فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} جملة معترضة بين جملة: {وَيَعْبُدُونَ} [يونس: 18] وجملة: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه} [يونس: 20].
ومناسبة الاعتراض قوله: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم} لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله: {أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18].
وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحِكم العُمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبَت ونفي عما عداه، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد.
وحسَّن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]، وقوله: {ما نبعدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، بخلاف آية سورة [البقرة: 213] {كان الناس أمة واحدة} فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} [البقرة: 211] وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة.
فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارئ عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله: {ولولا كلمة سبقت} إلى آخره، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيئين مبشرين ومنذرين، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضًا عقب ذلك بقوله: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213].
وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه} [البقرة: 213].
وتقدم القول في {كان الناس أمة واحدة} في سورة [البقرة: 213].
والناس: اسم جمع للبشر.
وتعريفه للاستغراق.
والأمة: الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء مَّا.
والمراد هنا أمة واحدة في الدين.
والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشيء عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحْريف.
والإنسان لما أنشيء على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف.
وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عامًا على عقولهم، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع، ووَضَع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعًا جِبلِّيًا كما وضَع الإلهامات في أصناف الحيوان.
وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه السلام.
ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاق الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة.
وهذا مما يدخل في معنى قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [التين: 4 6]، فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمةً واحدة الوحدة في الحق، وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول، وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم، ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك.
ووقوعُه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصنامًا لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال، فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق، ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «كَذبوا والله إِنْ استقسما بها قَطِ، وقرأ: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين} [آل عمران: 67]» وبهذا الوجه يجعل التعريف في {الناس} للاستغراق.
ويجوز أن يراد بالناس العربُ خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيدِ كما قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني بَراء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقية في عقبه لعلهم يرجعون} [الزخرف: 26 28]، أي في عقبه من العرب، فيكون التعريف للعهد.
وجملة: {ولولا كلمة سبقت من ربك} إخبار بأن الحق واحد، وأن ذلك الاختلاف مذموم، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستيصال المُبطل وإبقاءِ المحق.
وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة [الشورى: 14] بقوله: {ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مُسمى لقضي بينهم}.
والأجل: هو أجل بقاء الأمم، وذلك عند انقراض العالم، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب.
وأصرح من ذلك في بيان معنى (الكلمة) قولُه في سورة [هود: 118] {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمةُ ربك لأملأنَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين} وسيأتي بيانها.
وتقديم المجرور في قوله: {فيما فيه يختلفون} للرعاية على الفاصلة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}
وقد جاءت آية في سورة البقرة متشابهة مع هذه الآية وإن اختلف الأسلوب، فقد قال الحق سبحانه في سورة البقرة: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} [البقرة: 213] والذين يقرأون القرآن بسطحية وعدم تعمق قد لا يلتفتون إلى الآيات المشابهة لها في المعنى العام، وهذه الآيات توازن بين المعاني فلا تضارب بين آية وأخرى.
ولذلك نجد بين المفكرين العصريين من يقول: إن الناس كانوا كلهم كفارًا، ثم ارتقى العقل محاولًا اكتشاف أكثر الكائنات قوة؛ ليعبدوه، فوجدوا أن الجبل هو الكائن العالي الصلب؛ فعبدوه. وأناس آخرون قالوا: إن الشمس أقوى الكائنات فعبدوها، وآخرون عبدوا القمر، وعبد قوم غيرهم النجوم، واتخذ بعض آخر آلهة من الشجر، وكل جماعة نظرت إلى جهة مختلفة تتلمس فيها القوة.
وهم يأخذون من هذا أن الإنسان قد اهتدى إلى ضرورة الدين بعقله، ثم ظل هذا العقل في ارتقاء إلى أن وصل إلى التوحيد.
ونرد على أصحاب هذا القول: أنتم بذلك تريدون أن تعزلوا الخلق عن خالقهم، وكأن الله الذي خلق الخلق وأمدهم بقوام حياتهم المادية قد ضَنَّ عليهم بقوام حياتهم المعنوية، وليس هذا من المقبول أو المعقول، فكيف يضمن لهم الحياة المادية، ولا يضمن لهذه المادية قيمًا تحرسها من الشراسة وتحميها من الفساد والإفساد؟
وقول الحق: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]
لذلك فَهِمَ البعض أن الناس كانوا أمة واحدة في الكفر، وحين جاء النبيون، اختلف الناس؛ لأن منهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر، ولكن لو أحسن الذين قالوا مثل هذا القول الاستنباط وحسن الفهم عن الله لوجدوا أن مقصود الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن إنما هو: ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا؛ فبعث الله النبيين؛ ليخرجوهم عن الخلاف ويعيدوهم إلى الاتفاق على عهد الإيمان الأول الذي شهدوا فيه بربوبية الحق سبحانه وتعالى؛ لأن الأصل في المسألة هو الإيمان لا الكفر.
ومن أخذ آية سورة البقرة كدليل على كفر الناس أولًا، نقول له: اقرأ الآية بأكملها؛ لتجد قول الحق: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ} [البقرة: 213]
وهكذا نرى أن الاختلاف الذي حدث بين الناس جاء في آية البقرة في المؤخرة، بينما جاء الاختلاف في هذه الآية في المقدمة، وهذا دليل على أن الناس كانوا أمة واحدة على الإيمان، فليس هناك أناس أوْلَى من أناس عند الخالق سبحانه وتعالى، ولم يكن عدل الله ليترك أناسًا متخبطين في أمورهم على الكفر، ويرسل الرسل لأناس آخرين بالهداية؛ فالناس بالنسبة لله سواء.
وما دام الحق سبحانه قد أوجد الخلق من البشر فلابد أن يُنزل لهم منهجًا؛ ولذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]
نجد فيه الرد على من يقول إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى الكعبة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يترك الخلق من آدم إلى إبراهيم دون بيت يحجون إليه، ولكن الحق سبحانه وضع البيت؛ ليحج إليه الناس من أول آدم إلى أن تقوم الساعة، والذي وضع البيت ليس من الناس، بل شاء وضع البيت خالق الناس، وما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام هو رفع القواعد من البيت الحرام.
أي: أنه أقام ارتفاع البيت بعد أن عرف مكان البيت طولًا وعرضًا، مصداقًا لقول الحق سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26]
وهكذا يَصْدُق قول الحق سبحانه بأن البيت قد وُجد للناس قبل آدم، وهو الناس إلى أن تقوم الساعة، وهكذا نعلم أن الحق سبحانه خلق الخلق وأنزل لهم المنهج، والأصل في الناس هو الإيمان، لكن الكفر هو الذي طرأ على البشر من بابين: باب الغفلة، وباب تقليد الآباء.
والدليل على ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلَّم عن ميثاق الذر، قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172173]
إذن: فالتعصِّي عن الحكم الإيماني مدخله بابان: الأول باب الغفلة، أي: أن تكون قد عملتَ شيئًا، ولم تجعله دائمًا في بؤرة شعورك؛ لأن عقلك يستقبل المعلومات، ويستوعبها من مرة واحدة، إن لم تكن مُشتَّتَ الفكر في أكثر من أمر، فإن كنت صافي الفكر ومنتبهًا إلى المعلومة التي تَصِلُكَ؛ فإن عقلك يستوعبها من مرة واحدة، ومن المهم أن يكون الذهن خاليًا لحظة أن تستقبل المعلومة الجديدة.
ولذلك نجد فارقًا بين إنسان وإنسان آخر في حفظ المعلومات، فواحد يستقبل المعلومة وذهنه خالٍ من أي معلومة غيرها، فتثبت في بؤرة الشعور، بينما يضطر الآخر إلى تكرار قراءة المعلومة إلى أن يخلو ذهنه من غيرها؛ فتستقر المعلومة في بؤرة الشعور، وحين تأتي معلومة أخرى، فالمعلومة الأولى تنتقل إلى حاشية الشعور إلى حين أن يستدعيها مرة أخرى.