فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن فالناس هم الذين يطيلون على أنفسهم أمد القضاء.
ولذلك عرف سيدنا إبراهيم هذه القضية: قضية فهمه لعالم الملكوت. فلما قيل له: اذبح ابنك لم يرد أن يمر ابنه بفترة سخط على تصرف أبيه؛ لأنه إن أخذه من يده وفي يده الأخرى السكين فلابد أن تكون هذه اللحظة مشحونة بالسخط، فيحرم من الجزاء، فيبين له المسألة. ويقول القرآن حكاية عن إبراهيم: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]
وهذا القول يريد به إبراهيم أن ينال ابنه ثواب الاستسلام وهو دليل محبة إبراهيم لولده، فماذا قال إسماعيل: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102]
قال إسماعيل ذلك ليأخذ عبودية الطاعة. ويؤكد القرآن رضا إبراهيم وابنه بالقضاء فيقول: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]
وهذا القبول بالقضاء هو ما يرفعه. لذلك يقول القرآن بعدها: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104- 105]
ويفدي الله إسماعيل بذبح عظيم، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يرزق الله إبراهيم بولد آخر؛ لأنه فهم ملكوت السموات والأرض، وعرف نهاية الأشياء. فإذا ما أصيب الإنسان بمصيبة فما عليه إلا أن يرضى ويقول: ما دامت هذه المصيبة لا دخل لحركتي فيها، وأجراها عليّ خالقي فهي اختبار منه سبحانه ولا يوجد خالق يفسد ما خلق. ولا صانع يفسد ما صنع، ولابد أن لذلك حكمة عنده لا أفهمها أنا، لكني واثق في حكمته.
إن طريق الخلاص من أي نائبة من النوائب أن يرضى المؤمن بها، فتنتهي. ومن تحدث له مصيبة بأن يموت ولد له، ويظل فاتحًا لباب الحزن في البيت، وتبكي الأم كلما رأت من في مثل سنّه فسيظل باب الحزن مفتوحا، وإن أرادوا أن يزيل الله عنهما هذا الابتلاء فليقفلا باب الحزن بالرضا. وليعلم كل مؤمن أن ما أخذ منه هو معوض عنه بأجر خير منه، والمأخوذ الذي قبضه الله إليه وتوفاه معوض بجزاء خير مما يترك في الدنيا، ولذلك يقال: المصاب ليس من وقعت عليه مصيبة وفارقه الأحباب، بل المصاب من حُرم الثواب، فكأنه باع نكبته بثمن بخس. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{وكذلك} في هذه الآيات ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها للتشبيه، وهي في مَحَلِّ نصب نَعْتًا لمصدر محذوف، فقدره الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتصيير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت.
وقَدَّرَهُ المَهْدَوِيُّ: وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم.
قال أبو حيان: وهذا بعيدٌ من دلالة اللفظ.
قال شهاب الدين: إنما كان بعيدًا؛ لأن المحذوف من غير المَلْفُوظِ به، ولو قدره بقوله: وكما أريناك يا محمد الهداية، لكان قريبًا لدلالة اللفظ معًا عليه.
وقدَّرهُ أبو البقاء بوجهين:
أحدهما: قال: هو نَصْبٌ على إضمار أرَيْنَاهُ تقديره: وكما رآه أباه وقومه في ضلال مبين، أريناه ذلكح ما رآه صوابًا بإطلاعنا إياه عليه.
الثاني: قال: ويجوز أن يكون منصوبًا بـ {نرى} التي بعده على أنه صِفَةٌ لمصدر محذوف؛ تقديره نريه ملكوت السموات والأرض رُؤيةَ كرؤية ضلال أبيه انتهى.
قال شهابُ الدين فقوله: على إضمار أريناه لا حاجة إليه ألْبَتَّة، ولأنه يقتضي عدم ارتباط قوله: {نري إبراهيم ملكوت} بما قبله.
الثاني: أنها للتَّعْلِيلِ بمعنى اللام أي: ولذلك الإنكار الصَّادرِ منه عليهم، والدعاء إلى الله في زَمَنٍ كان يُدْعَى في غير الله آلهة نريه ملكوت.
الثالث: أن الكاف في مَحَلِّ رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: والأمر كذلك، أي كما رآه من ضلالتهم نقل الوجهين الآخرين أبو البقاء وغيره.
و{نُرِي} هذا مضارع، والمراد به حكاية حالِ ماضيه، والتقدير: كذا نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض.
