فصل: تفسير الآية رقم (45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (45):

قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من عادة الغالب من أهل الدنيا أن يفوته آخر الجيوش وشُذّابهم لملل أصحابه من الطلب وضجرهم من النصب والتعب وقصورهم عن الإحاطة بجميع الأرب، أخبر تعالى أن أخذه على غير ذلك، وأن نيله للآخر كنيله للأول على حد سواء، فقال مسببًا عن الأخذ الموصوف مشيرًا بالبناء للمفعول إلى تمام القدرة، وبالدابر إلى الاستئصال: {فقطع دابر} أي آخر {القوم الذين ظلموا} أي بوضع الشيء في غير موضعه دأب الماشي في الظلام، وضعوا لقسوة موضع الرقة التي تدعو إليها الشدة، ووضعوا الفرح بالنعمة موضع الخشية من الرد إلى الشدة، كما ظلمتم أنتم بدعاء الأصنام وقت الرخاء وكان ذلك موضع دعاء من أفاض تلك النعم، ودعوتم الله وقت الشدة وكان ذلك موضع دعاء من عبدتموه وقت الرخاء، لئلا تقعوا فيما جرت عادتكم بالذم به.
وإن تكون كريهة أدعى لها ** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

ولما كان استئصالهم من أجل النعم على من عادوهم فيه من الرسل عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم، نبه على ذلك بالجملة مع ما يشير إليه من ظهور الاستغناء المطلق فقال: {والحمد} أي قطع أمرهم كله والحال أن الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} المتفرد بنعوت الجلال والجمال {رب العالمين} الموجد لهم أجمعين، أي له ذلك كله بعد فناء الخلق على أيّ صفة كانوا من إيمان أو كفر، كما كان له ذلك قبل وجودهم وعند خلقهم على كل من حالتيهم- كما أشير إليه بأول السورة، فكأنه قيل: الكمال لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، فقطع دابرهم، والكمال له لم يتغير، لأنه لا يزيده وجود موجود، ولا ينقصه فقد مفقود، فهو محمود حال الإعدام والمحق كما كان محمودًا حال الإيجاد والخلق، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإنه لا يخرج شيء عن إيمانهم ولا كفرانهم عن إرادته سبحانه، فلا عليك منهم اقترحوا الآيات أولا، فإنه ليس عليك إلا البلاغ. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فقطع دابر القوم الذين ظلموا} الدابر التابع للشيء من خلفه كالولد للوالد يقال: دبر فلان القوم يدبرهم دبورًا ودبرًا إذا كان آخرهم.
قال أُمية بن أبي الصلت:
فاستؤصلوا بعذاب حص دابرهم ** فما استطاعوا له صرفا ولا نتصروا

وقال أبو عبيدة: دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم.
وقال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أذهب الله أصله.
وقوله: {والحمد لله ربّ العالمين} فيه وجوه:
الأول: معناه أنه تعالى حمد نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم لأن ذلك كان جاريًا مجرى النعمة العظيمة على أولئك الرسل في إزالة شرهم عن أولئك الأنبياء.
والثاني: أنه تعالى لما علم قسوة قلوبهم لزم أن يقال: إنه كلما ازدادت مدة حياتهم ازدادت أنواع كفرهم ومعاصيهم، فكانوا يستوجبون به مريد العقاب والعذاب فكان إفناؤهم وإماتتهم في تلك الحالة موجبًا أن لا يصيروا مستوجبين لتلك الزيادات من العقاب فكان ذلك جاريًا مجرى الإنعام عليهم.
والثالث: أن يكون هذا الحمد والثناء إنما حصل على وجود إنعام الله عليهم في أن كلفهم وأزال العذر والعلة عنهم ودبرهم بكل الوجوه الممكنة في التدبير الحسن، وذلك بأن أخذهم أولًا بالبأساء والضراء، ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء، وأمهلهم وبعث الأنبياء والرسل إليهم، فلما لم يزدادوا إلا انهماكًا في الغي والكفر، أفناهم الله وطهر وجه الأرض من شرهم، فكان قوله: {والحمد الله ربّ العالمين} على تلك النعم الكثيرة المتقدمة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ}.
الدابر الآخر؛ يُقال: دَبَر القومَ يَدْبِرُهم دَبْرًا إذا كان آخرهم في المجيء.
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود: «من الناس من لا يأتي الصَّلاة إلاَّ دبريًّا» أي في آخر الوقت؛ والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيّرهم فلم تبق لهم باقية.
قال قُطْرُب: يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا.
قال أُميّة بن أبي الصَّلْت:
فأهلِكُوا بعذابٍ حَصَّ دابَرَهم ** فما استطاعوا له صَرْفًا ولا انتصروا

ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأُمور.
{والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} قيل: على إهلاكهم، وقيل: تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه.
وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم؛ لما يعقِب من قطع الدابر، إلى العذاب الدائم، مع استحقاق القاطع الحمدَ من كل حامد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فقطع دابر القوم الذين ظلموا} عبارة عن استئصالهم بالهلاك والمعنى: فقطع دابرهم ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم، وهو هنا الكفر والدابر التابع للشيء من خلفه يقال: دبر الوالد الولد يدبره، وفلان دبر القوم دبورًا ودبرًا إذا كان آخرهم.
وقال أمية بن أبي الصلت:
فاستؤصلوا بعذاب خص دابرهم ** فما استطاعوا له صرفًا ولا انتصروا

