فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

.قال ابن المثنى:

سورة الجنّ (72):
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{تعالى جدُّ ربِّنا (3)} علا ملك ربّنا وسلطانه..
{رهقا (6)} سفها وطغيانا..
{كُنّا طرائِق قِددا (11)} واحد الطرائق الطريقة واحد القدد قدّة أي ضروبا أو أجناسا..
{تحرّوْا رشدا (14)} توخّوا وعمدوا قال امرؤ القيس:
ديمة هطلاء فيها وطف ** طبق الأرض تحرّى وتدر

[916].
{ماء غدقا} (16) الغدق الكثير..
{عذابا صعدا} (17) مصدر الصعود وهو أشدّ العذاب..
{كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا} (19) جماعات، واحدها لبدة وكذلك يقال للجراد الكثير قال عبد مناف بن ربع:
صابوا بستة أبيات وأربعة ** حتى كأن عليهم جابيا لبدا

[917] الجابي الجراد الذي يجبى كلّ شيء يأكله. اهـ.

.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها الجن:

.[الجن: آية 11]:

{وأنّا مِنّا الصّالِحُون ومِنّا دُون ذلِك كُنّا طرائِق قِددا (11)}.
قوله سبحانه: {وأنّا مِنّا الصّالِحُون ومِنّا دُون ذلِك كُنّا طرائِق قِددا} [11] وهذه استعارة. والمراد بذلك- واللّه أعلم- كنا ضروبا مختلفة، وأجناسا مفترقة.
والطرائق: جمع طريقة. وهى- في هذا الموضع- المذهب والنحلة. والقدد: جمع قدّة، وهى القطعة من الشيء المقدود طولا، مثل فلذة وفلذ، وقربة وقرب. وقد غلب على ما كان من القطع طولا لفظ القدّ، وعلى ما كان من القطع عرضا لفظ القطّ. فكأنه سبحانه شبه اختلافهم في الأحوال، وافتراقهم في الآراء بالسّيور المقدودة، التي تتفرق عن أصلها، وتتشعب بعد ائتلافها.

.[الجن: آية 15]:

{وأمّا الْقاسِطُون فكانُوا لِجهنّم حطبا (15)}.
وقوله سبحانه: {أمّا الْقاسِطُون فكانُوا لِجهنّم حطبا} [15] وهذه استعارة.
والمراد أن نار جهنم- ونعوذ باللّه منها- يستدام وقودها بهم، كما يستدام وقود النار بالحطب، لأن كل نار لابد لها من حشاش يحشها، ووقود يمدها.

.[الجن: آية 19]:

{وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا (19)}.
وقوله سبحانه: {وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا [19]} وهذه استعارة. واللّبد هاهنا كناية عن الجماعات المتكاثرة التي تظاهرت من الكفار على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أي اجتمعوا عليه متألبين، وركبوه مترادفين.
فكانوا كلبد الشّعر، وهى طرائقه وقطعه التي يركب بعضها بعضا. وواحدتها لبدة.
ومنه قيل: لبدة الأسد. وهى الشعر المتراكب على مناكبه. وذلك أبلغ ما شبّهت به الجموع المتعاظلة، والأحزاب المتألفة.
وقال بعض أهل التأويل: المراد بذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لما صلّى الصبح ببطن نخلة منصرفا من حنين، وقد حضره الوفد من الجن- وخبرهم مشهور- كادوا يركبون منكبه، ويطأون أثوابه، لما سمعوا قراءته، استحسانا لها، وارتياحا إليها، وتعجبا منها.
روى عن ابن عباس في هذا المعنى- وهو أغرب الأقوال- أن هذا الكلام من صلة كلام الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا. وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم لما قام ببطن نخلة يصلى بأصحابه عجب الجن الحاضرون من طواعيتهم له في الركوع والسجود والقيام والعقود، فلما رجعوا إلى قومهم قالوا في جملة ما قصّوه عليهم: وأنّه لما قام عبد اللّه يدعوه- أي يصلى له- كادوا يكونون عليه لبدا. أي كاد أصحابه يركبونه تزاحما عليه، وتدانيا إليه، واحتذاء لمثاله، واستماعا لمقاله. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الجن:
في سورة الجن إشارات إلى طبيعة العقيدة عند النصارى، وكيف جعلوا المسيح ابنا لله وإلها معه! لقد انتشرت هذه القالة في أقطار الأرض، وولدت عليها أجيال، حتى جاء القرآن فنفاها بشدة مؤكدا أن الله واحد ليس له أولاد..! وكانت العقيدة النصرانية قد بلغت الجن فاعتنقوها، ثم عرفوا في تطوافهم بالأرض ما يناقضها {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا}. وشرع الجن يفصلون ما تابوا عنه وعرفوا خطأه. إنه ما يسوغ أن تكون لله صاحبة ولا أن ينسل منها ابنا {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا}. وذكروا أن الذي بلغهم ذلك موغل في الوهم {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا}. ثم اعتذروا عن غفلتهم في قبول هذه الشائعة بأنهم ما تصوروا أن يكذب أحد على الله {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا}! ولكن رجالا من الإنس استمعوا إلى هذا اللغو ونشروه في الأرض وضللوا به جماهير غفيرة {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا}. وقد حسب الجميع أن أبواب السماء غلقت فلن ينزل ملك يوحى، ولن يحمل بشر رسالة أخرى تعود بالإيمان إلى أصله الصحيح، وتؤكد ما بلغه المرسلون الأولون من وحدانية الله وسيطرته المطلقة على الملكوت كله. لكن الله بعث نبيه الخاتم من العرب فطوفت رسالته بالمشارق والمغارب، معلنة أن الله لا ولد له ولا والد. إن هذه الرسالة كانت مفاجأة للمخطئين {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا}. والواقع أن الخطأ إذا سلحته الدولة بعنفوانها، وأقامت له أبراجا تدرسه وتحميه، ترك ظلاله في النفوس واستقرت أوضاعه قرونا. وقد نشر الاستعمار الرومانى عقيدة التثليث، واستطاع بالرغبة والرهبة أن يوطئ لها الأكناف. ولولا أن محمدا درع الحق الذي بعث به وفداه بالنفس والمال. لجعله الرومان في خبر كان.
ومن أين كان يعلم الجن أن الله واحد لا ولد له ولا والد. لولا الدعاة الذين حملوا الكتاب هنا وهناك، وقرعوا به الآذان؟ لقد شعرت الجن أن تغيرا ما يحدث في الكون، وأن الوحى النازل يحيط به حرس شديد حتى لا ينقص منه شيء {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا}. والغريب أن الحراسة التي صاحبت نزول القرآن من السماء لم تتركه وهو يسير في الأرض، فتحولت حفظا صانه حرفا حرفا ونغمة نغمة. وقد آمن الجن بالإسلام عن تصديق واقتناع {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا}. ويظهر أن أعدادا من الجن رفضت الانقياد للحق وعالنت بتمردها عليه! وليس في ذلك ما يدهش، أليس ذلك صنيع بنى آدم؟ {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}. وقد سألنى أحد الناس: أتعرف أحدا من الجن؟ فعرفت غرضه، وقلت: ما رأيت منهم أحدا. فقال: كيف تصدق بما لم تره؟ فقلت: ليس كل موجود يرى. إن الجراثيم لضالتها لا ترى، والكواكب لبعدها لا ترى، والقرآن يقرر ذلك عن الجن عندما يقول: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}. ويستحيل أن الكون الذي تقاس أبعاده بالسنين الضوئية لا يكون به إلا البشر. وقد قلت في كتاب لى: إن الذي يبنى قصرا من ألف طابق، لا يسكن الطابق الأرضى وحده ويدع الباقى تصفر فيه الرياح، فلم خلقه؟ إننى أومن بالله الذي خلق الإنس والجن والملائكة {وما يعلم جنود ربك إلا هو}. وتقرر السورة هنا حقيقة جديرة بالتأمل. إن معرفة الله لا تكفى، لابد من أداء حقوقه على السراء والضراء. إن بعض الناس ينتمون إلى الله ويتمتعون بنعمته، ولكنهم يشغلون بها عنه ويحيون لأنفسهم وحدها. وقد رأيت جماهير من هذا الصنف. بل إن انتشار الكفر في الأرض يعود لمسالك أقوام عليهم الوحى، فلم يتجردوا له ويقوموا بحقه! في هؤلاء يقول الله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}.. ومن الإعراض المذموم أن تنشغل بما آتاك الله عما يجب عليك نحوه. وخواتيم هذه السورة تشهد لصاحب الرسالة بالبلاغ والتجرد {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا}. في الدنيا الآن نفر من رجال الدين يزعمون أنهم يملكون المغفرة للمخطئين، وأن مفاتيح دار الخلد بأيديهم!! وهذه المزاعم هي الثمرة الوحيدة للجهل بالله وسوء العلاقة معه، أما محمد خاتم النبيين فله شأن آخر {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا}. إنه عبد لله الواحد، يجاهد الشرك والخرافة وينطلق بعقيدة التوحيد ليملأ بها أرجاء العالم، وقد قسم أتباعه الليل والنهار فلا تمر برهة على خطوط الطول والعرض إلا وصائح في الشرق والغرب يهتف: الله أكبر الله أكبر... لا إله إلا الله. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الجن:
أقول: قد فكرت مدة في وجه اتصالها بما قبلها، فلم يظهر لي سوى أنه قال في سورة نوح: {استغفروا ربكم إِنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} وقال في هذه السورة: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} وهذا وجه بين في الارتباط. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 4):

