فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ}
المرور: مجاوزة الشيء والعبور عليه، تقول: مررت بزيد جاوزته.
والمرة: القوة، ومنه ذو مرة.
ومرر الحبل قواه، ومنه: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}: ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعمه في طغيانه، بيِّن شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم، وأنّ من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حاله مس الضر له، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر.
والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين كما قيل: إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي قاله: ابن عباس ومقاتل.
وقيل: عقبة بن ربيعة.
وقيل: الوليد بن المغيرة.
وقيل: هما قاله عطاء.
وقيل: النضر بن الحرث، وأنه لا يراد به الكافر، بل، المراد الإنسان من حيث هو، سواء كان كافرًا أم عاصيًا بغير الكفر.
واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد، واحتملت أن تكون لأشخاص، إذ الإنسان جنس.
والمعنى: أنّ الذي أصابه الضر لا يزال داعيًا ملتجئًا راغبًا إلى الله في جميع حالاته كلها.
وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض، وهي أعظم في الدعاء وآكد ثم بما يليها، وهي حالة القعود، وهي حالة العجز عن القيام، ثم بما يليها وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم.
ولجنبه حال أي: مضطجعًا، ولذلك عطف عليه الحالان، واللام على بابها عند البصريين والتقدير: ملقيًا لجنبه، لا بمعنى على خلافًا لزاعمه.
وذو الحال الضمير في دعانا، والعامل فيه دعانا أي: دعانا ملتبسًا بأحد هذه الأحوال.
وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون حالًا من الإنسان، والعامل فيه مس.
ويجوز أن يكون حالًا من الفاعل في دعانا، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان.
والضر: لفظ عام لجميع الأمراض.
والرزايا في النفس والمال والأحبة، هذا قول اللغويين.
وقيل: هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض انتهى.
والقول الأول قول الزجاج.
وضعف أبو البقاء أن يكون لجنبه فما بعده أحوالًا من الإنسان والعامل فيها مس، قال: لأمرين: أحدهما: أنّ الحال على هذا واقع بعد جواب إذا وليس بالوجه.
والثاني: أنّ المعنى كثرة دعائه في كل أحواله، لا على الضر يصيبه في كل أحواله، وعليه آيات كثيرة في القرآن انتهى.
وهذه الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول: إذا جاءنا زيد فقيرًا أحسنا إليه، فالمعنى: أحسنا إليه في حال فقره، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء.
ومعنى كشف الضر: رفعه وإزالته، كأنه كان غطاء على الإنسان ساترًا له.
وقال صاحب النظم: وإذا مس الإنسان وصفه للمستقبل، وفلما كشفنا للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية: أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي انتهى.
والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأول من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر.
وقال مقاتل: أعرض عن الدعاء.
وقيل: مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به، وهذا قريب من القول الذي قبله.
والجملة من قوله: {كان لم يدعنا إلى ضر مسه} في موضع الحال، أي إلى كشف ضر مسه.
قال ابن عطية: وقوله مر، يقتضي أنّ نزولها في الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه بالله وقلة توكله عليه انتهى.
والكاف من كذلك في موضع نصب أي: مثل ذلك.
وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك، وزين مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون الفاعل الله إمّا على سبيل خلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته.
قيل: أو النفس.
وفسر المسرفون بالكافرين والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية، كما يضيع المنفق ماله متجاوزًا فيه الحدَّ ما كانوا يعملون من الإعراض عن جناب الله وعن اتباع الشهوات. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} أي أصابه جنسُ الضرِّ من مرض وفقرٍ وغيرِهما من الشدائد إصابةً يسيرة {دَعَانَا} لكشفه وإزالتِه {لِجَنبِهِ} حالٌ من فاعل دعا بشهادة ما عُطف عليه من الحالين واللام بمعنى على كما في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ} أي دعانا كائنًا على جنبه أي مضطجعًا {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي في جميع الأحوالِ مما ذُكر وما لم يذكر، وتخصيصُ المعدوداتِ بالذكر لعدم خلوِّ الإنسانِ عنها عادةً أو دعانا في جميع أحوالِ مرضِه على أنه المرادُ بالضر خاصة مُضجَعًا عاجزًا عن القعود وقاعدًا غيرَ قادرٍ على النهوض وقائمًا لا يستطيع الحَراك {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} الذي مسه غِبَّ ما دعانا حسبما ينبئ عنه الفاء {مَرَّ} أي مضى واستمرَّ على طريقته التي كان ينتحيها قبل مساسِ الضرِّ ونسيَ حالةَ الجَهْدِ والبلاءِ، أو مر عن موقف الضراعةِ والابتهالِ ونأى بجانبه {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا} أي كأنه لم يدعُنا فخُفف وحُذف ضميرُ الشأن كما في قوله:
كأنْ لم يكن بين الحَجون إلى الصفا

والجملةُ التشبيهيةُ في محل النصبِ على الحالية من فاعل مرّ أي مرّ مشبَّهًا بمن لم يدْعنا {إلى ضُرّ} أي إلى كشف ضرَ {مَسَّهُ} وهذا وصفٌ للجنس باعتبار حال بعضِ أفرادِه ممن هو متصفٌ بهذه الصفات {كذلك} نصبٌ على المصدرية وذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ الآتي، وما فيه من معنى البعدِ للتفخيم والكافُ مقحَمةٌ للدلالة على زيادة فخامةِ المشارِ إليه إقحامًا لا يكاد يُترَك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم: مثلُك لا يَبخلُ مكان أنت لا تبخل أي مثلَ ذلك التزيينِ العجيب {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمةِ وإسرافُهم لما إن الله تعالى إنما أعطاهم القُوى والمشاعرَ ليصرِفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خُلقت له من العلوم والأعمالِ الصالحة، فلما صرفوها إلى ما لا ينبغي وهي رأسُ مالِهم فقد أتلفوها وأسرفوا إسرافًا ظاهرًا، والتزيينُ إما من جهة الله سبحانه على طريقه التخليةِ والخِذلانِ أو من الشيطان بالوسوسة والتسويل {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الاعراض عن الذكر والدعاءِ والانهماكِ في الشهوات، وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إن في كل منهما إملاءً للكفرة على طريقة الاستدراجِ بعد الأنقاذِ من الشر المقدّرِ في الأولى ومن الضرِّ المقررِ في الأخرى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ} أي إذا أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة، وقيل: مطلقًا {دَعَانَا} لكشفه وإزالته {لِجَنبِهِ} في موضع الحال ولذا عطف عليه الحال الصريحة أعني قوله سبحانه: {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي دعانا مضطجعًا أو ملقى لجنبه، واللام على ظاهرها، وقيل: إنها بمعنى على كما في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ} [الإسراء: 107] ولا حاجة إليه وقد يعبر بعلى وهي تفيد استعلاءه عليه واللام تفيد اختصاص كينونته واستقراره بالجنب إذ لا يمكنه الاستقرار على غير تلك الهيئة ففيه مبالغة زائدة.