قال أبو عبيدة: {دابر القوم} آخرهم الذي يدبرهم.
وقال الأصمعي: الدابر الأصل يقال: قطع الله دابره أي أذهب أصله، وقرأ عكرمة {فقطع دابر} بفتح القاف والطاء والراء أي فقطع الله وهو التفات إذ فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.
{والحمد لله رب العالمين} قال الزمخشري: إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم؛ انتهى.
والذي يظهر أنه تعالى لما أرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تارة بالبلاء، وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك المكذبين فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمدلة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} أي آخرهم كما قال غير واحد، وهو من دبره إذا تبعه فكأنه في دبره أي خلفه، ومنه «إن من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرًا» أي في آخر الوقت.
وقال الأصمعي: الدابر الأصل؛ ومنه قطع الله دابره أي أصله.
وأيًا ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم.
{والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} على ما جرى عليهم من النكال والإهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها فهذا منه تعالى تعليم للعباد أن يحمدوه على مثل ذلك، واختار الطبرسي أنه حمد منه عز اسمه لنفسه على ذلك الفعل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {فقطع دابر القوم} معطوفة على جملة {أخذناهم}، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال.
فلم يُبق فيهم أحدًا.
والدابر اسم فاعل من دَبَره من باب كَتَب، إذا مشى من ورائه.
والمصدر الدبور بضم الدال، ودابر الناس آخرهم، وذلك مشتقّ من الدُبُر، وهو الوراء، قال تعالى: {واتَّبِع أدبارهم} [الحجر: 65].
وقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع لأنّ المستأصل يبدأ بما يليه ويذهب يستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دَابره، وهذا ممّا جرى مجرى المثل، وقد تكرّر في القرآن، كقوله: {أنّ دابر هؤلاء مَقطوع مصبحين} [الحجر: 66].
والمراد بالذين ظلموا المشركون، فإنّ الشرك أعظم الظلم، لأنَّه اعتداء على حقّ الله تعالى على عباده في أن يعترفوا له بالربوبية وحده، وأنّ الشرك يستتبع مظالم عدّة لأنّ أصحاب الشرك لا يؤمنون بشرع يزع الناس عن الظلم.
وجملة: {والحمد لله ربّ العالمين} يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} بما اتَّصل بها.
عطف غرض على غرض.
ويجوز أن تكون اعتراضًا تذييليًا فتكون الواو اعتراضية.
وأيًّا ما كان موقعها ففي المراد منها اعتبارات ثلاثة:
أحدها: أن تكون تلقينًا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسلَه وأولياءهم وإهلاك الظالمين، لأنّ ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض، ولأنّ في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقّب الإسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقَّبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم؛ فيكون {الحمد لله} مصدرًا بدلًا من فعله، عُدل عن نصبه وتنكيره إلى رفعه وتعريفه للدلالة على معنى الدوام والثبات، كما تقدّم في قوله تعالى: {الحمد لله} في سورة [الفاتحة: 2].
{ثانيها}: أن يكون {الحمد لله} كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى لأنّ من لوازم الحمد أن يكون على نعمة، فكأنّه قيل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا.
وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده.
ثالثها: أن يكون إنشاءَ حمد لله تعالى من قِبَل جلاله مستعملًا في التعجيب من معاملة الله تعالى إيّاهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حقّ عليهم العذاب.
ويجوز أن يكون إنشاءَ الله تعالى ثناء على نفسه، تعريضًا بالامتنان على الرسول والمسلمين.
واللام في {الحمد} للجنس، أي وجنس الحمد كلّه الذي منه الحمد على نعمة إهلاك الظالمين.
وفي ذلك كلّه تنبيه على أنَّه يحقّ الحمد لله عند هلاك الظلمة، لأنّ هلاكهم صلاح للناس، والصلاح أعظم النعم، وشكر النعمة واجب.
وهذا الحمد شكر لأنّه مقابل نعمة.
وإنّما كان هلاكهم صلاحًا لأنّ الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة، فإذا تغير الحقّ والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم فإذا هلك الظالمون عاد العدل، وهو ميزان قوام العالم.
أخرج أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنّما هو استدراح ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فلمّا نسُوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}.
فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى لم يبقَ منهم عين ولا أثر، ولم يَرِدْ حديث منهم أو خبر، والله سبحانه وتعالى بنعت العِزِّ واستحقاق الجلال لا عن فَقْدِهم له استيحاش، ولا بوجودهم استرواح أَو استبشار. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: آخرهم. كناية عن الاستئصال، لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله. وهو من (دَبَرَهُ) إذا تبعه، فكان في دُبُرِهِ. أي: خلفه. فالدابر ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه تجوّزًا. وقال أبو عبيد: دابر القوم آخرهم. وقال الأصمعيّ: الدابر الأصل، ومنه: قطع الله دابره: أصله.
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: على ما جرى عليهم من الهلاك. فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض، من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها، لاسيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم، عليهم السلام.
تنبيهات:
الأول- روي في هذه الآية أخبار وآثار. منها ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج». ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ}- إلى: {هُم مُّبْلِسُونَ} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه.
وروى ابن أبي حاتم أيضًا عن عُبَاْدَة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا أراد الله بقوم اقتطاعًا فتح لهم (أوْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ) باب خيانة {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} الآية». ورواه أحمد وغيره.