فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}.
فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُنَزَّلَتَيْنِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ مِنْ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَاطِّرَادِ النِّظَامِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَاءِ الْخَالِقِ عَلَى عَرْشِهِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيُقِيمُ النِّظَامَ فِي الْخَلْقِ، الَّتِي سِيقَتْ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَحَقِّيَّةِ الْوَحْيِ.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} الضِّيَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَضَاءَ يُضِيءُ وَجَمْعُ ضَوْءٍ، كَسِيَاطٍ وَسَوْطٍ وَحِيَاضٍ وَحَوْضٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: {ضِئَاءً} عَلَى الْقَلْبِ بِتَقْدِيمِ لَامِ الْكَلِمَةِ عَلَى عَيْنِهَا.
قال فِي الْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ: (الضَّوْءُ) هُوَ النُّورُ (وَيُضَمُّ) وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ عِنْدَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلِذَا شَبَّهَ اللهُ هُدَاهُ بِالنُّورِ دُونَ الضَّوْءِ وَإِلَّا لَمَا ضَلَّ أَحَدٌ، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِقوله تعالى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ، وَحَقَّقَ فِي الْكَشْفِ أَنَّ الضَّوْءَ فَرْعُ النُّورِ وَهُوَ الشُّعَاعُ الْمُنْتَشِرُ، وَجَزَمَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا بِتَرَادُفِهِمَا لُغَةً بِحَسْبِ الْوَضْعِ، وَأَنَّ الضَّوْءَ أَبْلَغُ بِحَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ لِمَا بِالذَّاتِ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَالنُّورُ لِمَا بِالْعَرَضِ وَالِاكْتِسَابِ مِنَ الْغَيْرِ، هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَجَمْعُهُ أَضْوَاءٌ (كَالضِّوَاءِ وَالضِّيَاءِ بِكَسْرِهِمَا) لَكِنْ فِي نُسْخَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ ضَبْطُ الْأَوَّلِ بِالْفَتْحِ وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ، وَفِي التَّهْذِيبِ عَنِ اللَّيْثِ: الضَّوْءُ وَالضِّيَاءُ مَا أَضَاءَ لَكَ، وَنَقَلَ شَيْخُنَا عَنِ الْمُحْكَمِ أَنَّ الضِّيَاءَ يَكُونُ جَمْعًا أَيْضًا، قُلْتُ: هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (2: 20) اهـ.
وَأَقُولُ: يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي نُورِهِمَا قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (71: 16) وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} (25: 61) وَالسِّرَاجُ مَا كَانَ نُورُهُ مِنْ ذَاتِهِ. وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الضِّيَاءَ فِي الْآيَةِ جَمْعُ ضَوْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِكَوْنِ الْقَمَرِ نُورًا أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ مُفْرَدًا مِثْلُهُ.
وَجَهِلَ هَذَا الْمُسْتَبْعِدُ وَأَمْثَالُهُ مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَلْوَانِ النُّورِ السَّبْعَةِ، الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ فِي قَوْسِ السَّحَابِ فَهُوَ سَبْعَةُ أَضْوَاءٍ لَا ضَوْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي كَشَفَ لَنَا تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ مِنَ الْمَعْنَى فِيهَا مَا كَانَ النَّاسُ أَوِ الْعَرَبُ يَجْهَلُونَهُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، كَتَعْبِيرِهِ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ بِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ.
{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ}، التَّقْدِيرُ جَعَلَ الشَّيْءَ أَوِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ فِي الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، قال تعالى: {وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (73: 20) وَقَالَ فِي الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ سَبَأٍ وَالشَّامِ: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} (34: 18) وَقَالَ فِي الْمَقَادِيرِ الْعَامَّةِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (25: 2) وَالْمَنَازِلُ أَمَاكِنُ النُّزُولِ جَمْعُ مَنْزِلٍ وَالضَّمِيرُ لِلْقَمَرِ كَمَا فِي سُورَةِ يس: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (36: 39) أَيْ قَدَّرَ لَهُ أَوْ قَدَّرَ سَيْرَهُ فِي فَلَكِهِ فِي مَنَازِلَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُخْطِئُهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا مَعْرُوفَةٌ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ بِأَسْمَاءِ نُجُومِهَا الْمُحَاذِيَةِ لَهَا وَهِيَ.
