فصل: تفسير الآية رقم (43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

لمّا أنذرهم بتوقّع العذاب أعقبه بالاستشهاد على وقوع العذاب بأمم من قبل، ليَعلَم هؤلاء أنّ تلك سنة الله في الذين ظلموا بالشرك.
وهذا الخبر مستعمل في إنذار السامعين من المشركين على طريقة التعريض، وهم المخاطبون بالقول المأمور به في الجملة التي قبلها.
فجملة: {ولقد أرسلنا} عطف على جملة: {قل أرأيتكم} [الأنعام: 40]، والواو لعطف الجمل، فتكون استئنافية إذ كانت المعطوف عليها استئنافًا.
وافتتحت هذه الجملة بلام القسم و(قد) لتوكيد مضمون الجملة، وهو المفرّع بالفاء في قوله: {فأخذناهم بالبأساء والضرّاء}.
نزّل السامعون المعرّض بإنذارهم منزلة من ينكرون أن يكون ما أصاب الأمم الذين من قبلهم عقابًا من الله تعالى على إعراضهم.
وقوله: {فأخذناهم} عطف على {أرسلنا} باعتبار ما يؤذن به وصف {مِنْ قبلك} من معاملة أممهم إيّاهم بمثل ما عاملك به قومك، فيدلّ العطف على محذوف تقديره: فكذّبوهم.
ولمّا كان أخذهم بالبأساء والضرّاء مقارنًا لزمن وجود رسلهم بين ظهرانيهم كان الموقع لفاء العطف للإشارة إلى أنّ ذلك كان بمرأى رسلهم وقبل انقراضهم ليكون إشارة إلى أنّ الله أيّد رسله ونصرهم في حياتهم؛ لأنّ أخذ الأمم بالعقاب فيه حكمتان: إحداهما: زجرهم عن التكذيب، والثانية: إكرام الرسل بالتأييد بمرأى من المكذّبين.
وفيه تكرمة للنبيء صلى الله عليه وسلم بإيذانه بأنّ الله ناصره على مكذّبيه.
ومعنى {أخذناهم} أصبناهم إصابة تمكّن.
وتقدّم تفسير الأخذ عند قوله تعالى: {أخذتْه العزّة بالإثم} في سورة [البقرة: 206].
وقد ذكر متعلّق الأخذ هنا لأنّه أخْذ بشيء خاصّ بخلاف الآتي بُعيد هذا.
والبأساء والضرّاء تقدّمًا عند قوله تعالى: {والصابرين في البأساء والضرّاء} في سورة [البقرة: 177].
وقد فسّر البأساء بالجوع والضرّاء بالمرض، وهو تخصيص لا وجه له، لأنّ ما أصاب الأمم من العذاب كان أصنافًا كثيرة.
ولعلّ من فسَّره بذلك اعتبر ما أصاب قريشًا بدعوة النبي.
و(لَعلّ) للترّجي.
جُعل علّة لابتداء أخذهم بالبأساء والضرّاء قبل الاستئصال.
ومعنى {يتضرّعون} يتذلّلون لأنّ الضراعة التذلّل والتخشّع، وهو هنا كناية عن الاعتراف بالذنب والتوبة منه، وهي الإيمان بالرسل.
والمراد: أنّ الله قدّم لهم عذابًا هيّنًا قبل العذاب الأكبر، كما قال: {ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون} [السجدة: 21] وهذا من فرط رحمته الممازجة لمقتضى حكمته؛ وفيه إنذار لقريش بأنّهم سيصيبهم البأساء والضرّاء قبل الاستئصال، وهو استئصال السيف.
وإنّما اختار الله أن يكون استئصالهم بالسيف إظهارًا لكون نصر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كان بيده ويد المصدّقين به.
وذلك أوقع على العرب، ولذلك روعي حال المقصودين بالإنذار وهم حاضرون.
فنزّل جميع الأمم منزلتهم، فقال: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا}. اهـ.

.قال الفخر:

