فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (14):

قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما صرح بأن ذلك عام لكل مجرم، أتبعه قوله: {ثم جعلناكم} أي أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا {خلائف في الأرض} أي لا في خصوص ما كانوا فيه: ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي القرون المهلكة إهلاك الاستئصال {لننظر} ونحن- بما لنا من العظمة- أعلم بكم من أنفسكم، وإنما ذلك لنراه في عالم الشهادة لإقامة الحجة {كيف تعملون} فيتعلق نظرنا بأعمالكم موجودة تخويفًا للمخاطبين من أن يجرموا فيصيبهم ما أصاب من قبلهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {ثُمَّ جعلناكم خلائف} الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم، لننظر كيف تعملون، خيرًا أو شرًا، فنعاملكم على حسب عملكم.
بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: كيف جاز النظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟
والجواب: أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه، وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين.
السؤال الثاني: قوله: {ثُمَّ جعلناكم خلائف في الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} مشعر بأن الله تعالى ما كان عالمًا بأحوالهم قبل وجودهم.
والجواب: المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] وقد مر نظائر هذا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» وقال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرًا، بالليل والنهار.
المسألة الثالثة:
قال الزجاج: موضع {كَيْفَ} نصب بقوله: {تَعْمَلُونَ} لأنها حرف، لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولو قلت: لننظر خيرًا تعملون أم شرًا، كان العالم في خير وشر تعملون. اهـ.

.قال الثعلبي:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم} أي من بعد القرون التي أهلكناهم {لِنَنظُرَ} لنرى {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وهو أعلم بهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله استخلفكم فيها فانظر كيف تعملون».
قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلاّ لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار والسرّ والعلانية.
وروى ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأنّ شيئًا دُلّي من السماء فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أُعيد فانتشط أبو بكر رضي الله عنه ثم ذرع الناس حول المنبر ففصّل عمر بثلاثة أذرع إلى المنبر، فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها، فلما استخلف عمر قال: قل يا عوف رؤياك، قال: هل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنهوني؟ فقال: ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقصّ عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس المنبر بهذه الثلاثة الأذرع.
قال: أما إحداهن فأنّه كائن خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنّه شهيد، ثم قال: يقول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} إلى قوله: {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل، وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله، وأما قوله: إني شهيد فأنّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به، ثم قال: إن الله على ما يشاء لقدير. اهـ.

.قال ابن عطية:

و{خلائف} جمع خليفة.
وقوله: {لننظر} معناه لنبين في الوجود ما علمناه أزلًا، لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز، وقرأ يحيى بن الحارث وقال: رأيتها في الإمام مصحف عثمان، لنظر بإدغام النون في الظاء، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء لينظر كيف عملنا فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية، وكان أيضًا يقول: قد استخلفت يا ابن الخطاب فانظر كيف تعمل؟ وأحيانا كان يقول قد استخلفت يا ابن أم عمر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ثم جعلناكم خلائف}
قال ابن عباس: جعلناكم يا أُمة محمد خلائف، أي: استخلفناكم في الأرض.
وقال قتادة: ما جَعَلَنا اللهُ خلائفَ إِلا لينظر إِلى أعمالنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ} مفعولان.
والخلائف جمع خليفة، وقد تقدّم آخر الأنعام أي جعلناكم سكانًا في الأرض.
{مِن بَعْدِهِم} أي من بعد القرون المهلكة.
{لِنَنْظُر} نصب بلام كي، وقد تقدّم نظائره وأمثاله؛ أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيبًا.
وقيل: يعاملكم معاملة المختبر إظهارًا للعدل.
وقيل: النظر راجع إلى الرسل؛ أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم.
و{كيف} نصب بقوله: {تعملون}: لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله. اهـ.

.قال الخازن:

{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} الخطاب لأهل مكة الذين أرسل فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى ثم جعلناكم أيها الناس خلفاء في الأرض من بعد القرون الماضية الذين أهلكناهم {لننظر كيف تعملون} يعني خيرًا أو شرًا فنعاملكم على حسب أعمالكم والنظر هنا بمعنى العلم يريد لنختبر أعمالكم وهو يعلم ما يكون قبل أن يكون.
قال أهل المعاني: معنى النظر، هو طلب العلم وجاز في وصف الله سبحانه وتعالى إظهارًا للعدل لأنه سبحانه وتعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله تبارك وتعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملًا} ذكره الواحدي والرازي.
(م) عن سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خصرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء» أخرجه مسلم قوله فاتقوا الدنيا معناه احذروا فتنة الدنيا واحذروا فتنة النساء. اهـ.

