فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} هذا جواب عن لازم اقتراحهم وكنايتهِ عن رميهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب عن الله فيما ادعى من إرساله وإنزال القرآن عليه كما تقدم في الجواب قبله.
ولكونه جوابًا مستقلًا عن معنى قصدوه من كلامهم جاء الأمر به مفصولًا عن الأول غير معطوف عليه تنبيهًا على استقلاله وأنه ليس بتكملة للجواب الأول.
وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليلٍ التفَّتْ في مطاويه أدلة، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب، إذ قوله: {لو شاء الله ما تلوته} تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوتُه.
فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدَّعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله، فكان الاستدلال إبطالًا لدعواهم ابتداء وإثباتًا لدعواه مآلا.
وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري.
والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب (لو)، فإن جواب (لو) يقتضي استدراكًا مطردًا في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب، فقد يُستغنى عن ذكره وقد يذكر، كقول أبَي بن سُلْمِي بن ربيعة:
فلو طَار ذو حافر قبلها ** لطارت ولكنه لم يطر

فتقديره هنا: لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم.
وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه علميًا إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة، وبلاغيًا إذ جاء كلامًا أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقًا على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثلَه أحد منهم.
ولذلك فُرعت على الاستدلال جملةُ: {فقد لبثت فيكم عُمرًا من قبله أفلا تعقلون} تذكيرًا لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة، وهي أربعون سنة، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمةِ، والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحَى الله إليه بالرسالة، ولا بلاغة قول واشتهارًا بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالًا معتادًا وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطوارًا وتدرجًا.
فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رَباني محض، وأن هذا الكلام موحًى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه.
فما كان هذا الكلام دليلًا على المشركين وإبطالًا لادعائهم إلا لَما بني على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه، ثم لما فرع عليه جملة: {فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون} إذ كان تذكيرًا لهم بحاله قبل أن يتلو عليهم القرآن ولولا ذانك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة، أي استدلالًا بعين الدعوى لأنهم ينهَض لهم أن يقولوا حينئذٍ: ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله.
فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية.
وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية.
ولكلمة {تلوته} هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تاليًا كلامًا، ومتلوًا، وباعثًا بذلك المتلو.
فبالأول: تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم.
وبالثاني: تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها، كما قال تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} [العنكبوت: 48، 49].
وبالثالث: تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته عن الله تعالى.
والتلاوة: قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلِّغ.
وقد تقدمت عند قوله تعالى: {واتَّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في سورة [البقرة: 102]، وعند قوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} في سورة [الأنفال: 2].
و{أدراكم} عَرَّفكم.
وفعل الدراية إذا تعلق بذات يتعدى إليها بنفسه تارة وبالباء أيضًا، يقال: دَريته ودريت به.
وقد جاء في هذه الآية على الاستعمال الثاني وهو الأكثر في حكاية سيبويه.
قرأ الجمهور {ولا أدراكم به} بحرف النفي عطفًا على {ما تلوته عليكم} أي لو شاء الله ما أمرني بتلاوة القرآن عليكم ولا أعلمكم الله به.
وقرأه البزي عن ابن كثير في إحدى روايتين عنه بلام ابتداء في موضع لا النافية، أي بدون ألِف بعد اللام فتكون عطفًا على جواب (لو) فتكون اللام لامًا زائدة للتوكيد كشأنها في جواب (لو).
والمعنى عليه: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولو شاء لجعلكم تدرون معانيه فلا تكذِبوا.
وتفريع جملة: {فقد لبثت فيكم} تفريع دليللِ الجملة الشرطية وملازمتها لطَرَفَيها.
والعُمُر: الحياة.
اشتق من العُمران لأن مدة الحياة يَعْمُر بها الحي العالم الدنيوي.
ويطلق العُمر على المدة الطويلة التي لو عاش المرء مقدارها لكان قد أخذ حظه من البقاء.
وهذا هو المراد هنا بدليل تنكير {عُمرا} وليس المراد لبثت مدة عُمري، لأن عمره لم ينته بل المراد مدة قدْرها قدْر عُمُرٍ متعارَف، أي بقدر مدة عُمر أحد من الناس.
والمعنى لبثت فيكم أربعين سنة قبل نزول القرآن.
وانتصب {عمرًا} على النيابة عن ظرف الزمان، لأنه أريد به مقدار من الزمان.
واللبث: الإقامة في المكان مدة.
وتقدم في قوله تعالى: {قال كم لبثتَ} في سورة [البقرة: 259].
والظرفية في قوله: {فيكم} على معنى في جماعتكم، أي بيْنكم.
و(قبل) و(بعد) إذا أضيفًا للذوات كان المراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه المقام، أي من قبللِ نزوله.
وضمير (قبله) عائد إلى القرآن.
وتفريع جملة: {أفلا تعقلون} على جملة الشرط وما تفرع عليها تفريع للإنكار والتعجب على نهوض الدليل عليهم، إذ قد ظهر من حالهم ما يجعلهم كمن لا يعقل.
ولذلك اختير لفظ {تعقلون} لأن العقل هو أول درجات الإدراك.
ومفعول {تعقلون} إما محذوف لدلالة الكلام السابق عليه.