في الآية محذوف والتقدير: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلًا فخالفوهم فأخذناهم بالبأساء والضراء، وحسن الحذف لكونه مفهومًا من الكلام المذكور.
وقال الحسن (البأساء) شدة الفقر من البؤس (والضراء) الأمراض والأوجاع.
ثم قال: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} والمعنى: إنما أرسلنا الرسل إليهم وإنما سلطنا البأساء والضراء عليهم لأجل أن يتضرعوا.
ومعنى التضرع التخشع وهو عبارة عن الانقياد وترك التمرد، وأصله من الضراعة وهي الذلة، يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف، والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، والمقصود منه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: أليس قوله: {بَلْ إياه تَدْعُونَ} يدل على أنهم تضرعوا؟ وههنا يقول: قست قلوبهم ولم يتضرعوا.
قلنا: أولئك أقوام، وهؤلاء أقوام آخرون.
أو نقول أولئك تضرعوا لطلب إزالة البلية ولم يتضرعوا على سبيل الإخلاص لله تعالى فلهذا الفرق حسن النفي والإثبات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)}.
لقد أرسل الحق لأمم سابقة رسلًا بالآيات والمنهج، فكذبتهم أقوامهم، فأخذهم الله بالشدائد والأحداث التي تضر إما في النفس، وإما في المال، بالمرض، بالفقر، لعلهم يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى.
إذن فالحق حين يمس الإنسان بالبأساء أي بالشدائد أو بالضراء، أي بالشيء الذي يضر ويؤذي، إنما يريد من الإنسان أن يختبر نفسه، فإن كان مؤمنا بغير الله فليذهب إلى من آمن به، ولن يرفع عنه تلك البأساء أو ذلك الضر إلا عندما يعود إلى الله: وعندما يتضرع إلى الله قد لا يقبل الله منه مثل هذا التضرع ويقول سبحانه: {فلولا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا...}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} وفى سورة الأعراف: {وما أرسلنا في قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون} بإدغام تاء التفعل في فاء الكلمة مع اتحاد المرمى في الآيتين فيسأل عن وجه ذلك؟
والجواب والله أعلم: أن العرب تراعى مجاورة الألفاظ فتحمل اللفظ على مجاوره لمجرد المضارعة اللفظية وان اختلف المعنى ومنه الاتباع في ينوؤك ويسوؤك قال سيبويه رحمه الله وقد ذكر بعض ما تتبع فيه العرب وتحمل اللفظ على ما قرن به لول أفرد عنه لم ينطق به كذلك فقال: كما أن يتوؤك يتبع يسوؤك يريد أنك تقول: ينيئك بضم الياء وكسر النون متعديا على مثال يزيلك وزنا وتعدية إلى المفعول فإذا ذكرته بعد يسوؤط ابعته إياه فقلت يسوؤك وينوؤك مع اختلاف المعنى فهم فيما اتفق معناه من هذا أحرى أن يفعلوا فيه ذلك.
وماضى الفعل من الضراعة لا إدغام فيه إنما تقول تضرع إذ لا حرف مضارعة فيه يسوغ الإدغام فلما ورد الماضى فيما بنى علي آية الأنعام من قوله: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} ولا ادغام فيه لما ذكرنا ورد الأول مفكوكا غير مدغم فقيل يتضرعون رعيا للمناسبة، أمأ آية الأعراف فلم يرد فيها ما يستدعى هذه المناسبة فجاء مدغما على الوجه الأخف إذ لا داعى لخلافه والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)}.
يخبر عن سالف سنته في أبداء الأمم وما أوجب لمن أطاعه منهم من النعم والكرم، وما أحلَّ بمن خالفه من الألم وفنون النِّقَم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
في الكلام: حَذْفُ تقديره: {أرْسلْنَا رُسُلًا إلى أممٍ فكذبوا فأخذناهم} وهذا الحذفُ ظاهر جدًا.
و{من قَبْلِكَ} متعلِّقٌ بـ {أرْسلنا}، وفي جعله صِفَةً لـ {أمم} كلام تقدِّم مِرَارًا، وتقدَّم تفسيرُ {البأساء والضراء} [البقرة: 177] ولم يُلْفَظُ لهما بِمُذَكِرٍ على أفْعَل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (43):

قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما لم يقع منهم ما أوجبت الحال رجاءه، تسبب عنه الإنكار عليهم، فقال معبرًا بأداة التخصيص ليفيد مع النفي أنهم ما كان لهم عذر في ترك التضرع: {فلولا} أي فهلا {إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} ولما كان معنى الإنكار أنهم ما تضرعوا قال: {ولكن قست قلوبهم} أي فلم يذكروا ربهم أصلًا {وزين لهم الشيطان} أي بما دخل عليهم به من باب الشهوات {ما كانوا يعملون} من العظائم والمناكر التي أوجبها النكس بالرد أسفل سافلين. اهـ.

.اللغة:

{تضرعوا} التضرع من الضراعة وهي الذلة.
{البأساء} من البؤس وهو الفقر.
{الضراء} من الضر وهو البلاء، قال القرطبي: الباساء في الأموال، والضراء في الأبدان، هذا قول الاكثر.
{مبلسون} المبلس: اليائس من الخير، من أبلس الرجل إذا يئس، ومنه إبليس لأنه أبلس من رحمة الله عز وجل.
{دابر} الدابر: الآخر ودابر القوم: خلفهم من نسلهم، قال قطرب: يعني استؤصلوا وأهلكوا، قال الشاعر:
فأهلكوا بعذاب حصق دابرهم ** فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا

{يصدفون} صدف عن الشيء أعرض عنه.
{تطرد} الطرد: الإبعاد مع الاهانة.
{الفاصلين} الحا كمين. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} معناه نفي التضرع.
والتقدير فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا.
وذكر كلمة (لولا) يفيد أنه ما كان لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوتهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فلولا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ}.
لولا تحضيض، وهي التي تلي الفعل بمعنى هَلاَّ؛ وهذا عِتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتَضرَّعوا حين نزول العذاب.
ويجوز أن يكونوا تضرّعوا تضرّع من لم يُخلص، أو تَضرعوا حين لاَبَسهم العذابُ، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع.
والدعاء مأمور به حال الرَّخاء والشّدّة؛ قال الله تعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وقال: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي دعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وهذا وعيد شديد.
{ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي صَلُبت وغَلُظت؛ وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية، نسأل الله العافية.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} أي أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع، مع تحقق ما يدعوهم إليه، ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك: لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل: الاستدراك لبيان أنه لم يكن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فلم يتضرعوا حينئذٍ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به، ولولا عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى: {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وليست لولا هنا تحضيضية كما تتوهم لأنها تختص بالمضارع، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي.
ولما كان التضرع ناشئًا من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل: فما لانت قلوبهم ولكن قست، وقيل: كان الظاهر أن يقال: لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر، ومعنى {قَسَتْ} إلخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله.
والتزيين له معان، أحدها: إيجاد الشيء حسنًا مزينًا في نفس الأمر كقوله تعالى: {زَيَّنَّا السماء الدنيا} [الصافات: 6] والثاني: جعله مزينًا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس.
والثالث: جعله محبوبًا للنفس مشتهى وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبهه كالوسوسة والإغواء، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسندًا إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] وتارة إلى البشر كقوله عز وجل: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة، وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناءً على المراد منه أولًا، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناءً على المراد منه ثانيًا فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك.
وجاء أيضًا غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه: {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} [يونس: 12] وحينئذٍ يقدر في كل مكان ما يليق به، وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر. اهـ.