.قال أبو السعود:

قولُه عز وجل: {ثُمَّ جعلناكم خلائف في الأرض مِن بَعْدِهِم} فإنه صريحٌ في أنه ابتداءٌ تعرّضَ لأمورهم وأن ما بينّ فيه إنما هو مبادي أحوالِهم لاختبار كيفياتِ أعمالِهم على وجه يُشعر باستمالتهم نحوَ الإيمان والطاعةِ فمُحالٌ أن يكون ذلك إثرَ بيانِ منتهى أمرِهم وخطابِهم ببتّ القولِ بإهلاكهم لكمال إجرامِهم والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض من بعد إهلاكِ أولئك القرونِ التي تسمعون أخبارَها وتشاهدون آثارَها استخلافَ من يَختبر {لِنَنظُرَ} أي لنعاملَ معاملةَ من ينظُر {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فهي استعارةٌ تمثيلية، وكيف منصوبٌ على المصدرية بتعملون لا بننظر فإن ما فيه من معنى الاستفهام مانعٌ من تقدم عاملِه عليه أي أيَّ عملٍ أو على الحالية أي على أيّ حالٍ تعملون الأعمالَ اللائقةَ بالاستخلاف من أوصاف الحُسن كقوله عز وعلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ففيه إشعارٌ بأن المرادَ بالذات والمقصودَ الأصليَّ من الاستخلاف إنما هو ظهورُ الكيفياتِ الحسنةِ للأعمال الصالحةِ، وأما الأعمالُ السيئةُ فبمعزل من أن تصدُرَ عنهم لاسيما بعد ما سمِعوا أخبارَ القرونِ المهلَكه وشاهَدوا آثارَ بعضِها فضلًا عن أن يُنظمَ ظهورُها في سلك العلة الغائيةِ للاستخلاف، وقيل: منصوبٌ على أنه مفعولٌ به أي أيَّ عملٍ تعملون أخيرًا أم شرًا فنعاملَكم بحسبه فلا يكون في كلمة كيف حينئذ دلالةٌ على أن المعتبرَ في الجزاء جهاتُ الأعمالِ وكيفياتُها لا ذواتُها كما هو رأيُ القائل بل تكون حينئذ مستعارةً لمعنى أيّ شيء. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ جعلناكم خلائف في الأرض مِن بَعْدِهِم} فإنه صريح في أنه ابتداء تعرض لأمورهم وإن ما بين فيه مبادي أحوالهم لاختبار كيفية أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وحطابهم ببت القول باهلاكهم لكمال إجرامهم والعطف على قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا} [يونس: 13] لا على مَا قَبْلِهِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ.
{كذلك نَجْزِي القوم المجرمين ثُمَّ جعلناكم خلائف في الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لنعلم أي عمل تعملون فكيف مفعول مطلق لتعلمون، وقد صرح في المغنى بأن كيف تأتي كذلك وأن منه {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفجر: 6] وليست معمولة {لِنَنظُرَ} لأن الاستفهام له الصدارة فيمنع ما قبله من العمل فيه، ولذا لزم تقديمه على عامله هنا.
وقيل: محلها النصب على الحال من ضمير {تَعْمَلُونَ} كما هو المشهور فيها إذا كان بعدها فعل نحو كيف ضرب زيد أي على أي حال تعملون الأفعال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن، وفيه من المبالغة في الزجر عن الأعمال السيئة ما فيه، وقيل: محلها النصب على أنها مفعول به لتعملون أي أي عمل تعملون خيرًا أو شرًا، وقد صرحوا بمجيئها كذلك أيضًا، وجعلوا من ذلك نحو كيف ظننت زيدًا، وبما ذكر فسر الزمخشري الآية، وتعقبه القطب بما تعقبه ثم قال: ولعله جعل كيف هاهنا مجازًا بمعنى أي شيء لدلالة المقام عليه.
وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن معنى كيف السؤال عن الأحوال والصفات لا عن الذوات وغيرها فالسؤال هنا عن أحوالهم وأعمالهم ولا معنى للسؤال عن العمل إلا عن كونه حسنًا أو قبيحًا وخيرًا أو شرًا فكيف ليست مجازًا بل هي على حقيقتها، ثم إن استعمال النظر بمعنى العلم مجاز حيث شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه، والكلام استعارة تمثيلية مرتبة على استعارة تصريحية تبعية، والمراد يعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها كقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [المُلك: 2] وقيل يمكن أن يقال: المراد بالعلم المعلوم فحينئذ يكون هذا مجازًا مرتبًا على استعارة، وأيا ما كان فلا يلزم أن لا يكون الله سبحانه وتعالى عالمًا بأعمالهم قبل استخلافهم، وليس مبني تفسير النظر بالعلم على نفي الرؤية كما هو مذهب بعض القدرية القائلين بأنه جل شأنه لا يرى ولا يرى فأنا ولله تعالى الحمد ممن يقول: إنه تبارك وتعالى يرى ويري والشروط في الشاهد ليست شروطًا عقلية كما حقق في موضعه، وان الرؤية صفة مغايرة للعلم وكذا السمع أيضًا، وممن يقول أيضًا: إن صور الماهيات الحادثة مشهودة لله تعالى أزلا في حال عدمها في أنفسها في مرايا الماهيات الثابتة عنده جل شأنه بل هو مبني على اقتضاء المعنى له فإنك إذا قلت: أكرمتك لأرى ما تصنع فمعناه أكرمتك لأختبرك وأعلم صنعك فأجازيك عليه، ومن هنا يعلم أن حمل النظر على الانتظار والتربص كما هو أحد معانيه ليس بشيء، وبعض الناس حمل كلام بعض الأفاضل عليه وارتكاب شططًا وتكلم غلطًا.
{هذا} وقرئ {لنظر} بنون واحدة وتشديد الظاء ووجه ذلك أن النون الثانية قلبت ظاءًا وأدغمت. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} عطف على {أهلكنا} [يونس: 13] وحرف (ثم) مؤذن ببعد ما بين الزمنين، أي ثم جعلناكم تخلفونهم في الأرض.
وكون حرف (ثم) هنا عاطفًا جملة على جملة تقتضي التراخي الرتبي لأن جعلهم خلائف أهم من إهلاك القرون قبلهم لما فيه من المنة عليهم، ولأنه عوضهم بهم.
والخلائف: جمع خليفة.
وتقدم في قوله: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} في سورة [الأنعام: 165].
والمراد بالأرض بلاد العرب، فالتعريف فيه للعهد؛ لأن المخاطبين خلفوا عادًا وثمودًا وطسمًا وجديسًا وجُرهمًا في منازلهم على الجملة.
والنظر: مستعمل في العلم المحقق، لأن النظر أقوى طرق المعرفة، فمعنى {لننظر} لنتعلم، أي لنعلم علمًا متعلقًا بأعمالكم.
فالمراد بالعلم تعلقه التنجيزي.
و{كيف} اسم استفهام معلق لفعل العلم عن العمل، وهو منصوب بـ {ننظر}، والمعنى في مثله: لنعلم جواب كيف تعملون، قال إياس بن قبيصة:
وأقبلت والخطى يخطر بيننا ** لا علم مَن جبانها من شجاعها

أي (لا علم) جَواب مَن (جبانها).
وإنما جعل استخلافهم في الأرض علة لعلم الله بأعمالهم كناية عن ظهور أعمالهم في الواقع إن كانت مما يرضي الله أو ممَّا لا يرضيه فإذا ظهرت أعمالهم علمها الله علم الأشياء النافعة وإن كان يعلم أن ذلك سيقع علمًا أزليًا، كما أن بيت إياس بن قبيصة معناه ليَظهر الجبانُ من الشجاع.
وليس المقصود بتعليل الإقْدام حصول علمه بالجبان والشجاع ولكنه كنّى بذلك عن ظهور الجبان والشجاع.
وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: {وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء} في سورة [آل عمران: 140]. اهـ.