واختلف في ذي الحال فقيل: إنه فاعل {دَعَانَا} وقييل: هو مفعول {مَسَّ} واستضعف بأمرين: أحدهما تأخر الحال عن محلها من غير داع.
الثاني أن المعنى على أنه يدعو كثيرًا في كل أحواله إلا أنه خص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة لا أن الضر يصيبه في كل أحواله: وأجيب عن هذا بأنه لا بأس به فإنه يلزم من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه فيها أيضًا لأن القيد في الشرط قيد في الجواب فإذا قلت إذا جاء زيد فقيرًا أحسنا إليه فالمعنى أحسنا إليه في حال فقره وأنت تعلم أن الأظهر هو الأول، واعتبر بعضهم توزيع هذه الأحوال على أفراد الإنسان على معنى أن من الإنسان من يدعو على هذه الحالة ومنه من يدعو على تلك، وذكر غير واحد أنه يجوز أن يكون المراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار لأنها إما خفيفة لا تمنع الشخص القيام أو متوسطة تمنعه القييام دون القعود أو شديدة تمنعه منها وانفهام ذلك منها بمعونة السياق و{إِذَا} قيل إنها على أصلها وقيل إنها للمضي {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} الذي مسه غب ما دعانا كما ينبئ عنه الفاء {مَرَّ} أي مضى واستمر على ما كان عليه قبل ونسي حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الدعاء والابتهال ونأى بجانبه، والمرور على الأول مجاز وعلى الثاني باق على حقيقته ويكون كناية عن عدم الدعاء {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا} أي كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن، ومثل ذلك قوله:
ووجه مشرق النحر ** كأن ثدياه حقان

فإن الأصل فيه كأنه فخفف كأن وحذف ضمير الشأن، لكن صرح ابن هشام في شواهده أن ذلك غير متعين إذ يجوز كون الضمير للوجه أو للصدر على رواية وصدر وروي كأن ثدييه على إعمال كأن في اسم مذكور ولا يبعد أن يجوز ذلك في الرواية الأولى على بعض اللغات، والجملة التشبيهية في موضع الحال من فاعل {مَرَّ} أي مر مشبهًا بمن لم يدعنا {إلى ضُرّ} أي إلى كشفه لأنه المدعو إليه، وقيل: لا حاجة إلى التقدير، وإلى بمعنى اللام أي لضر {مَسَّهُ} والظاهر أن هذا وصف لجنس الإنسان مطلقًا أو الكافر منه باعتبار حال بعض الأفراد ممن هو متصف بهذه الصفات.
وذكر الشهاب أن للمفسرين في المراد بالإنسان هنا ثلاثة أقوال فقيل: الجنس وقيل: الكافر وقيل: شخص معين وعليه لا حاجة إلى الاعتبار لكن لا اعتبار له {كذلك} أي مثل ذلك التزيين العجيب {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك في الشهوات، والإسراف مجاوزة الحد وسموا أولئك مسرفين لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة وهم قد صرفوها إلى ما لا ينبغي مع أنها رأس مالهم، وفاعل التزيين إما مالك الملك جل شأنه وإما الشيطان عليه اللعنة وقد مر تحقيق ذلك وكذلك فتذكر.
وتعلق الآية الكريمة بما قبلها قيل من حيث أن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقرر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى.
وذكر الإمام في وجه الانتظام مع الآية الأولى وجهين:
الأول: أنه تعالى بين في الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك وأكد ذلك في هذه الآية حيث دلت على غاية ضعفه ونهاية عجزه.
والثاني: أنه سبحانه أشار في الأولى إلى أن الكفرة يستعجلون نزول العذاب وبين جل شأنه في هذه أنهم كاذبون في ذلك الطلب حيث أفادت أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه انتهى.
ولكل وجهة.
وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة واللائق بحال الكامل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء فإن ذلك أرجى للإجابة ففي الحديث: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك، وفي حديث للترمذي عن أبي هريرة، ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء». والآثار في ذلك كثيرة. اهـ.