فصل: تفسير الآية رقم (63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتًا مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خِطَابٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُكَلَّفِينَ. وَالْتِفَاتًا آخَرَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَإِلَّا لَقَالَ: ثُمَّ رَدَدْنَاكُمْ أَوْ: رَدَدْنَاهُمْ- عَلَى الِالْتِفَاتِ- إِلَخْ. وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ تُفْهَمُ مِنَ الْمَبَاحِثِ الْأُخْرَى.
الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الرَّدِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ تَعَالَى رُسُلًا أُخْرَى- وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ غَيْرُ رُسُلِ الْمَوْتِ وَرُسُلِ الْحِفْظِ- يَرُدُّونَ الْعِبَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبَعْثِ عِنْدَمَا يَحْشُرُونَهُمْ بِأَمْرِهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذِهِ أَظْهَرُ نُكَتِ الِالْتِفَاتِ.
الثَّالِثُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {رُدُّوا} لِلْكُلِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي مَجِيئِهِ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِفْرَادِ أَوَّلًا وَالْجَمْعِ آخِرًا، لِوُقُوعِ التَّوَفِّي عَلَى الْإِفْرَادِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْمَجْمُوعِ. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ الْقَوْلِ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِأَحَدٍ، وَالِالْتِفَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ الَّذِي لِلْجَمَاعَةِ ضَمِيرَ غِيبَةٍ لَهُمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الرَّدَّ يَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي آيَةِ السَّجْدَةِ {ثُمَّ تُرَدُّونَ} وَعَبَّرَ هُنَا بِالْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْوُقُوعِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ وَانْقَضَى.
الْخَامِسُ: مِنْ فَوَائِدِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ ذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَوَصْفُهُ بِمَا وُصِفَ بِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي النَّفْسِ هُنَا أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ.
السَّادِسُ: قَالُوا: إِنَّ الرَّدَّ إِلَى اللهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَحِسَابِهِ وَجَزَائِهِ، أَوْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَمَكَانِ الْعَرْضِ وَالسُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إِلَى ذَاتِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَغَيْرُ مُمْكِنٍ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَرَبِيُّ الْقُحُّ لِفَهْمِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَةِ، وَلَا الدَّخِيلُ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَذْهَبِ غُلَاةِ أَهَلِ الْوَحْدَةِ، وَلَوْ صَحَّ مَذْهَبُهُمْ لَكَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ الْعِبَارَةِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ أُسْلُوبِهِ وَصْفُ اسْمِ الذَّاتِ بِمَا وُصِفَ بِهِ، وَمَا خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ وَهَاكَ بَيَانُهُ:
السَّابِعُ: أَنَّ وَصْفَ الِاسْمِ الْكَرِيمِ بِمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَدَّهُمْ إِلَيْهِ حَتْمٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُهُمُ الْحَقُّ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَالْحَقُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّبَاتُ الْمُتَحَقِّقُ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَتَحَلَّى بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ تَوَلِّي بَعْضِ الْعِبَادِ أُمُورَ بَعْضٍ بِمَلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ مَلْكِ التَّصَرُّفِ وَالسِّيَاسَةِ- فَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَوْقُوتٌ لَا ثَبَاتَ وَلَا بَقَاءَ لَهُ، وَحَقٌّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ أَقَرَّهُ فِي سُنَنِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَوْ شَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ الْعَارِضَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَحْدَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوِ الْبَاطِلَةِ فِي ذَاتِهَا دُونَ صُورَتِهَا الْمُؤَقَّتَةِ فَقَدْ زَالَ كُلُّ ذَلِكَ بِزَوَالِ عَالَمِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ الْمَوْلَى الْحَقُّ وَحْدَهُ، كَمَا زَالَ كُلُّ مَلِكٍ وَمُلْكٍ صُورِيَّيْنِ كَانَا لِلْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَصَارُوا إِلَى يَوْمٍ {لَا تَمْلِكُ فِيهِ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [س 82: 19] وَظَهَرَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْمِلْكَ الصُّورِيَّ وَالْحَقِيقِيَّ {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [س 40: 16] وَكُلُّ هَذَا مُبْطِلٌ لِخَيَالِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أَلَا حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُذْكَرُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ لِمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مُهِمًّا؛ لِئَلَّا يَفُوتُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ: {لَهُ الْحُكْمُ} يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ لَهُ الْحُكْمُ وَحْدَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الصُّورَةِ وَالْإِضَافَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [27: 78] {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} [42: 10] {قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [39: 46] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَفَسَّرَ كَوْنَهُ تَعَالَى أَسْرَعَ الْحَاسِبِينِ بِأَنَّهُ يُحَاسِبُ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ فِي أَسْرَعِ زَمَنٍ وَأَقْصَرِهِ لَا يَشْغَلُهُ حِسَابُ أَحَدٍ عَنْ حِسَابِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ فِيهِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ؛ إِذْ لَا مُحَاسِبَ هُنَالِكَ غَيْرُهُ، أَوْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحَاسَبِينَ أَوِ الْحَاسِبِينَ فِي غَيْرِ الْآخِرَةِ، وَلَفْظُ الْحَاسِبِينَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَسَبَ الثُّلَاثِيِّ لَا مِنْ حَاسَبَ، وَالْحِسَابُ مَصْدَرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، يُقَالُ: حَسَبَهُ حَسْبًا وَحِسَابًا وَحَاسَبَهُ مُحَاسَبَةً وَحِسَابًا، وَالْمُحَاسَبَةُ أَوِ الْحِسَابُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَسْبِ وَالْحِسَابِ الَّذِي هُوَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ، لِأَنَّ الْمُحَاسِبَ يُحْصِي عَلَى مَنْ يُحَاسِبُهُ الْعَدَدَ فِي الْمَالِ، أَوْ مَا نِيطَ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ إِحْصَاءً لِلْأَعْمَالِ وَمُحَاسَبَةً عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ {وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [2: 202] فَيُرَاجَعُ فِي ج 2 مِنَ التَّفْسِيرِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}.
وكلمة {ردوا} تفيدا أن كان لهم التقاء به أولا، وبعد ذلك سوف يرجعون، كيف؟ لقد كانوا منه إيجادًا ثم ردوا إليه حسابا ثوابا وعقابا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ...} [طه: 55].
{ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} وكلمة مولى تعني أنه هو الذي يليك، ولا يليك إلا من هو قريب منك. وهذا القريب قد يكون منْجدا لك إن حدث لك ما يفزعك وهو الذي يُعينك، وهكذا أخذت كلمة مولى معنى القريب، والناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك، وقد يوجد لك مولى في الدنيا وهو من الأغيار. ومن الجائز أن يتغير قلبه عليك، ومن الجائز أن تنالك الأحداث التي هي فوق قدرته وطاقته، ومن الجائز أن يكون لك مولى تنشده وتطلبه لنصرتك فيرفض؛ لأن خصْمك له بهذا المولى ولاء أقوى وأشد فيقف بجانب خصمك وقد يوهمك أنه معك لكن قلبه ليس معك.
لكن هناك في الآخرة مولى حق واحد {ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} وتطلق كلمة موْلى على السيد حين يعتق عبده. وحين يعتقنا ربنا من النار أليس في ذلك أعظم ولاية؟. إنه المولى الحق، فلا توجد قوة أعلى منه وهو لا يتغير؛ لأن الأغيار من طبيعة الخلق.
وحين يطلب منك الحق أن تُعمل عقلك لأنك حين تعتمد على واحد ينفعك في أمورك فأنت تتوكل عليه، وتطلب مساعدته، وهنا يأمرك الحق بأن تتوكل على الحي الذي لا يموت، ولا تتكل على واحد من الأغيار فقد يصبح الصباح فتجده قد خلا بك وتخلىّ عنك. أما إذا كان مولاك هو الحق فلن يخذلك.
{ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق أَلاَ لَهُ الحكم}. ولماذا جاء بكلمة {الحكم} هنا؟؛ لأننا في دنيا الأغيار قد يسند سبحانه بعض الأحكام إلى بعض خلقه؛ فهذا يحكم، وذلك يتصرف، وآخر يصدر قرارًا بالتعيينات، وكلها أحكام، أما في الآخرة فالحق يقول: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
وأنت في الدنيا تملك، ويكون رزق ابنك- على سبيل المثال- من يدك، وتملك أن تصدر قرارًا بترقية من هو أقل منك، وتملك أن تخيط الثوب لغيرك إن كانت تلك مهنتك، ففي الدنيا كل منا يملك بعضًا من أسباب الآخر. لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
وساعة تسمع {ألا له الحكم} ف {ألا} في اللغة أداة تنبيه لما يأتي بعدها، ولماذا تأتي أداة التنبيه هنا؟ لأن الحكم القادم بعدها حكم مهم. والكلام- كما نعرف- واسطة بين متكلم ومستمع؛ لأن المتكلم ينقل أفكاره وخواطره توجد في خياله نسبة ذهنية، أي أنه يعايش مشروع الكلام ويتدبره قبل أن يتكلم، أما السامع فهو يفاجأ، وعندما تريد أن تقول أمرًا مُهمٍّا فأنت تحاول أن تضمن انتباه السامع حتى لا تفلت منه أية جزئية من كلامك، فتقول: ألا لتشد انتباه السامع تماما.