و{نري} يحتمل أن تكون المُتعدِّية لاثنين؛ لأنها في الأصل بصرية، فأكسبتها همزة النقل مفعولًا ثانيًا، وجعلها ابن عطية مَنْقُولةً من رأى بمعنى عرف، وكذلك الزمخشري فإن قال فيما قدمت حكايته عنه: ومثل ذلك التعريف نُعَرِّف.
قال أبو حيان بعد حكايته كلام ابن عطية: ويحتاج كون رأى بمعنى عرف ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عند العربِ، والذي نقل النحويون أن رأى إذا كانت بصريَّة تعدَّتْ لمفعول، وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدَّتْ إلى مفعولين.
قال شهابُ الدِّين: والعَجَبُ كيف خص بالاعتراض ابن عطية دون الزمخشري، وهذه الجملة المُشْتَمِلةُ على التشبيه، أو التعليل معترضة بين قوله: {وإذْ قال إبراهيمُ} منكرًا على أبيه وقومه عبادَةَ الأصنام، وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله تعالى ويجوز ألاَّ تكون معترضةً إن قلنا: إن قوله: {فلما} عطف على ما قبله، وسيأتي والملكوت مصدر على فَعَلُوت بمعنى المُلْك، وبني على هذه الزِّنَةِ، والزيادة للمبالغة.
قال القرطبي: وزيدت الواو النافية للمبالغةِ، وقد تقدم ذلك عند ذكر {الطاغوت} [البقرة: 256]
والجمهور على {ملَكُوت} بفتح اللام.
وقرا أبو السَّمَّال بسكونها، وهي لغة: والجمهور أيضًا على {ملكوت} بتاء مثناة.
وعكرمة قرأها مثلثة، وقال: أصلها ملكوثا باليونانية أو بالنبطية.
وعن النخعي هي ملكوثا بالعبرانية، وعلى هذا قراءة الجمهور يحتمل أن تكون من هذا، وإنما عُرِّبَتِ الكلمة فَتَلاعَبُوا بها، وهذا كما قالوا في اليهود بأنهم سُمُّوا بذلك لأجل يَهُوذَا بن يعقوب بذال معجمة، ولكن لما عُرَّبَتْهُ العرب أوا بالدَّال المهملة، إلا أن الأحْسَنَ أن يكون مُشْتَقًّا من المُلْكِ؛ لأن هذه الزِّنَةَ وَرَدَتْ في المصادر كالرَّغبوت والرَّهَبُوت والرَّحَمُوت والجَبرُوت والطَّاغُوت وهل يختص ذلك بمُلْكِ الله تعالى أم يقال له ولغيره؟.
فقال الراغب: والملكُوت مُخْتَصٌ بمُلْكِا لله تعالى وهذا الذي ينبغي.
وقال أبو حيَّان: ومن كلامهم: له ملكوت اليمن، وملكوت العراق، فعلى هذا لا يختص.
والجمهور على {نرى} بنون العظمة.
وقرئ: {تُري} بتاء من فوق إبراهيم نصبًا، ملكوت رفعًا، أي: تريه دلائل الربوبية، فأسند الفعل إلى الملكوت مُؤوَّلًا بمؤنث، فلذلك أنَّثَ فعله.
قوله: {وليكون} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الواو زائدة، أي: نريه ليكون من المؤمنين بالله، واللام متعلقة بالفعل قبلها، إلا أن زيادةَ الواوِ ضعيفة ولم يقل بها إلاَّ الأخْفَش ومن تابعه.
الثاني: أنها علَّة لمحذوف، وليكون اريناه إياه ذلك، والتقدير: وليكون من الموقنين برؤية مَلَكُوتِ السَّموات والأرض.
