فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (3):

قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالًا على أن العلم بها هو خالقه، وأن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته: عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها، فلم يكن إلهًا، وكان الإله هو العالم وحده، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب، وكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح: لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، قال تعالى عاطفًا {وهو الله} دالًا على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار، لأن إنكارهم المعاد لأمرين: أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار، والثاني أنه- على تقدير تسليم الاختيار- غير عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، فإذا قام الدليل على كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات: الكليات والجزئيات، زالت جميع الشبهات: {وهو الله} أي الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهًا له وخضوعًا وتعبدًا، وعلق بهذا المعنى قوله: {في السماوات} لأن من في الشيء يكون متصرفًا فيه.
ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال: {وفي الأرض} أي هذه صفته دائمًا على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره، ضعيف التصرف فيما وراءه، ومن كان محتاجًا نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، ومحجوج بحديث: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج، ومؤيد بصحيح النقل {ليس كمثله شيء} أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه، و«قد كان الله ولا شيء معه»، وحديث: «ليس فوقك شيء» رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه- والله الموفق.
ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه، ثم أقدره على ذلك؛ قدم الخفي فقال شارحًا لكونه لا يغيب عنه شيء: {يعلم سركم}.
ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه، صرح به فقال: {وجهركم} ونسبة كل منها إليه على حد سواء، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولابد؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال: {ويعلم ما تكسبون} فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنا إن قلنا: إن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار.
قلنا: المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات، فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة، وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذٍ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية، وإن قلنا: المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان، وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما: أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادرًا مختارًا.
والثاني: أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي، ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادرًا ومختارًا لا علة موجبة، وأثبت بهذه الآية كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات، وحينئذٍ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد، وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} يقال: ما عامل الإعراب في الظرف من {فِي السماوات وَفِي الأرض}؟ ففيه أجوبة: أحدها أي وهو الله المعظَّم أو المعبود في السموات وفي الأرض؛ كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حُكْمه.
ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض؛ كما تقول: هو في حاجات الناس وفي الصلاة، ويجوز أن يكون خبرًا بعد خبر ويكون المعنى: وهو الله في السموات وهو الله في الأرض.
وقيل: المعنى وهو الله يعلم سِرّكم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا يخفى عليه شيء؛ قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه.
وقال محمد بن جَرير: وهو الله في السموات ويَعلم سِرّكم وجهركم في الأرض؛ فيعلم مقدّم في الوجهين، والأول أسلم وأبعد من الإشكال.
وقيل غير هذا.
والقاعدة تنزيهه جل وعز عن الحركة والانتقال وشَغْل الأمكنة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون}.
لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار، ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادرًا مختارًا عالمًا بالكليات والجزئيات وإبطالًا لشبه منكر المعاد، والظاهر أن {هو} ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله، {وهو الله} وهذا قول الجمهور قاله الكرماني.
وقال أبو علي: {هو} ضمير الشأن و{الله} مبتدأ خبره ما بعده، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما فر إلى هذا لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن، كان عائدًا على الله تعالى فيصير التقدير الله و{الله} فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظًا ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية، وذلك لا يجوز فلذلك والله أعلم تأول.
أبو علي الآية على أن الضمير ضمير الأمر و{الله} خبره يعلم {في السموات وفي الأرض} متعلق بيعلم والتقدير الله يعلم {في السموات وفي الأرض} {سركم وجهركم}.
ذهب الزجاج إلى أن قوله: {في السموات} متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.
قال ابن عطية: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازًا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه، ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله: {وهو الله} أي الذي له هذه كلها {في السموات وفي الأرض} كأنه قال: وهو الخالق الرازق والمحيي المحيط في السموات وفي الأرض كما تقول: زيد السلطان في الشام والعراق، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالًا وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان الآمر الناهي الناقض المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق، فأقمت السلطان مقام هذه كلها كان فصيحًا صحيحًا فكذلك في الآية أقام لفظة {الله} مقام تلك الصفات المذكورة؛ انتهى.
وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه لأنهما زعما أن {في السموات} متعلق بلفظ {الله} لما تضمنه من المعاني ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها، وإن كان {في السموات} متعلقًا بها جميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يعمل في المجرور ما تضمنه لفظ {الله} من معنى الألوهية وإن كان لفظ {الله} علمًا لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى كما قال: أنا أبو المنهال بعض الأحيان.
فبعض منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض الأحيان.
وقال الزمخشري نحوًا من هذا قال: {في السموات} متعلق بمعنى اسم الله، كأنه قيل: وهو المعبود فيهما ومنه قوله: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} أي: وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذي يقال له: الله فيها لا يشرك في هذا الاسم؛ انتهى، فانظر تقاديره كلها كيف قدر العامل واحدًا من المعاني لا جميعها، وقالت فرقة {هو} على تقدير صفة حذفت وهي مرادة في المعنى، كأنه قيل: هو الله المعبود {في السموات وفي الأرض} وقدرها بعضهم وهو الله المدبر {في السموات وفي الأرض}، وقالت فرقة: {وهو الله} تم الكلام هنا.
ثم استأنف ما بعده وتعلق المجرور ب {يعلم} وقالت فرقة: {وهو الله} تام و{في السموات وفي الأرض} متعلق بمفعول {يعلم} وهو {سركم وجهركم} والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، وهذا يضعف لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النحاس حيث قال: هذا من أحسن ما قيل فيه، وقالت فرقة: هو ضمير الأمر والله مرفوع على الابتداء وخبره {في السموات} والجملة خبر عن ضمير الأمر وتم الكلام.
ثم استأنف فقال: {وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} أي: ويعلم في الأرض.
وقال ابن جرير نحوًا من هذا إلا أن {هو} عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل وليس ضمير الأمر.
وقيل: يتعلق {في السموات} بقوله: {تكسبون} هذا خطأ، لأن {ما} موصولة ب {تكسبون} وسواء كانت حرفًا مصدريًا أم اسمًا بمعنى الذي، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول.
وقيل {في السموات} حال من المصدر الذي هو {سركم وجهركم} تقدم على ذي الحال وعلى العامل.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون {الله في السموات} خبرًا بعد خبر على معنى أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات والخروج عن ظاهر {في السموات وفي الأرض} لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ومماسة الإجرام ومحاذاته لها وتحيزه في جهة، قال معناه وبعض لفظه ابن عطية. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {وَهُوَ الله} جملةٌ من مبتدأ وخبر، معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شُمولِ أحكام إلاهيّته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء إثرَ الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلْقِهم وتقديرِ آجالِهم، وقوله تعالى: {فِي السموات وَفِى الأرض} متعلقٌ بالمعنى الوصفيِّ الذي ينبئ عنه الاسم الجليل، إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علمًا للمعبودِ بالحق كأنه قيل: وهو المعبودُ فيهما، وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةُ المبنيَّةُ على الحِكَم البالغة، فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قيل: وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الذي في السماء إله وَفِى الأرض إله} وليس المراد بما ذُكر من الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك، بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله: (أسدٌ عليَّ) الخ، ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه، فجَرى مَجرى جريءٌ عليَّ، وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفي الأرض، أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية، بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق، فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفسُ الوصف الذي اشتهر به، إذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفًا لاشتهاره به. ألا يُرى أن كلمة (عليّ) في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعًا، وقيل: هو متعلق بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل: وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما، وقيل: بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنه قيل: وهو الذي يقال له: الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق، من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع، لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية، أو على تقدير القول. وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبرًا ثانيًا على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغًا في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضوريًا منزلةَ كونِه تعالى فيهما، وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما، فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِمًا به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قولُه عز وجل. اهـ.