فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
هذا استئناف مكرّر لما قبله، وهو تدرّج في الغرض المشترك بينها من أنّ الشرك بالله متوعّد صاحبه بالعذاب وموعود تاركه بالرحمة.
فقوله: {أغير الله أتّخذ وليًّا} [الأنعام: 14] الآية رفض للشرك بالدليل العقلي، وقوله: {قل إنّي أمرت أن أكون أوّل من أسلم} [الأنعام: 14] الآية، رفض للشرك امتثالًا لأمر الله وجلاله.
وقوله هنا: {قل إنّي أخاف} الآية تجنّب للشرك خوفًا من العقاب وطمعًا في الرحمة.
وقد جاءت مترتّبة على ترتيبها في نفس الأمر.
وفهم من قوله: {إن عصيت ربّي} أنّ الآمر له بأن يكون أول من أسلم والناهي عن كونه من المشركين هو الله تعالى.
وفي العدول عن اسم الجلالة إلى قوله: {ربّي} إيماء إلى أنّ عصيانه أمر قبيح لأنّه ربّه فكيف يعصيه.
وأضيف العذاب إلى {يوم عظيم} تهويلًا له لأنّ في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق وانهزام فريق من المحاربين، فيكون اليوم نكالًا على المنهزمين، إذ يكثر فيهم القتل والأسر ويسام المغلوب سوء العذاب، فذكر {يوم} يثير من الخيال مخاوف مألوفة، ولذلك قال الله تعالى: {فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنّه كان عذاب يوم عظيم} [الشعراء: 189] ولم يقل عذاب الظلّة أنّه كان عذابًا عظيمًا.
وسيأتي بيان ذلك مفصّلًا عند قوله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن} في سورة التغابن (9)، وبهذا الاعتبار حسَن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب، لأنّ عظمة اليوم العظيم تستلزم عظم ما يقع فيه عرفًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}.
إنه الرسول المصطفى والمجتبى والمعصوم يعلن أنه يخاف الله؛ لأن قدر الله لا يملكه أحد، ولا يغير قدر الله إلا الله سبحانه وتعالى. وقد علق الخوف على شرط هو عصيان الله. لكن ما دام لم يعص ربه فهو لا يخاف. ووجود إن يدل على تعليق على شرط ولا يتأتى ذلك من الرسول المعصوم لأنه لا يعصي الله.
وقد أراد الحق أن يبين لنا أن المعصوم لا يتأتى منه عصيان الله. لكن هذا القول يأتي على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعلم أن هناك عذابًا عظيمًا توعد به الله من يعصيه. وهو عذاب يلح على العاصي حتى يأتي إليه. ولهذا العذاب خاصية أن تكون بينه وبين العاصي جاذبية كجاذبية المغناطيس لغيره من المواد. ونجاة الإنسان من العذاب تحتاج إلى من يصرف عنه هذا اللون القاسي من العذاب، يقول الحق سبحانه عنه: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فعبدت غيره {عذاب يوم عظيم} أي عذاب يوم القيامة، و{إنْ عصيت} شرط حُذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضيًا، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان:
أحدهما: أنه معترضٌ بين الفِعْلِ، وهو {أخاف} وبين مفعوله وهو {عذاب}.
والثاني: أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال.
قال أبو حيَّان: كأنه قيل: إني أخافُ عَاصٍيًا ربِّي ن وفيه نظر؛ إذ المعنى يَأبَاهُ.
و{أخَافُ} وما في حَيِّزِه خبر لـ {إنَّ}، وإنَّ وما في حيِّزِهَا في مَحَلّ نصب بـ {قل} وقرأ ابن كثيرِ، ونافع {إنِّيَ} بفتح الياء، وقرأ أبو عمرو، والباقون بالإرسال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} أي إنِّي بعجزي متحقق، ومن عذاب ربي مُشْفِق، وبمتابعة أمره مُتَخَلِّقٌ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (16):

قوله تعالى: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان قد قدم من عموم رحمته ما أطمع الفاجر ثم أيأسه من ذلك بما أشير إليه من الخسارة، صرح هنا بما اقتضاه ذلك المتقدم، فقال واصفًا لذلك العذاب مبينًا أن الرحمة في ذلك اليوم على غير المعهود الآن، فإنها خاصة لا عامة دائمة السبوغ على من نالته، لا زائلة وكذا النعمة، هكذا شأن ذلك اليوم {من يصرف عنه} أي ذلك العذاب؛ ولما كان المراد دوام الصرف في جميع اليوم، قال: {يومئذ} أي يوم إذ يكون عذاب ذلك اليوم به {فقد رحمه} أي فعل به بالإنعام عليه فعل المرحوم {وذلك} أي لا غيره {الفوز} أي الظفر بالمطلوب {المبين} أي الظاهر جدًا، ومن لم يصرف عنه فقد أهانه، وذلك هو العذاب العظيم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي {يُصْرَفْ} بفتح الياء وكسر الراء.
وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير العائد إلى ربي من قوله: {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} [الأنعام: 15] والتقدير: من يصرف هو عنه يومئذ العذاب.
وحجة هذه القراءة قوله: {فَقَدْ رَحِمَهُ} فلما كان هذا فعلًا مسندًا إلى ضمير اسم الله تعالى وجب أن يكون الأمر في تلك اللفظة الأخرى على هذا الوجه ليتفق الفعلان، وعلى هذا التقدير: صرف العذاب مسندًا إلى الله تعالى، وتكون الرحمة بعد ذلك مسندة إلى الله تعالى، وأما الباقون فإنهم قرؤا {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} على فعل ما لم يسم فاعله، والتقدير من يصرف عنه عذاب يومئذ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى أضاف الغذاب إلى اليوم في قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الإنعام: 15] فلذلك أضاف الصرف إليه.
والتقدير: من يصرف عنه عذاب ذلك اليوم. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} أي من يصرف العذاب عنه فنائب الفاعل ضمير العذاب، وضمير {عَنْهُ} يعود على {مِنْ}، وجوز العكس أي من يصرف عن العذاب.
و{مِنْ} على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف، والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو بمحذوف وقع حالًا من الضمير.
وجوز أن يكون نائب الفاعل.
وهل يحتاج حينئذٍ إلى تقدير مضاف أي عذاب يومئذٍ أم لا؟ فيه خلاف فقيل: لابد منه لأن الظرف غير التام أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل إلا بتقدير مضاف و{يَوْمَئِذٍ} له حكمه.
وفي الدر المصون لا حاجة إليه لأن التنوين لكون عوضًا يجعل في قوة المذكور خلافًا للأخفش.
وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوض عن جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك، والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب؛ وجوز أن تكون صفة {عَذَابِ}.
وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم {مَّن يُصْرَفْ} على أن الضمير فيه لله تعالى.
وقرأ أبي {مَّن يُصْرَفْ الله} بإظهار الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو {يَوْمَئِذٍ} بحذف المضاف أو يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه، و{مِنْ} في هذه القراءة أيضًا مبتدأ.
وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيرًا للمحذوف، وأن يجعل منصوبًا بيصرف ويجعل ضمير {عَنْهُ} للعذاب أي أي إنسان يصرف الله تعالى عنه العذاب.
{فَقَدْ رَحِمَهُ} أي الرحمة العظمى وهي النجاة كقولك: إن أطعمت زيدًا من جوعة فقد أحسنت إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه، وعلى هذا يكون الكلام من قبيل من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك و«من كانت هجرته إلى الله تعالى» الخبر، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل، وقيل: المراد فقد أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن إدخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب.
ونقض بأصحاب الأعراف، وأجيب بأن قوله تعالى: {وَذَلِكَ الفوز المبين} حال مقيدة لما قبله، والفوز المبين إنما هو بدخول الجنة لقوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران؛ 185] وأنت تعلم أنه إذا قلنا: إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمنين كما هو أحد الأقوال لا يرد النقض، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وما ذكر من الجواب مبني على ما لا يخفى بعده، والداعي إلى التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم.
وقال بعض الكاملين: إن ما في النظم الجليل نظير قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه» يعني بالشراء المذكور، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب، ولك أن تقول: إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الإخبار.
وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لابد من تغايرهما معنى، والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن المراد لا يجزيه أصلًا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال.
وأما كون الجواب ماضيًا لفظًا ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان لعراقتها في المضي. اهـ. فليفهم.
والإشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن {يُصْرَفْ} وإما إلى الرحمة، وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل.
ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو على ما في القاموس بمعنى الرحمة.
ومعنى البعد للإيذان بعلو درجة ما أشير إليه، والفوز الظفر بالبغية، وأل لقصره على المسند إليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {من يصرف عنه يومئذٍ فقد رحمه} جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة ل {عذاب}.
و{يصرف} مبني للمجهول في قراءة الأكثر، على أنّه رافع لضمير العذاب أو لضمير {من} على النيابة عن الفاعل.
والضمير المجرور بعن عائد إلى {مَن} أي يصرف العذاب عنه، أو عائد إلى العذاب، أي من يصرف هو عن العذاب، وعلى عكس هذا العود يكون عود الضمير المستتر في قوله: {يصرف}.
وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف {يصرف} بالبناء للفاعل على أنّه رافع لضمير {ربّي} على الفاعلية.
أمّا الضمير المستتر في {رحمَهُ} فهو عائد إلى {ربّي}، والمنصوب عائد إلى {مَن} على كلتا القراءتين.
ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء، أي من وفّقه الله لتجنّب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدّر الله له الرحمة ويسّر له أسبابها.
والمقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله: {إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم} كأنّه قال: أرجو إن أطعته أن يرحمني ربّي، لأنّ من صرف عنه العذاب ثبتت له الرحمة.
فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي.
وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول.
وهذا ضرب من الكناية وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه فردًا من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم.
ولذلك عقّبه بقوله: {وذلك الفوز المبين}.
والإشارة موجّهة إلى الصرف المأخوذ من قوله: {من يصرف عنه} أو إلى المذكور.
وإنّما كان الصرف عن العذاب فوزًا لأنّه إذا صرف عن العذاب في ذلك اليوم فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم.
قال تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز} [آل عمران: 185].
و{المبين} اسم فاعل من أبان بمعنى بان. اهـ.

.قال السمرقندي:

{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} سوء العذاب {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} يعني: غفر له وعصمه.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عامر وعاصم في رواية حفص {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} بضم الياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: {مَّن يُصْرَفْ} بنصب الياء ومعناه: من يصرف الله عنه.
ولأنه سبق ذكر قوله: {رَبّى} فانصرف إليه.
ثم قال: {وَذَلِكَ الفوز المبين} يعني: صرف العذاب: هو النجاة الوافرة.
وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاعْلَمُوا أنَّهُ لا يَنْجُو أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: «وَلا أنَا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدِني الله بِرَحْمَتِهِ» يعني: أن الخلق كلهم ينجون برحمة الله تعالى. اهـ.