الثالث: أنها عطف على علَّةٍ محذوفة، أي: ليستدل وليكون، أو ليقيم الحُجَّة على قَوْمِهِ، واليقين: عبارة عن عِلْمِ يحصل بعد زال الشُّبْهِةِ بسبب التَّأمُّلِ، ولهذا المعنى لا يُوصَفُ علم الله بكونه يقينًا؛ لأنّ علمه غير مَسْبُوقٍ بالشبهة، وغير مُسْتَفَادٍ من الفِكْرِ والتأمل. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (76):

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت الأمور السماوية مشاهدة لجميع الخلق: دانيهم وقاصيهم، وهي أشرف من الأرضية، فإذا بطلت صلاحيتها للإلهية بطلت الأرضية من باب الأولى؛ نصب لهم الحجاج في أمرها، فقال مسببًا عن الإراءة المذكورة: {فلما جن} أي ستر وأظلم، وقصره- وإن كان متعديًا- دلالة على شدة ظلام تلك الليلة، ولذلك عداه بأداة الاستعلاء فقال: {عليه الّليل} أي وقع الستر عليه، فحجب ملكوت الأرض فشرع ينظر في ملكوت السماء {رأى كوكبًا} أي قد بزغ، فكأنه قيل: فماذا فعل؟ فقيل: {قال هذا ربي} فكأنه مِنْ بَصْرِه أن أتى بهذا الكلام الصالح لأن يكون خبرًا واستفهامًا، ليوهمهم أنه مخبر، فيكون ذلك انفى للغرض وأنجى من الشعب، فيكون أشد استجلابًا لهم إلى إنعام النظر وتنبيهًا على موضع الغلط وقبول الحجة، ولمثل ذلك ختم الآية بقوله: {فلما أفل} أي غاب بعد ذلك الظهور الذي كان آية سلطان {قال لا أحب الآفلين} لأن الأفول حركة، والحركة تدل على حدوث المتحرك وإمكانه، ولا نظن أن يظن به أنه قال ما قاله أولًا عن اعتقاد ربوبية الكواكب، لأن الله تعالى قد دل على بطلان هذا التوهم بالإخبار بأنه أراه ملكوت الخافقين وجعله موقنًا، فاسند الأمر إلى نفسه تنبيهًا لهم، واستدل بالأفول لأن دلالته لزوال سلطانه وحقارة شأنه اتم، ولم يستدل بالطلوع لأنه- وإن كان حركة دالة على الحدوث والنقصان- شرف في الجملة وسلطان، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، والممكن لابد له من موجد واجب الوجود، يكون منتهى الآمال ومحط الرحال {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42] والأوساط يفهمون منه الحدوث للحركة، فلابد من الأستناد إلى قديم، والعوام يفهمون أن الغارب كالمعزول لزوال نوره وسلطانه، وأن ما كان كذلك لا يصلح للإلهية، وخص الأفول أيضًا لأن قومه الفرس كانوا منجمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان صاعدًا من المشرق إلى وسط السماء كان قويًا عظيم التأثير، فإذا كان نازلًا إلى المغرب كان ضعيف الأثر، والإله هو من لا يتغير، وهذا الاستدلال برهان في أن أصل الدين مبني على الحجة دون التقليد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} عطف على قوله: {قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ ءَازَرَ} وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِى} جملة وقعت اعتراضًا بين المعطوف والمعطوف عليه. اهـ.
قال الفخر:
قال الواحدي رحمه الله: يقال جن عليه الليل وأجنه الليل، ويقال: لكل ما سترته جن وأجن، ويقال أيضًا جنه الليل، ولكن الاختيار جن عليه الليل، وأجنه الليل.
هذا قول جميع أهل اللغة، ومعنى {جَنَّ} ستر ومنه الجنة والجن والجنون والجان والجنين والمجن والجنن والمجن، وهو المقبور.
والمجنة كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار، وقال بعض النحويين: {جَنَّ عَلَيْهِ الليل} إذا أظلم عليه الليل.
ولهذا دخلت على عليه كما تقول في أظلم.
فأما جنه فستره من غير تضمين معنى {أَظْلَمَ}. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد، فحبلت أم إبراهيم به وماأظهرت حبلها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام، فكانت الأم تأتيه أحيانًا وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربًا، فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت أنا، فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك، فقال للأب: ومن ربك؟ فقال: ملك البلد.
فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئًا يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء.
فقال: هذا ربي إلى آخر القصة.
ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: إن هذا كان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف عليه، ومنهم من قال: إن هذا كان قبل البلوغ.
واتفق أكثر المحققين على فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه:
الحجة الأولى: أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء.
الحجة الثانية: أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل.
والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءالِهَةً إِنّى أراك وقومك في ظلال مبين} [الأنعام: 74].
الحجة الثالثة: أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث قال: {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42] وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش.
ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام.
فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مرارًا وأطوارًا، ولا شك أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه.
فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف الله بمدة.
الحجة الرابعة: أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى، ومن كان منصبه في الدين كذلك، وعلمه بالله كذلك، كيف يليق به أن يعتقد إلهية الكواكب؟
الحجة الخامسة: أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجهًا وأكثر ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيبًا من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلًا عن أعقل العقلاء واعلم العلماء؟
الحجة السادسة: أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] وأقل مراتب القلب السليم أن يكون سليمًا عن الكفر، وأيضًا مدحه فقال: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالمين} [الأنبياء: 51] أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة.