فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وهو على ما قيل كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفًا من اختلاف حالهم بحسب اختلاف ما يعتريهم من الضراء.
وعن أبي مسلم أنه تفسير لبعض ما أجمل في قوله سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس} [يونس: 21] الخ، وهو قريب من قول الإمام أنه تعالى لما قال: {وَإِذَا أَذَقْنَا} الآية وهو كلام كلي ضرب لهم مثلًا بهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه.
وزعم بعضهم أنه متصل بما تقدم من دلائل التوحيد فكأنه قيل: إلهكم الذي جعل الشمس ضياءًا والقمر نورًا و{هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ} الخ، وأول التيسير بالحمل على السير والتمكين منه، والداعي لذلك قيل: عدم صحة جعل قوله سبحانه: {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك} غاية للتسيير في البحر مع أنه مقدم عليه وغاية الشيء لابد أن تكون متأخرة عنه، وبعد التأويل لا إشكال في جعل ما ذكر غاية لما قبله.
وقيل: هو دفع لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز وذلك لأن المسير في البحر هو الله تعالى إذ هو سبحانه المحدث لتلك الحركات في الفلك بالريح ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته، وأما سير البر فمن الأفعال الاختيارية الصادرة من المخاطبين أنفسهم إن كانوا مشاة أو من دوابهم إن كانوا ركبانًا وتسيير الله تعالى فيه إعطاء الآلات والأدوات ولزوم الجمع عليه ظاهر.
ووجه الدفع أن المراد من التسيير ما ذكر وهو معنى مجازي شامل للحقيقة والمجاز.
وادعى بعضهم اتحاد التسيير في البر والبحر واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
وتعقب بأنه تكلف.
والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكانت كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر، وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} كفى ولم يحتج إلى اعتبار مجموع الشرط والجزاء، ثم قال: والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطًا في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقًا سواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء، واستوضح ذلك من قولك: مشيت حتى إذا بلغت البلد اتجرت فإن ما انتهى إليه المشي بالذات الوصول إلى البلد وأما الاتجار فأمر مترتب على ذلك فيكون مما انتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في {يَسِيرٌ} للتعدية تقول سار الرجل وسيرته، وقال الفارسي: إن سار متعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى، ومنه قول الهذلي:
فلا تجزعي من سنة أنت سرتها ** فأول راض سنة من يسيرها

وقال في الصحاح: سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشد له هذا البيت، وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك، و{الفلك} السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما اعتباري، وفي الصحاح أنه واحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك باعتبار المركب والسفينة، وكان سيبويه يقول: الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلًا وفعلًا يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنع أن يجمع فعل على فعل، وضمير {جرين} للفلك وضمير {نَخْسِفْ بِهِمُ} لمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم، وقيل: لا التفات بل معنى قوله سبحانه: {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك} حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى: {أَوْ كظلمات في بَحْرٍ لُّجّىّ يغشاه مَوْجٌ} [النور: 40] فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج، والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان بمتعلق واحد، وإلا فقد منعوا تعلق حرفين بمعنى بمتعلق واحد، واعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل اتحاد المتعلق.
وجوز أن تكون الثانية للحال أي جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق بمحذوف كما في البحر، وقد تجعل الأولى للملابسة أيضًا {وَفَرِحُواْ} عطف على {جرين} هو عطف على {إِن كُنتُمْ} وقد تجعل حالًا بتقدير قد وضمير {بِهَا} للريح ونقل الطبرسي القول برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم، والمراد بطيبة حسبما يقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد.
وظاهر الآية على ما نقل عن الإما يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافًا لمن قال: إنه ساكن، ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة.
وقرأ ابن عامر {ينشركم} بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم، وقرأ الحسن {ينشركم} من أنسر بمعنى أحيا.
وقرأ بعض الشاميين {ينشركم} بالتشديد للتكثير من النشر أيضًا، وعن أم الدرداء أنها قرأت {فِى} بزيادة ياءي النسب، ووجه ذلك بأنهما زائدتان كما في الخارجي والأحمري ولا اختصاص لذلك في الصفات لمجيء دودوي وأنا الصلتاني في قول الصلتان، ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، وقوله سبحانه: {بِهَا جَاءتْهَا} جواب {إِذَا} والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئًا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى، ورجح الثاني بأنه الأظهر لاستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعد مجيئًا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم لأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر وفيه تأمل {رِيحٌ عَاصِفٌ} أي ذات عصف فهو من باب النسب كلابن وتامر، ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل.
وقيل: لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه اعتبر التذكير في الريح كما اعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه، وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدة الهبوب {وَجَاءهُمُ الموج} وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل: هو اضطراب البحر والأول هو المشهور {مّن كُلّ مَكَانٍ} أي من أمكنة مجيء الموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج، ففي الكلام استعارة تبعية، وقيل: إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيهًا له بإحاطة العدو بإنسان ثم كنى بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها.
وقيل: إن ذلك مثل في الهلاك، والظن على ما يتبادر منه، وجوز أن يكون بمعنى اليقين بناءً على تحقق وقوعه في اعتقادهم أو كون الكناية عن القرب من الهلاك {دَّعَوَا الله} جعله غير واحد بدل اشتمال من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية، وقيل: هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله إلخ.
وجعله أبو حيان استئنافًا بيانيًا كأنه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا الخ، ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في اتصال الكلام.
والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع الاستغناء عن تقدير السؤال.
وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديرًا حقيقيًا بل أمر اعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية، ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط و{جَاءتْهَا} في موضع الحال كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ في الفلك دَعَوُاْ الله} [العنكبوت: 65] الآية، وتعقب بأن الاحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف {وَظَنُّواْ} على {جَاءتْهَا} يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجيء العاصفة والمعنى على تحقق المجيء لا على تقديره ليجعل حالًا مقدرة ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن ما عده مانعًا من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب {إِذَا} لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقوله سبحانه: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} حال من ضمير {دَّعَوَا} و{لَهُ} متعلق بمخلصين و{الدين} مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوزفي طبائع العالم وروي ذلك عن ابن عباس ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئًا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم أن لك عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوًا كريمًا قال فجاء فأسلم.
وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال: فهذا له محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا فرجع وأسلم.
وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضًا لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين.
وأيًا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر والياس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحدًا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلًا وأي الداعيين أقوم قيلًا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف، هذا وقوله تعالى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} في محل نصب بقول مقدر عند البصريين وهو حال من الضمير السابق، ومذهب الكوفيين إجراء الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا، واللام موطئة لقسم مقدر و{لَنَكُونَنَّ} جوابه.
والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي والله لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبدًا شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسؤولة، والعدول عن لنشكرن إلى ما فيي النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {وإذا أذقنا الناس رحمة} [يونس: 21] إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله.
والمقصود من هذه الجملة هو قوله: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض} وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان.
أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض نعم الله عليهم ثم ضَراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم، ثم كيف تُفرج عنهم رحمةً بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر، فكان المقصود أنَّ في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون: {لولا أنزل عليه آية من ربه} [يونس: 20] وفي كل شيء له آية، وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزًا عن أخذهم، وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية.
وإسناد التسْيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية، فالإسناد مجاز عقلي، فالقصر المفاد من جملة: {هو الذي يسيركم} قصر ادعائي.
والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر.
و{حتى} ابتدائية، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة.
وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله: {دَعَوا الله} إلى قوله: {بغير الحق}، والمغيَّا هو ما في قوله: {يسيركم} من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس، فكان ما بعد (حتى) ومعطوفاتها نهايةَ ذلك الرفق، لأن تلك الحالة التي بعد (حتى) ينتهي عندها السير المنعَم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام.