فصل: فائدة (في ذكر أقسام الحوادث في هذا العالم):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فائدة [في ذكر أقسام الحوادث في هذا العالم]:

أقسام الحوادث في هذا العالم محصورة في أربعة أقسام، أحدها: الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار، ويدخل فيها أيضًا أحوال البحار والصواعق والزلازل والخسف، وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة، وثالثها: اختلاف أحوال النبات، ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى: {وما خلق الله في السموات} والاستقصاء في شرح هذه الأحوال لا يدخل تحت الحصر، بل كل ما ذكر العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.
{لآيات} أي: دلالات على قدرته تعالى.
{لقوم يتقون} الله فإنه يحملهم على التفكر والتذكر، وخصهم بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بها.
قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أنّ الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلابد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.
ولما أقام الله سبحانه وتعالى الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحمن، وعلى صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر؛ شرع في شرح أحوال من يكفر بها، وشرح أحوال من يؤمن بها، وقد ابتدأ بأوّلها ووصفه بأربع صفات مبتدئًا بأوّلها بقوله تعالى: {إنّ الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافونه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، فهم مكّذبون بالثواب والعقاب والرجاء، يكون بمعنى الخوف، وبمعنى الطمع، فمن الأوّل قول العرب: فلان لايرجو فلانًا، بمعنى لا يخافه، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارًا} (نوح)، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
إذ لسعته النحل لم يرج لسعها

أي: لم يخفها. ومن الثاني قولهم: فلان يرجو فلانًا، أي: يطمع فيه، والمعنى: لا يطمعون في ثوابنا، والصفة الثانية والثالثة: قوله تعالى: {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} فيعملون لها عمل المقيم فيها مع ما يشاهدونه من سرعة زوالها منهمكين في لذاتهاوزخارفها، وسكنوا فيها سكون من لا ينزع عنها، والصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين هم عن آياتنا} أي: دلائل وحدانيتنا {غافلون} تاركون النظر فيها، بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدّة بعدهم عن طلب الاستعداد بالسعادات الأخروية، ويحتمل أنَّ الصفة الأخيرة لفريق آخر، ويكون المراد بالأوّلين: من أنكر البعث، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وبالآخر: من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له، ولما وصفهم الله تعالى بتلك الصفات قال: {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} من الشرك والمعاصي، ولما شرح أحوال المنكرين الجاحدين ذكر تعالى شرح من يؤمن بها فقال: {إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} والأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة مما يكون بالضدّ من ذلك.
{يهديهم} أي: يرشدهم.
{ربهم بإيمانهم} أي: بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لما يريدونه في الجنة، أو لإدراك الحقائق، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم».
وقال مجاهد: المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول: أنا عملك. فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار». ومفهوم ترتبِ الهداية على الإيمان، والعمل الصالح قد دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله جل وعلا: {بإيمانهم} على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم، وهي أربعة الأولى: قوله تعالى: {تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم} أي: يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين، والأنهار تجري من بين أيديهم، ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم، ونظيره قوله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سريًا} (مريم) فهي ما كانت قاعدة عليه، ولكن المعنى: بين يديك، وكذا قوله: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} (الزخرف)، أي: بين يدي فكذا هنا. الثانية قوله تعالى: {دعواهم فيها} قال بعض المفسرين: أي: طلبهم لما يشتهون في الجنة أن يقولوا: {سبحانك} أي: ننزهك من كل سوء ونقيصة.
{اللهمّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوا بين أيديهم على موائد، كل مائدة ميل في ميل، على كل مائدة سبعون ألف صحفة، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضًا، فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله تعالى، فذلك قوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وأن المراد بقوله: {سبحانك اللهم} اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله، وفي هذا الذكر سرورهم وابتهاجهم وكمال لذاتهم وهذا أولى، ويدل عليه ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخطون».
قالوا: فما بال الطعام؟ قال: «جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس»، أي: يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقًا.
الثالثة: قوله تعالى: {وتحيتهم} فيما بينهم وتحية الملائكة لهم {فيها} أي: الجنة {سلام} وتأتيهم الملائكة أيضًا من عند ربهم بالسلام.
قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم}، وقال تعالى: {سلام قولًا من رب رحيم}.
الرابعة: قوله تعالى: {وآخر دعواهم} أي: وآخر دعائهم.
{أن الحمد لله رب العالمين} أي: أن يقولوا ذلك، وأن هي المخففة من الثقيلة، وقد ذكرنا أنَّ بعض المفسرين حمل التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب، فإنهم إذا اشتهوا شيئًا قالوا: {سبحانك اللهم} فيحصل ذلك الشيء، فإذا فرغوا منه قالوا: {الحمد لله رب العالمين} فترتفع الموائد عند ذلك.
قال الرازي: وهذا القائل ما رقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق بمثل هذا الإنسان أن يعدّ في زمرة البهائم، وأما المحققون فقد تركوا ذلك. اه. ولا تنبغي هذه المبالغة، فقد قاله البغوي، وتبعه جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: أعلمَ اللهُ أنّ أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه.
قال البيضاوي: المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو الله تعالى، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ}
شرع الله سبحانه في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد، ومن يؤمن به، وقدّم الطائفة التي لم تؤمن، لأن الكلام في هذه السورة مع الكفار الذين يعجبون مما لا عجب فيه، ويهملون النظر والتفكر فيما لا ينبغي إهماله مما هو مشاهد لكل حيّ طول حياته، فيتسبب عن إهمال النظر، والتفكر الصادق: عدم الإيمان بالمعاد، ومعنى الرجاء هنا الخوف، ومنه قول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ** وخالفها في بيت نوبٍ عواسلِ

وقيل {يرجون}: يطمعون.
ومنه قول الشاعر:
أترجو بني مروان سمعي وطاعتي ** وقومي تميم والفلاة ورائيا

فالمعنى على الأوّل: لا يخافون عقابًا.
وعلى الثاني: لا يطمعون في ثواب إذا لم يكن المراد باللقاء حقيقته، فإن كان المراد به حقيقته كان المعنى: لا يخافون رؤيتنا، أو لا يطمعون في رؤيتنا.
وقيل: المراد بالرجاء هنا: التوقع، فيدخل تحته الخوف والطمع، فيكون المعنى: {لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} لا يتوقعون لقاءنا، فهم لا يخافونه، ولا يطمعون فيه {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} أي: رضوا بها عرضًا عن الآخرة، فعملوا لها {واطمأنوا بِهَا} أي: سكنت أنفسهم إليها، وفرحوا بها {والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون} لا يعتبرون بها، ولا يتفكرون فيها {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ} أي: مثواهم، ومكان إقامتهم النار، والإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة من عدم الرجاء، وحصول الرضا والاطمئنان، والغفلة {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: بسبب ما كانوا يكسبون من الكفر والتكذيب بالمعاد فهذا حال الذين لا يؤمنون بالمعاد.
وأما حال الذين يؤمنون به، فقد بيّنه سبحانه بقوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} أي: فعلوا الإيمان الذي طلبه الله منهم بسبب ما وقع منهم من التفكر والاعتبار، فيما تقدّم ذكره من الآيات {وَعَمِلُواْ الصالحات} التي يقتضيها الإيمان.
وهي ما شرعه الله لعباده المؤمنين {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي: يرزقهم الهداية بسبب هذا الإيمان المضموم إليه العمل الصالح، فيصلون بذلك إلى الجنة، وجملة: {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} مستأنفة، أو خبر ثان، أو في محل نصب على الحال.
ومعنى {من تحتهم}: من تحت بساتينهم، أو من بين أيديهم؛ لأنهم على سرر مرفوعة.
وقوله: {فِي جنات النعيم} متعلق بتجري أو بـ {يهديهم}، أو خبر آخر أو حال من {الأنهار}.
قوله: {دَعْوَاهُمْ} أي: دعاؤهم ونداؤهم، وقيل: الدعاء العبادة، كقوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] وقيل معنى {دعواهم} هنا: الادّعاء الكائن بين المتخاصمين، والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعايب والإقرار له بالإلهية.
قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما، وقيل معناه: طريقتهم وسيرتهم، وذلك أن المدّعي للشيء مواظب عليه، فيمكن أن تجعل الدعوى كناية عن الملازمة، وإن لم يكن في قوله: {سبحانك اللهم} دعوى ولا دعاء؛ وقيل معناه: تمنيهم كقوله: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} [ياس: 57] وكأن تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه، وهو مبتدأ وخبره {سبحانك اللهم}، و{فِيهَا} أي: في الجنة.
والمعنى على القول الأوّل: أن دعاءهم الذي يدعون به في الجنة هو تسبيح الله وتقديسه، والمعنى: نسبحك يا الله تسبيحًا.
قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي: تحية بعضهم للبعض.
فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، أو تحية الله أو الملائكة لهم، فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول.
وقد مضى تفسير هذا في سورة النساء، قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} أي: وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين.
قال النحاس: مذهب الخليل أن {أن} هذه مخففة من الثقيلة.
والمعنى: أنه الحمد لله.
وقال محمد بن يزيد المبرد: ويجوز أن تعملها خفيفة عملها ثقيلة.
والرفع أقيس، ولم يحك أبو عبيد إلا التخفيف.
وقرأ ابن محيصن بتشديد أنّ ونصب الحمد.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} قال: مثل قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، أيضًا في قوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} قال: يكون لهم نور يمشون به.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} قال: حدّثنا الحسن قال: بلغنا أن رسول الله قال: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة وريح طيبة، فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك عين امرئ صدق، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة؛ وأما الكافر، فإذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك عين امرئ سوء، فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار»، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله: «إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم» وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي الهذيل، قال: الحمد أوّل الكلام وآخر الكلام، ثم تلا: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}. اهـ.