الشَّرَطَانِ. الْبَطِينُ. الثُّرَيَّا. الدَّبَرَانِ. الْهَقْعَةُ. الْهَنْعَةُ. الذِّرَاعُ. النَّثْرَةُ. الطَّرَفُ. الْجَبْهَةُ. الزُّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ. الْعَوَّاءُ. السِّمَاكُ الْأَعْزَلُ. الْغَفْرُ. الزُّبَانَى. الْإِكْلِيلُ. الْقَلْبُ. الشَّوْلَةُ. النَّعَائِمُ. الْبَلْدَةُ. سَعْدُ الذَّابِحِ. سَعْدُ بُلَع. سَعْدُ السُّعُودِ. سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرِ (وَيُسَمَّيَانِ الْفَرْغَ الْأَوَّلَ وَالْفَرْغَ الثَّانِيَ). الرِّشَاءُ. وَيُرَاجِعْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ وَكُتُبِ الْفَلَكِ مَنْ شَاءَ. فَهَذِهِ الْمَنَازِلُ هِي الَّتِي يُرَى فِيهَا الْقَمَرُ بِالْأَبْصَارِ، وَيَبْقَى مِنَ الشَّهْرِ لَيْلَةٌ إِنْ كَانَ 29 وَلَيْلَتَانِ إِنْ كَانَ 30 يَوْمًا يَحْتَجِبُ فِيهِمَا فَلَا يُرَى. {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا بِمَا ذَكَرَ مِنْ صِفَةِ النَّيِّرَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ؛ لِضَبْطِ عِبَادَاتِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَلَوْلَا هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ لَتَعَذَّرَ عَلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ حِسَابَ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ فَنٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالدِّرَاسَةِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الشَّرْعُ الْإِسْلَامِيُّ الْعَامُّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ شَهْرَ الصِّيَامِ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَعِدَّةَ الطَّلَاقِ وَمُدَّةَ الْإِيلَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الْقَمَرِيِّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمٍ فَنِّيٍّ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إِلَّا فِي بِلَادِ الْحَضَارَةِ. وَلِعِبَادَتَيِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ دَوَرَانُهُمَا فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ، فَيَعْبُدُ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِنْ حَارَّةٍ وَبَارِدَةٍ وَمُعْتَدِلَةٍ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْحِسَابِ الشَّمْسِيِّ وَلَهُ فَوَائِدُ أُخْرَى، وَقَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (55: 5) وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (17: 12) وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْغِيبٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْجُغْرَافِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ وَقَدْ بَرَعَ فِيهِمَا أَجْدَادُنَا بِإِرْشَادِهَا.
ثُمَّ قَالَ: {مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} أَيْ مَا خَلَقَ اللهُ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ تُفِيضُ أَشِعَّتَهَا عَلَى كَوَاكِبِهَا التَّابِعَةِ لِنِظَامِهَا، فَتَبُثُّ الْحَرَارَةَ وَالْحَيَاةَ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ فِيهِنَّ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ضَوْءٍ مِنْهَا مِنَ الْخَوَاصِّ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ، وَيُبْصِرُ النَّاسُ فِيهَا جَمِيعَ الْمُبْصَرَاتِ فَيَقُومُونَ بِأُمُورِ مَعَايِشِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِهِمْ، وَمَا خَلَقَ الْقَمَرَ ذَا نُورٍ مُسْتَمَدٍّ مِنَ الشَّمْسِ تَنْتَفِعُ بِهِ السَّيَّارَةُ فِي سَرَاهُمْ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ يَعْرِفُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ السِّنِينَ وَالشُّهُورَ- مَا خَلَقَ ذَلِكَ إِلَّا مُتَلَبِّسًا وَمُقْتَرِنًا بِالْحَقِّ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْعَامَّةُ لِحَيَاةِ الْخَلْقِ، وَنِظَامِ مَعَايِشِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ عَبَثٌ وَلَا خَلَلٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَسْرَارِ الضَّوْءِ وَحِكَمِهِ مَا صَارَ بِهِ عِلْمًا وَاسِعًا تَحَارُ الْعُقُولُ فِي نَظْمِهِ وَحِكَمِهِ، مِنْ أَصْغَرِ ذَرَّاتِهِ إِلَى أَعْظَمِ مَجَامِعِ نَيِّرَاتِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مِنْ هَذَا الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، أَنْ يَخْلُقَ هَذَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَيُعَلِّمَهُ الْبَيَانَ، وَيُعْطِيَهُ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ فِي عَالَمِهِ، مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِإِظْهَارِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ حِكَمِهِ وَخَوَاصِّ خَلْقِهِ، وَسُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ، وَيَجْعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ، ثُمَّ يَتْرُكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، يَمُوتُ وَيَفْنَى، ثُمَّ لَا يُبْعَثُ وَلَا يَعُودُ؛ لِيُجْزَى الْمُرْتَقُونَ مِنْهُ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلِيُجْزَى الْمُشْرِكُونَ الْخُرَافِيُّونَ، وَالظَّالِمُونَ الْمُجْرِمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ أَنْعَمَ فِي الدُّنْيَا مَعِيشَةً مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (68: 35 و36) وَ{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (38: 28)؟.
{يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْمُنْتَفِعِينَ بِهَذِهِ الْحُجَجِ أَيْ نُبَيِّنُ الدَّلَائِلَ مِنْ حِكَمِ خَلْقِنَا، عَلَى مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَى رَسُولِنَا مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، مُفَصَّلَةً مُنَوَّعَةً مِنْ كَوْنِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ دَلَالَةِ الدَّلَائِلِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النِّظَامِ بِالْحَقِّ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْعَجِيبِ عَبَثًا، وَلَا أَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى وَفِي الْآيَةِ تَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْعِلْمِ وَكَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينًا عِلْمِيًّا لَا تَقْلِيدِيًّا، وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِآيَةٍ مُذَكِّرَةٍ بِسَائِرِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فِي حُدُوثِهِمَا وَتَعَاقُبِهِمَا فِي طُولِهِمَا وَقِصَرِهِمَا؛ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ مَوَاقِعِ الْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ لَهُمَا بِحَرَكَتَيْهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالسَّنَوِيَّةِ، وَطَبِيعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَا يَصْلُحُ فِيهِ مِنْ نَوْمٍ وَسُكُونٍ وَعَمَلٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أَيْ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى سُنَنِهِ فِي النِّظَامِ، وَحِكَمِهِ فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، وَفِي تَشْرِيعِ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ عَوَاقِبَ مُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي التَّكْوِينِ، وَسُنَنِهِ فِي التَّشْرِيعِ، فَالْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ سُنَنَ الصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ يَمْرَضُونَ، وَالشُّعُوبُ الَّتِي تُخَالِفُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ تَخْرُبُ بِلَادُهَا، وَتَضْعُفُ دُوَلُهَا، وَيُغَيِّرُ اللهُ تَعَالَى مَا بِهَا بِتَغْيِيرِهَا مَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ هِدَايَتَهُ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ فَيُدَنِّسُونَهَا بِالشِّرْكِ وَالْخُرَافَاتِ، وَيُفْسِدُونَهَا بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، يُجْزَوْنَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُجْزَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا فِي الدُّنْيَا (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى).
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ بَيَانٌ لِحَالِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْغَافِلِينَ، وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَجَزَائِهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ.
قال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: رَجَوْتُهُ أَرْجُوهُ رُجُوًّا- عَلَى فُعُولٍ- أَمَّلْتُهُ أَوْ أَرَدْتُهُ، قال تعالى: {لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} (24: 60) أَيْ يُرِيدُونَهُ، وَالِاسْمُ رَجَاءٌ بِالْمَدِّ، وَرَجَيْتُهُ أَرْجِيهِ مِنْ بَابِ رَمَى لُغَةً، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِيَ يَخَافُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا يَتَرَجَّاهُ. اهـ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرَّجَاءُ ظَنٌّ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (71: 13)؟ قِيلَ: مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ؟ وَمَثَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ لِحَقِيقَةِ الرَّجَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ، وَالرُّشْدِ فِي الْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ الرَّجَاءِ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاكْتِرَاثِ، يُقَالُ: لَقِيتُ هَوْلًا مَا رَجَوْتُهُ وَمَا ارْتَجَيْتُهُ.
وَمَثَّلَ لَهُ بِشِعْرٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّجَاءَ: الْأَمَلُ وَالتَّوَقُّعُ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ وَنَفْعٌ، وَأَنَّ الْخَوْفَ تَوَقُّعُ مَا فِيهِ شَرٌّ وَضُرٌّ، فَهُمَا مُتَقَابِلَانِ كَمَا قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (17: 57) وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ 11 و15 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ 21 مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ مِنْ رَجَاءِ لِقَاءِ اللهِ مَنْفِيًّا يَحْتَمِلُ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقَوْمٍ وَالرَّجَاءِ لِآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} (78: 27).
وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الرَّجَاءَ هُنَا بِمُجَرَّدِ التَّوَقُّعِ الَّذِي يَشْمَلُ مَا يَسُرُّ وَمَا يَسُوءُ. وَاللِّقَاءُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْمُوَاجَهَةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَنَا فِي الْآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّلُونَ لِقَاءَهُ الْخَاصَّ بِالْمُتَّقِينَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِلِقَاءِ الرُّؤْيَةِ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَصَارَ كُلُّ هَمِّهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ مَحْصُورًا فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلِهِمْ لَهَا، كَمَا قَالَ فِي الْمُتَثَاقِلِينَ عَنِ النَّفِيرِ لِلْجِهَادِ: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} (9: 38)؟ الْآيَةَ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا بِسُكُونِ نُفُوسِهِمْ وَارْتِيَاحِ قُلُوبِهِمْ بِشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزِينَتِهَا لِيَأْسِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْهَا عَلَى رَسُولِنَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَالْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْكَوْنِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجِهَادِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، فَكَانُوا بِهَذِهِ الْغَفْلَةِ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَنَا، فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَشْغَلُهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ فَلَا يَسْتَعِدُّ لِحِسَابِنَا لَهُ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ مَأْوَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَارُ الْعَذَابِ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ الْمُدَنِّسَةِ لِأَنْفُسِهِمْ بِخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَعْمَالِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَظُلُمَاتِ الْمَظَالِمِ الْوَحْشِيَّةِ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهَا الَّذِي دَنَّسَ أَنْفُسَهُمْ وَأَحَاطَ بِهَا، فَلَمْ يَعُدْ لِنُورِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَكَانٌ فِيهَا. وَالْمَأْوَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَلْجَأُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ أَوِ الْخَائِفُ أَوِ الْمُحْتَاجُ مِنْ مَكَانٍ آمِنٍ أَوْ إِنْسَانٍ نَافِعٍ، كَمَا تَرَى فِي اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِهِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ كَقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} (93: 6) {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (18: 10) {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} (8: 72) {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} (12: 69) {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (11: 80) إِلَخْ، إِلَّا لَفْظَ الْمَأْوَى فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَنَّةِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ وَعَلَى النَّارِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْهَا آيَةُ يُونُسَ هَذِهِ، وَفِي تَسْمِيَةِ دَارِ الْعَذَابِ مَأْوًى مَعْنًى دَقِيقٌ فِي الْبَلَاغَةِ دَخِيلٌ فِي أَعْمَاقِهَا، فَائِضٌ مِنْ جَمِيعِ أَرْجَائِهَا، يُشْعِرُكَ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُطْمَئِنِّينَ بِالشَّهَوَاتِ، وَالْغَافِلِينَ عَنِ الْآيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ مَصِيرٌ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ هَوْلِ الْحِسَابِ، إِلَّا جَهَنَّمَ دَارَ الْعَذَابِ، فَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ لَهُ كَالْمَلْجَأِ وَالْمَوْئِلِ؛ إِذْ لَا مَأْوَى لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا.
هَذَا بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِقَسَمَيْهِ، وَالْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لَهُ تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَالْعِلْمِ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أَيْ يَهْدِيهِمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِهِ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ، وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ لَازِمُ الْإِيمَانِ وَمُغَذِّيهِ وَمُكَمِّلُهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي؛ لِبَيَانِ صِنْفِهِمْ وَفَرِيقِهِمُ الْمُقَابِلِ لِلْفَرِيقِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِهِدَايَةِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ كَسْبِ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ سَبَبَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ لَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِيهِمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ فِيهَا: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ مَقَاعِدِهِمْ مِنْ غُرُفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ وَمِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، وَتَقَدَّمَ لَفْظُ: جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5: 65) وَلَفْظُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 43) وَأَمَّا {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يَعْنِي الْجَنَّةَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مُكَرَّرًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ- وَهُوَ الْعَمَلُ- لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَالِ مَنْ يَمُوتُ عَقِبَ إِيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ، وَدُخُولُ مِثْلِ هَذَا الْجَنَّةِ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْعَامَّةَ لِلْأَحْوَالِ الْعَادِيَّةِ الْغَالِبَةِ.