والحق هنا يقول: ألا ليأخذ انتباه السامع، ويأتي بعدها قوله: {لَهُ الحكم}.
إذن: ساعة تسمع ألا فاعرف أن فيها تنبيهًا لأمر قادم {لَهُ الحكم}.
والحكم: هو الفصل بين أمرين، ويختلف الفصل بين أمرين باختلاف الحاكم؛ فإن كان الحاكم له هوى فالحكم يميل، لكن الفصل بين الأمرين يجب أن يكون بلا هوى، فالحكم بالميزان يقتضي أن تكون له كفة هنا وكفة تقابلها، وساعة ما نضبط الميزان نحاول أن نوازن الكفتين لنفصل بين مسألتين ملتحمتين، وما دمنا نريد التساوي فنحن نسمي ذلك: الإنصاف، أي أن نقف في النصف دون ميل أو حيْف.
{أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} وساعة يسمع إنسان {أَلاَ لَهُ الحكم} فالواحد منا يعلم أنه سبحانه يحكم بين الخلق بداية من آدم إلى أن تنتهي الدنيا، وكل واحد منا تتشابك مسائله مع غيره، وما دام الله الحكم فليس لغيره معه حكم، ويحكم بين الخلق جميعًا وفعله لا يحتاج إلى زمن، ونتذكر هنا الإمام عليّا- كَرمّ الله وجهه- حين قالوا له: كيف يحاسب ربنا الناس جميعا في وقت واحد، وبمقدار حلب شاة كما قال بعضهم؟ فقال الإمام عليّ: كما يرزقهم في وقت واحد يحاسبهم في وقت واحد، وهذه مسألة سهلة ليس فيها أدنى صعوبة أبدًا. وقديمًا عندما كانوا ينيرون الطرقات كانوا يشعلون المسارج: هنا مسرجة، وهناك مسرجة، وعلى البعد مسرجة ثالثة، وكان الوقاد يمشي ليشعل المسارج.. إلخ، وارتقى العقل البشري المخلوق لله واستطاع أن ينير الطرقات بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية وفي وقت واحد. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {مَوْلاهُمُ الحَقُّ} صِفتانِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
وقرأ الحسنُ، والأعمش: {الحقَّ} نَصْبًا، وفيه تأويلان:
أظهرهما: أنه نَعْتٌ مقطوع.
والثاني: أنه نَعْت مَصْدر محذوف، أي: رَدُّوا الرَّدَّ الحقَّ لا الباطل، وقرئ رِدُّوا بكسر الرَّاء، وتقدَّم تخريجها.
والضميرُ في {مَوْلاهم} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أظهرها: أنه للعباد في قوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} فقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} التِفَاتٌ؛ إذ الأصل: ويرسل عليهم، وفائدة هذا الالتِفَاتِ والتَّنْبِيهُ والإيقَاظُ.
والثاني: أنه يعود على الملائكة المعنيّين بقوله: {رسلنا} يعني انهم يموتون كما يموت بَنُو آدَمَ، ويُرَدُّون إلى ربِّهِمْ كما تقدَّم.
والثالث: أنه يعود على أحدٍ في قوله: {جَاءَ أَحَدَكُمُ الموت} [الأنعام: 61]؛ إذ المراد به الجَمْعُ لا الإفراد. اهـ.

.تفسير الآية رقم (63):

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تعرف بأفعاله وشؤونه حتى اتضحت وحدانيته وثبتت فردانيته، ذكرهم أحوالهم في إقرار توحيده وقت الشدائد والرجوع عن ذلك عند الإنجاء منها، فكانوا كمن طلب من شخص شيئًا وأكد له الميثاق على الشكر، فلما أحسن إليه بإعطائه سؤله نقض عهده وبالغ في الكفر، وذلك عندهم في غاية من القبائح لا توصف فقال: {قل} أي لهؤلاء الذين يدعون محاسن الأعمال {من ينجيكم} أي كثيرًا وعظيمًا {من ظلمات البر والبحر} أي حيث لا هداية لكم بنجم ولا جبل ولا غيرهما، أإو عبر بالظلمات عن الكروب التي بلغت شدتها إلى أن صاحبها يكون كأنه في أشد ظلام، فهو بحيث إنه لا يهتدي فيها إلى وجه حيلة بنوع وسيلة {تدعونه} أي على وجه الإخلاص له والتوحيد والإعراض عن كل شرك وشريك لزوال الحظوظ عند إحاطة الرعب واستيلائه على مجامع القلب، فلا يبقى إلا الفطرة السليمة؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: {تضرعًا} أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر، وحقيقته الخشوع {و} قوله: {خفية} أي تخفون في أنفسكم مثل ما تظهرون؛ قال شمر: يقال: ضرع له وهو ضارع بيّن الضراعة، وهؤلاء قوم ضرع، أي أذلاء، وهم ضرعة أي متضرعون، والتضرع إلى الله: التخشع إليه والتذلل، وإذا كان الرجل مختل الجسم قلت: إنه لضارع الجسم بيّن الضروع، وفي الذل بين الضراعة- انتهى.
ولما بين وصفهم وقت الدعاء، بين قولهم إذ ذاك فقال: {لئن أنجانا من هذه} فأكدوا وخصوا وبينوا غاية البيان {لنكونن من الشاكرين} أي العريقين في الشكر؛ ولما كانوا مقرين بأن فاعل ذلك هو الله، ولكنهم يكفرون نعمته، عدوا منكرين فأمره بالجواب غير منتظر لجوابهم بقوله: {قل الله} أي الذي له جميع العظمة {ينجيكم منها}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية، وكمال الرحمة والفضل والإحسان. اهـ.
قال الفخر:
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ} بالتشديد في الكلمتين، والباقون بالتخفيف.
قال الواحدي: والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فإن شئت نقلت بالهمزة، وإن شئت نقلت بتضعيف العين: مثل: أفرحته وفرحته، وأغرمته وغرمته، وفي القرآن {فأنجيناه والذين مَعَهُ} [الأعراف: 72] وفي آية أخرى {وَنَجَّيْنَا الذين ءامَنُواْ} [فصلت: 18] ولما جاء التنزيل باللغتين معًا ظهر استواء القراءتين في الحسن، غير أن الاختيار التشديد، لأن ذلك من الله كان غير مرة، وأيضًا قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم، وهما لغتان، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف، وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان، وأيضًا الخفية من الإخفاء، والخيفة من الرهب، وأيضًا {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} من هذه.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {لَّئِنْ أنجانا} على المغايبة، والباقون {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} على الخطاب، فأما الأولون: وهم الذين قرؤا على المغايبة، فقد اختلفوا.
قرأ عاصم بالتفخيم، والباقون بالإمالة، وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ، وما بعده مذكور بلفظ المغايبة، فأما ما قبله فقوله: {تَدْعُونَهُ} وأما ما بعده فقوله: {قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا} وأيضًا فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار، والتقدير: يقولون لئن أنجيتنا، والإضمار خلاف الأصل.
وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين}. اهـ.
قال الفخر:
{ظلمات البر والبحر} مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما.
يقال: لليوم الشديد يوم مظلم.
ويوم ذو كواكب أي اشتدت ظلمته حتى عادت كالليل، وحقيقة الكلام فيه أنه يشتد الأمر عليه، ويشتبه عليه كيفية الخروج، ويظلم عليه طريق الخلاص، ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف، وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من هجوم الأعداء، والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب، والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى، وهذا الرجوع يحصل ظاهرًا وباطنًا، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى، وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى، وهو المراد من قوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات، لكنه ليس كذلك، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة.
يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية، ويقدم على الشرك، ومن المفسرين من يقول: المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان، وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية يقرب من أن يكون تعلقًا بالوثن، فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي، ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور: أحدها: الدعاء.
وثانيها: التضرع.
وثالثها: الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله: {وَخُفْيَةً} ورابعها: التزام الاشتغال بالشكر، وهو المراد من قوله: {لَئِنْ أَنجَيتنا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين}. اهـ.