهل: أَوّل خيانة الصّديقين حديثهم مع أَنفسهم.
وقال يوسف بن أَسباط: لأَنْ أَبيتَ ليلة أُعامل الله بالصّدق أَحَبّ إلىّ من أَن أُحارب بسيفى في سبيل الله.
وقال الحارث المحاسبىّ: الصّادق: هو الذي لا يبالى لو خرج كلّ قَدْر له في قلوب الخَلْق من أَجل صلاح قلبه، ولا يحبّ اطِّلاع النَّاس على مثاقيل الذَّر من حُسن عمله، ولا يكره أَن يطَّلع النَّاس على السَيئ من عمله، فإِن كراهته له دليل على أَنه يحبّ الزيادة عندهم، وليس هذا من علامات الصّدِّيقين.
هذا إِذا لم يكن له مراد سوى عمارة حاله عندهم، وسكناه في قلوبهم تعظيمًا له.
وأَمّا لو كان مراده بذلك تنفيذًا لأَمر الله، ونشرًا لدينه، ودعوة إِلى الله، فهذا الصادق حقًّا، والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها.
وقال بضعهم: مَن لم يؤدّ الفَرْض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت.
قيل: وما الفرض الدّائم؟ قال: الصّدق.
وقيل: مَن يطلب الله بالصْدق أَعطاه مِرآة يبصر فيها الحقّ والباطل.
وقيل: عليك بالصّدق حيث تخاف أَنَّه يضرّك، ودع الكذب حيث تراه أَنَّه ينفعك؛ فإِنَّه يضرّك.
وقال الشيخ عبدالله الأَنصارى: الصّدق اسم لحقيقة الشيء، حُصُولًا ووجودًا.
والصّدق: هو حصول الشيء وتمامه، وكمال قوّته واجتماع أَجزائه كما يقال: عزيمة صادقة إِذا كانت قوّية تامّة، وكذلك محبّة صادقة، وإِرادة صادقة.
وكذلك حلاوة صادقة إِذا كانت قويّة تامة ثابتة الحقيقة، لم ينقص منها شيء.
ومن هذا أَيضا صِدْق الخبر؛ لأَنَّه وجود المخبَرِ به بتمام حقيقته في ذهن السّامع.
وهوعلى ثلاث درجات:
الأُولى: صِدْق القَصد، وبه يصحّ الدّخول في هذا الشأْن، ويُتلافَى كلّ تفريط ويُتدارك كلّ فائت، ويعمر كلّ خراب.
وعلامة هذا الصادق أَلاَّ يحتمل داعيةً يَدعو إِلى نقض عهد، ولا يصبر على صحبة ضِدّ، ولا يقعد عن الجدّ بحال.
والدّرجة الثَّانية: أَلاَّ يتمنىَّ الحياة إِلاَّ للحقّ، ولا يشهد من نفسه إِلاَّ أَثر النقصان، ولا يلتفت إِلى ترفيهِ الرُّخَص، أي لا يحب أَن يعيش إِلاَّ في طلب رضا محبوبه، ويقوم بعبوديّته، ويستكثر من الأَسباب التي تقربّه منه، ولا يلتفت إِلى الرفاهية التي في الرُّخَص، بل يأْخذ بها اتِّباعًا وموافقةً، وشهودًا لنعمة الله على عبده، وتعبّدًا باسمه: اللطيف المحسن الرّفيق، وأَنَّه رفيق يحبّ الرّفق.
الدّرجة الثالثة: الصِّدق في معرفة الصّدق.
يعنى أَنَّ الصّدق المحقِّق إِنما يحصل لمن صَدَقَ في معرفة الصدق، أي لا يحصل حال للصّادق إِلاَّ بعد معرفة الصّدق، ولا يستقيم الصّدق في علم أَهل الخصوص إِلاَّ على حرفٍ واحد، وهو أَن يتَّفق رضا الحقّ بعمل العبد وحاله ووقته، وإِيقانه وقصده.
وذلك أَنَّ العبد إِذا صَدَق اللهَ رضى اللهُ بفعله وبعمله، وحاله ويقينه وقصده، لا أَن رضا الله نفس الصّدق، وإِنما يعلم الصّدق بموافقة رضاه سبحانه.
ولكن من أَين يَعلم العبد رضاه؟! فمن هاهنا كان الصّادق مضطرًّا أَشدّ ضرورة إِلى متابعة الأَمر والتسليم للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في ظاهره وباطنه، والتَّعبُّد به في كلّ حركة وسكون، مع إِخلاص القصد لله؛ فإِنَّ الله سبحانه لا يُرضيه من عبده إِلاَّ ذلك.
وقوله: {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ}، أي يسأَل مَن صدّق بلسانه عن صِدق فعله.
وقوله: {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} أي حَقَّقُوا العهد بما أَظهروه من أَفعالهم.
والصّداقة: صِدق الاعتقاد في المودّة، وذلك مختصّ بالإِنسان.
وقولُه: {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} إِشارة إِلى قوله: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}.
والصّدَقة: ما يُخرجه الإِنسان من ماله على وجه القُرْبة؛ كالزَّكاة لكن الصّدقة في العرف تقال للمتطوَّع به، والزكاة للواجب.
وقيل: سمّى الواجب صدقة إِذا تحرَّى صاحبُه الصّدق في فعله، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.
يقال: صدّق وتصدّق.
ويقال لِما تجافى عنه الإِنسان من حقه: تصدُّق؛ نحو قوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي مَن تحجافى عنه.
وقوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
أَجرى ما يُسامَح به المعسِر مُجرى الصّدقة، وعلى هذا قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}، فسمّى إِعفاءَه صَدَقَة.
وقوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} من الصّدق أَو من الصّدقة.
وصَدَاق المرأَة وصِدَاقها- بالكسر- وصَدُقتها- بضم الدّال: ما تعطَى من مهرها.
وقد أَصدقتها. اهـ.

.تفسير الآية رقم (158):

قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان أسوأ السوء حقوق العذاب، وكان حقوقه بعدم قبول التوبة، فسره بقوله مهونًا له ومسهلًا بتجريد الفعل: {هل ينظرون} أي ما ينتظرون هؤلاء المكذبون أدنى انتظار وأقربه وأيسره {إلا أن تأتيهم} أي حال تكذيبهم {الملائكة} أي بالأمر الفيصل من عذابهم كما هي عادتها في إتيانها المكذبين {أو يأتي ربك} أي ظهور أمر المحسن إليك أتم ظهور بجميع الآيات التي تحملها العقول وذلك يوم الجزاء {أو يأتي} وأبهم تهويلًا للأمر وتعظيمًا فقال: {بعض آيات ربك} أي أشراط الساعة التي يكون فيها ظهوره التام وإحسانه إليك الأعظم مثل دابة الأرض التي تميز الكافر من المؤمن وطلوع الشمس من مغربها المؤذن بإغلاق باب التوبة؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل»، ثم قرأ الآية.
ولما كان إتيان الملائكة- أي كلهم أمرًا لا يحتمل العقول وصف عظمته، ولا بشرى للمجرمين عند رؤيته، فإنه لو وقع على صورتهم لتقطعت أوصالهم ولم يحتمله قواهم فقضي الأمر ثم لا ينظرون، وأما تجلي الرب سبحانه وعز اسمه وجلت عظمته.
فالأمر أعظم من مقالة قائل ** إن رقق البلغاء أو إن فخموا

ترك ما يترتب عليه وقال: {يوم يأتي} أي يكشف ويظهر {بعض آيات ربك} أي المحسن إليك بالإتيان بذلك تصديقًا لك وترويعًا وتدميرًا لمخالفيك {لا ينفع نفسًا} أي كافرة {إيمانها} أي إذ ذاك، ولا نفسًا مؤمنة كسبها الخير إذ ذاك في إيمانها المتقدم على تلك الآية بالتوبة فما وراءها، ولذلك بينه وبقوله واصفًا نفسًا: {لم تكن} أي الكافرة {آمنت} ويسر الأمر ببعض زمان القبل، ولم يكلف باستغراقه بالإيمان فقال: {من قبل} أي قبل مجيء الآية في زمن متصل بمجيئها.
ولما ذكر الكافرة، أتبعها المؤمنة فقال عاطفًا على {آمنت}: {أو} لم تكن المؤمنة العاصية {كسبت} أي من قبل {في إيمانها} أي السابق على مجيء الآية: {خيرًا} أي توبة، وبعبارة أخرى: نفسًا كافرة إيمانها المجدد بعد مجيء الآية، وهو معنى {لم تكن آمنت من قبل} أو نفسًا مؤمنة كسبها الخير بعد مجيء الآية ما لم تكن كسبت في إيمانها السابق على الآية خيرًا، والحاصل أنه لا يقبل عند ذلك إيمان كافر ولا توبة فاسق- كما قاله البغوي- لأن المقصود من التصديق والتوبة الإيمان بالغيب وقد فات بالآية الملجئة، فيكون فاعل الفعل المقدر في {كسبت} محذوفًا، والتقدير: لا ينفع نفسًا لم تكن آمنت من قبل، أو لم تكن كسبت في إيمانها خيرًا إيمانها وكسبها، فالإيمان راجع إلى من لم يؤمن، والكسب راجع إلى من لم يكسب، وهو ظاهر، والتهديد بعدم نفع الإيمان عند مجيء الآية أعظم دليل على ما ذكرته من التقدير، والآية من الاحتباك: ذكر إيمانها أولًا دليل على حذف كسبها من الجملة الثانية، وذكر جملتي آمنت وكسبت ثانيًا دال على حذف كافرة ومؤمنة أولًا. اهـ.