فصل: تفسير الآية رقم (65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}.
إن الحق ينجيهم من الظلمات المادية في البر البحر، وسبحانه بعلمه الأزلي يعلم أنهم بعد النجاة سيعودون إلى ما نهاهم عنه من شرك به؛ لأن الإنسان بطبيعته عندما يجد حياته مكتفية بما يملكه قد يقع فيما قاله الحق تبارك وتعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6- 7].
والإنسان قد يتجاوز حدوده ويتكبر على من حوله، بل وعلى ربه إن رأى نفسه صاحب ثراء، ولا يعصم الإنسان من مثل هذا الموقف إلا الإيمان بالله؛ لأن الإنسان بدون منهج الله يسبح في بحر الغرور والتكبر، ولكن من يحيا في ضوء منهج الله فهو يعرف كيف يرعى الله في كل إمكانات أو ثراء يمنحه له الله، وينشر معونته ليستظل بها المحتاج غير الواحد. ولذلك نجد أن كلمة الإنسان إذا أُطلقت تقترن بالخسارة. {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1- 2].
أي أن الإنسان على إطلاقه في خُسْر. ولكن الحق يستثني مَن؟.. {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3].
إذن فالإنسان المعزول عن منهج الله هو الذي يحيا في خسران، لكن من يعيش في رحاب المنهج هو الذي لا يخسر أبدًا. والإنسانحين يعيش دون منهج يصدر ويحدث منه ما رواه الحق سبحانه: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49].
لأن الذي يعيش دون منهج يدعو الله إن أصابه الضرّ، فإذا ما أنجاه الله ادعّى أن النجاة إنما كانت بأسباب امتلكها هو، وإذا ما أعطاه الله نعمة من النعم زاد في الادعاء وزعم أن هذه النعمة مصدرها علم من عنده هو ولا ينسب ذلك إلى الموجد الحقيقي وهو الله، إنّه نسي أن كل نعمة هي مجرد اختبار من الله. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}.
النّور الّذي يضيء في الظّلام:
مرّة أُخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغلّ بهم إِلى أعماق فطرتهم، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد، فيقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قل لهم: {قُل مَن يُنجّيكُم مِنْ ظُلمات البرِّ وَالبَحر}؟
إِنّ الظلام يكون حسيًا أحيانًا ومعنويًا أحيانًا أُخرى، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النّور إِنقطاعًا تامًا، أو يضعف بحيث لا يرى شيء، أو يرى بالجهد الجهيد، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة، الجهل... الإِضطرابات الإِجتماعية والإِقتصادية والفكرية، والإِنحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السئية، أو التي تجر إِلى التعاسة والشقاء... كلّها ظلام.
إِنّ الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات، فهجوم الكثير من الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام، أنّ لكل امرئ ذكرياته عن هذه الحالات، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها الأشباح المرعبة، فيستولي الخوف والهلع على العامّة من الناس.
الظلام من العدم، والإِنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه، ولهذا نراه يخاف الظلام.
وإِذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة، كأن يكون الإِنسان مسافرًا في البحر، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار، لأنّ الإِنسان في مثل هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه، وهكذا لو كان في ليلة حالكة الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة، في مثل هذه اللحظات ينسى الإِنسان كل شيء ولا يعود يتذكر شيئًا سوى نفسه، والنّور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إَزالة ما يعتوره من بلاء وضيق، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة الله، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات: {تدعونه تضرعًا وخفية}.
وتعقدون- وأنتم في تلك الحالة- عهدًا وميثاقًا على أنفسكم، وتقولون: {لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين}.
ثمّ تأمر الآية النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبرهم أنّ الله سوف ينجيهم من هذه ومن غيرها من الأخطار، وقد فعل ذلك من قبل مرارًا، ولكنّهم بعد زوال الخطر عنهم يعودون إِلى طريق الشرك والكفر: {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثمّ أنتم تشركون}.
ملاحظات:
هنا لابدّ من الإِلتفات إِلى عدّة نقاط:
1- لعل ذكر التضرع وهو الدعاء علانية، والخفية هي الدّعاء في السرّ، إِشارة إِلى أنّ المصائب تختلف، فالتي لم تصل مرحلة شديدة قد تستدعي الدعاء خفية، وعندما تكون شديدة تحمل المرء على أن يرفع يديه بالدعاء جهرًا، وقد يصاحب ذلك البكاء والصراخ، أي أنّ الله يحل مشاكلكم خفيفها وشديدها.
2- يرى بعضهم أنّ الآية تشير إِلى أربع حالات نفسية في الإِنسان، كل واحدة منها ردة فعل معينة لظهور المشاكل: حالة الدعاء وحالة التضرع وحالة الإِخلاص وحالة تقديم الشكر عند النجاة من الأخطار.
ولكنّ الذي يؤسف له أن هذه الحالات تمر ببعض الناس مرورًا خاطفًا وكأنّه حالات اضطرارية في مواجهة الأخطار والمشاكل، وبما أنّها ليست مصحوبة بالوعي والإِدراك، فأنّها تخفت وتنطفئ بمجرّد إِنتهاء الأزمة.
وبناء على ذلك، فإِن هذه الحالات، وان تكن خاطفة، تستطيع أن تكون دليلا على معرفة الله لمن عسر عليه ادراك الدلائل الأُخرى.
3- الكرب في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها، وكذلك تعني العقدة المحكمة الشد في حبل الدلو، ثمّ أطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن التي تقلب قلب الإِنسان وتثقل عليه كالعقدة.