والتقدير أفلا تعقلون أنَّ مثل هذا الحال من الجمع بين الأمية والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه لا يكون إلا حال من أفاض الله عليه رسالته إذ لا يتأتى مثله في العادة لأحد ولا يتأتى ما يقاربه إلا بعد مدارسة العلماء ومطالعة الكتب السالفة ومناظرة العلماء ومحاورة أهل البلاغة من الخطباء والشعراء زمنًا طويلًا وعُمرًا مديدًا، فكيف تأتَّى ما هو أعظم من ذلك المعتادِ دَفعةً لمن قضى عمره بينهم في بلاده يرقبون أحواله صباح مساءَ، وما عُرف بلدهم بمزاولة العلوم ولا كان فيهم من أهل الكتاب إلا من عَكف على العبادة وانقطع عن معاشرة الناس.
وإما أن ينزل: {تعقلون} منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول، أي أفلا تكونون عاقلين، أي فتعرفوا أن مثل هذا الحال لا يكون إلا من وحي الله. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} وهنا يبلِّغ محمدٌ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين طلبوا تغيير القرآن أو تبديله: لقد عشت طوال عمري معكم، ولم تكن لي قوة بلاغة أو قوة شعر، أو قوة أدب. فمن له موهبة لا يكتمها إلى أن يبلغ الأربعين، ورأيتم أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس إلى معلِّم، بل عندما اتهمتموه وقلتم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]
وفضحكم الحق سبحانه بأن أنزل في القرآن قوله تعالى: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]
ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من شبه الجزيرة العربية، ولم يقرأ مؤلَّفَات أحد. فمن أين جاء القرآن إذن؟
لقد جاء من الله سبحانه، وعليكم أن تعقلوا ذلك، ولا داعي للاتهام بأن القرآن من عند محمد؛ لأنكم لم تجرّبوه خطيبًا أو شاعرًا، بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن نزلت عليه الرسالة، هو بلاغ من عند الله.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن يُنسَب الكمال إلى إنسان فينفيه، فالعادة أن يسرق شاعر مثلًا قصيدة من شاعر آخر، أو أن ينتحل كاتب مقالة من آخر. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلِّغكم أن كمال القرآن ليس من عنده، بل هو مجرد مبلِّغ له، وكان يجب أن يتعقَّلوا تلك القضية بمقدِّماتها ونتائجها؛ فلا يلقوا لأفكارهم العنان؛ ليكذبوا ويعاندوا، فالأمر بسيط جدًا.
يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لَّوْ شَاءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]
إذن: فالمقدمة التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقنع بها الكافرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله رسولًا من أنفسهم، فإن قلت: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]
أي: أنه صلى الله عليه وسلم من جنس الناس، لا من جنس الملائكة، أو {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: من أمة العرب، لا من أمة العَجَم، أو {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: من قبيلتهم التي يكذِّب أصحابُها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
إذن: فحياته صلى الله عليه وسلم معروفة معلومة لكم، لم يَغِبْ عنكم فترة؛ لتقولوا بُعِثَ بعثةً؛ ليتعلَّم علمًا من مكان آخر، ولم يجلس إلى معلِّم عندكم ولا إلى معلِّم خارجكم، ولم يَتْلُ كتابًا، فإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن تأخذوا من هذا مقدِّمة وتقولوا: فمن أين جاءت له هذه الحكمة فجأة؟
أنتم تعلمون أن المواهب والعبقريات لا تنشأ في الأربعينات، ولكن مخايل العبقرية إنما ينشأ في نهاية العقد الثاني وأوائل العقد الثالث، فمن الذي آخّر العبقرية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول هذا القول البليغ الذي أعجزكم، وأنتم أمّة البلاغة وأمة الفصاحة المرتاضون عليها من قديم، وعجزتم أمام ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟
كان يجب أن تقولوا: لم نعرف عنه أنه يعلم شيئًا من هذا، فإذا حَلّ لكم اللغز وأوضح لكم: أن القرآن ليس من عندي؛ كان يجب أن تصدقوه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعزوه إلى خالقه وربه سبحانه.
والدليل على أنكم مضطربون في الحكم أنكم ساعة يقول لكم: القرآن بلاغ عن الله، تكذِّبونه، وتقولون: لا، بل هو من عندك، فإذا فَترَ عنه الوحي مرّةً قلتم: قلاه ربُّه.
لماذا اقتنعتم بأن له ربًّا يَصِلُه بالوحي ويهجره بلا وحي؟
أنتم إذن أنكرتم حالة الوصل بالوحي، واعترفتم بالإله الخالق عندما غاب عنه الوحي، وكان يجب أن تنتبهوا وتعودوا إلى عقولكم؛ لتحكموا على هذه الأشياء، وقد ذكر الحق سبحانه ذلك الأمر في كثير من آياته، يقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]
ويقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44]
ويقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا في أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45]
ويقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48]
فمن أين جاءت تلك البلاغة؟ كان يجب أن تأخذوا هذه المقدِّمات؛ لتحكموا بأنه صادق في البلاغ عن الله؛ لذلك يُنهى الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
وحين ينبهك الحق سبحانه وتعالى إلى أن تستعمل عقلك، فهذا دليل على الثقة في أنك إذا استعملت عقلك؛ وصلت إلى القضية المرادة. والله سبحانه وتعالى مُنزَّه عن خديعة عباده، فمن يخدع الإنسان هو من يحاول أن يصيب عقله بالغفلة، لكن الذي ينّبه العقل هو من يعلم أن دليل الحقيقة المناسبة لما يقول، يمكن الوصول إليه بالعقل.