قوله تعالى: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِن الْجِنِّ فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا (1) يهْدِي إِلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا (2) وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا (3) وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على اللّهِ شططا (4)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) أي المحيط بالكمال أرسل رسوله الخاتم بالهدى ليظهره على الدين كله بما له من الجلال والجمال (الرحمن) الذي بعموم رحمته عم بهذا الإرسال ليعم بالبيان ما يلزم الخلق من المقال والفعال (الرحيم) الذي خص من بيتن أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال لما سبق لهم من الفوز في أزل الآزال.
ولما كان نوح عليه الصلاة والسلام أول رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض، وكان قومه عباد أوثان، وعصوه أشد العصيان مع أنه كان منهم نسبا ولسانا، وختمت سورته بدعائه عليهم، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم من جميع الخلق، وكان قومه العرب قد وافقوا قوم نوح عليه السلام في أكثر أحوالهم عبادة الأوثان حتى تلك الأوثان إما بأساميها أو بأعيانها على ما ورد في الأخبار، وفي عصيان رسولهم واستضعاف أتباعه واستهزائهم ابتدئت، هذه بما كان من سهولة من سمع هذه الدعوة الخاتمة الجامعة من غير الجنس فضلا عن الموافقين في الجنس مع قصر الزمان وضعف الأعوان لجلالة هذا القرآن، فقال منبها له بالأمر على ما في هذا من عظيم القدر، مع الإشارة إلى تبكيت العرب على التباطؤ عن الإجابة إلى ما يعرفون من رشده بمعناه ونظمه، لكونه بلسانهم وكونهم من نوع الداعي وقبيله وأقرب الناس إليه {قل} أي يا محمد لقومك.
ولما كان المقصود تعظيم الموحى به، وأما الموحي إلى كل من الرسولين فواحد، بنى للمفعول قوله مبينا لسيرة الجن في تلقيهم لهذا القرآن بالأخذ إرثا من أشرف النبيين وإلقائهم له بالإبلاغ إلى غيرهم من وارث العلم منهم ليكون لهم الشرفان: شرف العلم لكمال أنفسهم، والتعليم لتكميل غيرهم، فيكون لهم مثل أجر من عمل بما ألقوه إليه وأملوه عليه: {أوحي إليّ} أي أخبرت على وجه الخفاء ممن لا يعلم الغيب غيره في هذا القرآن الذي اقتضى إعجازه أن أكون أكثر الأنبياء تابعا على لسان جبريل عليه السلام الذي هو أمينه والواسطة بينه وبين أنبيائه، ثم وضع موضع المفعول الذي لم يسم فاعله قوله: {أنه} أي الشأن العظيم {استمع} أي بغاية الإصغاء والإقبال والتقبل والإلف استماعا هو الاستماع في الحقيقة لأنه لقراءتي هذا القرآن {نفر} هم في غاية النفرة جبلة وطبعا {من الجن} الذين هم في غاية الاستتار، وهم أجسام حية عاقلة خفيفة تغلب عليها النارية أو الهوائية كما تغلب على أجسام الإنس الترابية، والنفر ما بين الثلاثة والعشرة، قال البغوي: وكانوا تسعة من جن نصيبين، وقيل: كانوا سبعة، وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته، وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره قال أبو حيان: المشهور أنه هو، وقيل: هو غيره، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى، والسورة التي استمعوها قال عكرمة: العلق، وقيل: الرحمن، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم، ويظهر من الحديث تعدد الواقعة، فمنها ما كان في المبدأ ولم يكن معه أحد من الصحابة-رضي الله عنهم- كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي في الصحيح «أنهم فقدوه صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي فالتمسوه في الأودية والشعاب، فلما أصبح إذا جاء من قبل حراء فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، ومنها ما كان معه عبد الله رضي الله عنه فذهب معه إلى الحجون عند الشعب فخط عليه خطا، وقال: لا تجاوزه، فانحدر عليه أمثال الحجل يجرون الحجارة بأقدامهم حتى غشوه فلا أراه، وأومأ إليّ بيده أن اجلس، فتلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع واختفوا بالأرض حتى ما أراهم» قال الأصبهاني: وقيل: كانوا من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس، وقال القشيري: لما رجمت الشياطين بالشهب فرق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا ثم أتوا قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته، وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومهم فأسلموا، فذلك قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه} [الأحقاف: 29] الآيات {فقالوا} أي فتسبب عن استماعهم أن قال من سمع منهم لمن لم يسمع، أو لمن كان يواخيهم من الإنس امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها» وكان قولهم سكونا إلى هذا القرآن وأنسابه، مؤكدين لبعد حالهم عن سماع الوحي وعلمهم بما زاد به من الإعجاز: {إنا} بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول {سمعنا} حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا {قرآنا} أي كلاما هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما نحتاج إليه، ثم وصفوه بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا: {عجبا} أي بديعا خارجا عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلا عن كلام الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب والوضع مع الموافقة لها في الدعوة إلى الله تعالى والبيان للمحاسن والمساوي والدعاء إلى كل فلاح حتى صار نفس العجب، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره فخفي سببه، وهذا يدل على قوتهم العلمية في فصاحتهم وكمالهم في علم الرسوم، وصوغ الكلام على أبلغ جهات النظوم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم ذكر حال كفار قريش في تعاميهم عن النظر وجريهم في اللدد والعناد حسبما انطوت عليه سورة ن والقلم، ثم أتبعت بوعيدهم في الحاقة ثم بتحقيقه وقرب وقوعه في المعارج ثم بتسليته عليه الصلاة والسلام وتأنيسه بقصة نوح عليه الصلاة والسلام مع قومه، أعقب ذلك بما يتعظ به الموفق ويعلم أن القلوب بيد الله: فقد كانت استجابة معاندي قريش والعرب أقرب في ظاهر الأمر لنبي من جنسهم ومن أنفسهم فقد تقدمت لهم معرفة صدقه وأمانته، ثم جاءهم بكتاب بلسانهم الذي به يتحاورون ولغتهم التي بها يتكلمون، فقد بهرت العقول آياته، ووضحت لكل ذي قلب سليم براهينه ومعجزاته، وقد علموا أنهم لا يقدرون على معارضته إلى ما شاهدوه من عظيم البراهين، ومع ذلك عموا وصموا- غضب الله عليهم ولعنهم- وسبق إلى الإيمان من ليس من جنسهم ولا سبقت له مزية تكريمهم، وهم الجن ممن سبقت لهم من الله الحسنى فآمنوا وصدقوا، وأمر صلى الله عليه وسلم بالإخبار بذلك، فأنزل الله تعالى عليه {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1] الآيات إلى قوله إخبارا عن تعريف الجن سائر أخوانهم بما شاهدوه من عناد كفار العرب {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} ثم استمرت الآي ملتحمة المعاني معتضدة المباني إلى آخر السورة- انتهى.
ولما بينوا فضله من جهة الإعجاز وغيره، بينوا المقصود بالذات الدال على غوصهم على المعاني بعد علمهم بحسن المباني فقالوا: {يهدي} أي يبين غاية البيان مع الدعاء في لطف وهدى {إلى الرشد} أي الحق والصواب الذي يكاد يشرد لثقله على النفوس الداعية إلى الهوى وخفة ضده الغي والسفة الملائم لنقائص النفوس.
ولما وصفوه بهذه الكمالات سببوا عن ذلك قولهم إعمالا للقوة العملية في المبادرة إلى الصواب من غير تخلف أصلا: {فآمنا} أي كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع {به} أي أوقعنا الأمان لمبلغ القرآن أن نكذبه أو نخالفه أدنى مخالفة بسبب هذا القرآن.
ولما أخبروا عن الماضي، وكان الإيمان لا يفيد إلا مع الاستمرار، قالوا عاطفين على ما تقديره: فوجدنا الله في الحال لأن ذلك نتيجة الإيمان بالقرآن وخلعنا الأنداد: {ولن} أي والحال أنا مع إيقاع الإيمان في الحال لن {نشرك} بعد ذلك أصلا، أكدوا لأنه أمر لا يكاد يصدق {بربنا} أي الذي لا إحسان قائم بنا من الإيجاد وما بعده إلا منه {أحدا} أي من الخلق لأنه لم يشركه في شيء من مرنا أحد، وقد وضحت الدلائل على التوحيد فيما سمعنا من هذا القرآن.
ولما أظهروا القوتين العلمية بفهمهم القرآن، والعملية بما حصل لهم من الإذعان، أعملوا ما لهم في الدعاء إلى الله تعالى من قوة البيان، فبعد أن نزهوه سبحانه عن الشرك عموما خصوا مؤكدين في قراءة ابن كثير والبصريين وأبي جعفر بالكسر لما تقدم من أن مثل هذه السهولة لا تكاد تصدق، فقالوا عطفا على {إنا سمعنا} [الجن: 1]: {وأنه} أي الشأن العظيم قال الجن: {تعالى} أي انتهى في العلو والارتفاع إلى حد لا يستطاع {جد} أي عظمة وسلطان وكمال غنى {ربنا} أي الموجد لنا والمحسن إلينا، وإذا كان هذا التعالي لجده فما بالك به، وكذا حكت هذه القراءة بقوله الجن ما بعد هذا إلا {وأن لو استقاموا} [الجن: 16] و{أن المساجد لله} [الجن: 18] و{أنه لما قام} [الجن: 19] فإنه مفتوح فيها عطفا على الموحى به فهو في محل رفع إلا عند أبي جعفر فإنه فتح {وأنه تعالى} [الجن: 3] و{أنه كان يقول} [الجن: 4] {وأنه كان رجال} [الجن: 6] ووافقهم نافع وأبو بكر عن عاصم في غير {وأنه لما قام} [الجن: 19] فإنهما كسراها وفتح الباقون وهم ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الكل إلا ما صدر بالفاء على أنه معطوف على محل الجار في {به} أي صدقناه وصدقنا أنه- لا على لفظه وإلا لزم إعادة الجارّ عند نحاة البصرة، وقيل: عطف على لفظ الضمير في {به} على المذهب الكوفي الذي نصره أبو حيان وغير واحد من أهل اللسان.
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص، بينوه بنفي ما ينافيه بقولهم إبطالا للباطل: {ما اتخذ} عبر بصيغة الافتعال بيانا لموضع النقص لا تقييدا {صاحبة} أي زوجة {ولا ولدا} لأن العادة جارية بأنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة وتسبيب، ومثل ذلك لا يكون إلا لمحتاج إلى بضاع أو غيره، والحاجة لا تكون إلا من ضعف وعجز، وذلك ينافي الجد، فالمحتاج لا يصح أصلا أن يكون إلها وإن كان بغير تسبيب ومهلة، فهو عبث لأن مطلق الاختراع مغن عنه، فلم يبق إلا العبث الذي ينزه الإله عنه والصاحبة لابد وأن تكون من نوع صاحبها، ومن له نوع فهو مركب تركيبا عقليا من صفة مشتركة وصفة مميزة، والولد لابد وأن يكون جزءا منفصلا عن والده، ومن له أجزاء فهو مركب تركيبا حسيا، ومن المقطوع به أن ذلك لا يكون إلا لمحتاج، وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي.
ولما تبين لهم ما هو عليه سبحانه من النزاهة عن كل شائبة نقص، وصفوا من قال بضده صيانة لدينهم وعرضهم بالترفع عن الخسائس والرذائل بعدم التمادي في الباطل مقتا للخلق في ذات الخلق مؤكدين لما للسامع في الغالب من تصديق ما يسمع والمحاجة عنه فقالوا: {وأنه} أي وقالوا إلى الشأن- هذا على قراءة الكسر، وآمنا بأنه- على قراءة الفتح {كان يقول} أي قولا هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة والطبع {سفيهنا} وهو الجنس فيتناول إبليس رأس الجنس تناولا أوليا، وكل من تبعه ممن لم يعرف الله لأن ثمرة العقل العلم، وثمرة العلم معرفة الله، فمن لم يعرفه فهو الذي يلازم الطيش والغي لأنه لا علم عنده أصلا يحمله على الرزانة، كاذبا متقولا {على الله} أي الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه في الولد {شططا} أي قولا هو في بعده عن الصواب نفس البعد ومجاوزة الحد. اهـ.