لذلك فإِنّ ذكر الكرب بما له من المعنى الواسع الذي يشمل أنواع المشاكل والأزمات بعد ذكر {ظلمات البرّ والبحر} والتي تشمل جانبًا من المشاكل فقط، يعتبر من قبيل ذكر مفهوم عام بعد بيان مفهوم خاص (تأمل بدقة).
وهذا يجدر بنا أنّ نذكر حديثًا تورده بعض التفاسير في هذه الآية:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي» (لا الثروات الضخمة التي هي حصيلة حرمان الآخرين، وتكون عبئًا على كاهل الإِنسان). اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ} عطف على الضمير المجرور بإعادةِ حرف الجر، وهو واجب عند البصريين، وقد تقدَّم.
والكَرْبُ غاية الغَمِّ الذي يأخذ النَّفْسَ.
قوله: {ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ} يريد أنهم يُقرُّونَ أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي يُنَجِّيهم، ثم يشركون معه الأصنامَ التي علموا أنها لا تضر ولا تنفع. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}.
المتفرِّدُ بالقدرة على إيجادكم اللهُ، والذي هو (الخَلَفَ) عما يفوتكم اللهُ، والذي حكَمَ بنجاتكم اللهُ، والذي يأخذ بأيديكم كلما عَثرْتم اللهُ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (65):

قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانوا بإشراكهم كأنهم يظنون أن الشدة زالت عنهم زوالًا لا يعود، وكان اللائق بهم دوام التذلل إما وفاء وإما خوفًا، أخبرهم ترهيبًا لهم من سطوته وتحذيرًا من بالغ قدرته أن شدتهم تلك التي أذلتهم لم تزل في الحقيقة، فإن قدرة الملك عليها حالة الرخاء كقدرته عليها في وقتها سواء، فإنه خالق الحالتين وأسبابهما وما فيهما، ولكنهم عمي الأبصار أجلاف الطبائع فقال: {قل هو} أي وحده {القادر} ولم يصغه صيغة مبالغة لأنهم لم يكونوا ينكرون قدرته إنما كانوا يدعون المشاركة التي نفاها بالتخصيص، على أن التعريف يفيد به المبالغة {على أن يبعث} أي في أيّ وقت يريده {عليكم} أي في كل حالة {عذابًا من فوقكم} بإسقاط السماء قطعًا أو شيء منها كالحجارة التي حصب بها قوم لوط وأصحاب الفيل أو بتسليط أكابركم {أو من تحت أرجلكم} أي بالخسف أو إثارة الحيات أو غيرها من الأرض كما وقع لبعض من سلف، أو بتسليط سفلتكم وعبيدكم عليكم {أو يلبسكم} أي يخلط بينكم حال كونكم {شيعًا} أي متفرقين، كل شيعة على هوى، فيكون ذلك سببًا للسيف {ويذيق بعضكم} أي بعض تلك الشيع {بأس بعض} فيساوي في ذلك بين الحرم وغيره، ويصير التخطف بالنهب والغارات عامًا، وسوق هذا الكلام هكذا يفهم إيقاعه في وقت ما لناس ما، لأن كلام الملوك يصان عن أن لا يكون له صورة توجد وإن كان على سبيل الشرط ونحوه، فكيف بملك الملوك علام الغيوب! وللتدريب على مثل هذا الفهم في كلام الله تعالى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد.
وقال: حسن غريب، وسيأتي لهذا مزيد بسط وتحقيق في قوله تعالى في الفرقان {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك} [الفرقان: 10].
ولما كان هذا بيانًا عظيمًا، أشار إلى عظمه بقوله: {انظر} وعظمه تعظيمًا آخر بالاستفهام فقال: {كيف نصرف الآيات} أي أي نكررها موجهة في جميع الوجوه البديعة النافعة البليغة {لعلهم يفقهون} أي ليكون حالهم حال من يرجى فهمه وانتفاعه به، كان هذا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف فبين كونه تعالى قادرًا على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة، وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم، وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان: الأول: حمل اللفظ على حقيقته فنقول: العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق، كما في قصة نوح والصاعقة النازلة عليهم من فوق.
وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق.
كما حصب قوم لوط، وكما رمى أصحاب الفيل، وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم.
فمثل الرجفة، ومثل خسف قارون.
وقيل: هو حبس المطر والنبات وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق، وظهورها من أسفل.
القول الثاني: أن يحمل هذا اللفظ على مجازه.
قال ابن عباس: في رواية عن عكرمة عذابًا من فوقكم أي من الأمراء، ومن تحت أرجلكم من العبيد والسفلة.
أما قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} فاعلم أن الشيع جمع الشيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والجمع شيع وأشياع.
قال تعالى: {كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} [سبأ: 54] وأصله من الشيع وهو التبع، ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضًا.
قال الزجاج قوله: {يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق، فيجعلكم فرقًا ولا تكونون فرقة واحدة، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضًا وهو معنى قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية شق ذلك على الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: «ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك» فقال له جبريل: إنما أنا عبد مثلك فادع ربك لأمتك، فسأل ربه أن لا يفعل بهم ذلك.
فقال جبريل: إن الله قد أمنهم من خصلتين أن لا يبعث عليهم عذابًا من فوقهم كما بعثه على قوم نوح ولوط، ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون ولم يجرهم من أن يلبسهم شيعًا بالأهواء المختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض بالسيف.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة الناجية فرقة» وفي رواية أخرى: «كلهم في الجنة إلا الزنادقة». اهـ.