فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال: {وجَرين بهم} على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم.
وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر مَن عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلًا على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين.
وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز.
وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعًا للكشاف بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضًا، وما نحوتُه أنا أليق.
وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله: {وجرين بهم بريح طيبة} للتصريح بأن النعمة شملتهم، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم.
فهو تمهيد لقوله: {وجاءهم الموج من كل مكان}.
والسير في البر معروف للعرب.
وكذلك السير في البحر.
كانوا يركبون البحر إلى اليمن وإلى بلاد الحبشة.
وكانت لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن وقد يركبون البحر لذلك.
وقد وصف طرفة بن العبد السفن وسيرها، وذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته، والنابغة في داليته.
وقرأ الجمهور {يُسيّركم} بتحتية في أوله مضمومة فسين مهملة بعدها تحتية بعدها راء من السير، أي يجعلكم تسيرون.
وقرأه ابن عامر وأبو جعفر {ينشركم} بتحتية مفتوحة في أوله بعدها نون ثم شين معجمة ثم راء من النّشر، وهو التفريق على نحو قوله تعالى: {إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم: 20] وقوله: {فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10].
قال ابن عطية عن عوف بن أبي جميلة وأبي الزغل: كانوا (أي أهل الكوفة) يقرأون {ينشركم} فنظروا في مصحف عثمان بن عفان فوجدوها {يسيركم} (أي بتحتية فسين مهملة فتحتية) فأوَّل من كتبها كذلك الحجاج بن يوسف، أي أمر بكتبها في مصاحب أهل الكوفة.
و{حتى} غاية للتسيير.
وهي هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابِه، والجملة والغايةُ هي مفاد جواب {إذا} وهو قوله: {جاءتها ريح عاصف}، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به، إذ حينئذٍ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة.
والفلك: اسم لمَركَب البحر، واسم جمع له بصيغة واحدة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} في سورة [البقرة: 164].
وهو هنا مراد به الجمع.
والجري: السير السريع في الأرض أو في البحر، قال تعالى: {باسم الله مجراها} [هود: 41] والظاهر أنه حقيقة فيهما.
والريح مؤنثة في كلام العرب.
وتقدم في قوله: {وهو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يَدي رحمته} في سورة [الأعراف: 57].
والطيبة: الملائمة الرفيقة بالراكبين.
والطيب: الموصوف بالطِيب الشديد.
وأصل معنى الطيب الملاءمة فيما يراد من الشيء، كقوله تعالى: {فلنحيينه حياةً طيبة} [النحل: 97]، ويقال: طاب له المقام في مكان كذا.
ومنه سمي الشيء الذي له ريح وعرف طِيبًا.
وجملة: {جاءتها ريح عاصف} جواب {إذَا}.
وفي ذكر جَريهن بريح طيبة وفرحهم بها إيماء إلى أن مجيء العاصفة حدث فجأة دون توقع من دلالة علامات النوتية كما هو الغالب.
وفيه إيماء إلى أن ذلك بتقديرٍ مرادٍ لله تعالى ليخوفهم ويذكرهم بوحدانيته.
وضمير {جاءتها} عائد إلى {الفُلك} لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث.
والعاصف: وصف خاص بالريح، أي شديدة السرعة.
وإنما لم تلحقه علامة التأنيث لأنه مختص بوصف الريح فاستغنى عن التأنيث، مثل: نافس وحائض ومرضع، فشاع استعماله كذلك، وذكر وصفًا للريح فبقي لا تلحقه التاء.
وقالوا: إنما لم تلحقه التاء لأنه في معنى النسب، مثل: لابن، وتامر.
وفيه نظر.
ومعنى {من كل مكان} من كل جهة من جهات الفُلك، فالابتداء الذي تفيده (من) ابتداء الأمكنة المتجهة إلى الفلك.
ومعنى {أحيط بهم} أخذوا وأهلكوا، فالعرب يقولون: أحاط العَدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها.
ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكًا لها صار ترتيب {أحيط بهم} استعارة تمثيلية للهلاك كما تقدم في قوله تعالى: {والله محيط بالكافرين} [البقرة: 19] وقوله تعالى: {لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم} [يوسف: 66] وقوله: {وأحيط بثمره} [الكهف: 42] أي هلكت.
فمعنى {وظنوا أنهم أحيط بهم} ظنوا الهلاك.
وجملة: {دعَوا الله مخلصين} جواب {إذا}.
ومعنى مخلصين له الدين ممحضين له العبادة في دعائهم، أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم.
وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم بل تلك حالتهم في الدعاء عند الشدائد.
وهذا إقامة حجة عليهم ببعض أحوالهم، مثل قوله تعالى: {أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون} [الأنعام: 40، 41].
وجملة: {لئن أنجيتنا} بيان لجملة {دَعوا} لأن مضمونها هو الدعاء.
والإشارة بـ {هذه} إلى حالة حاضرة لهم، وهي حالة إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه هو الحالة المشاهدة لهم.
وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات: لاممِ توطئة القسم، ونوننِ التوكيد، والتعبير بصيغة {من الشاكرين} دون لنكونن شاكرين، لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر، كما تقدم بيان خصوصية مثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} في سورة [الأنعام: 56]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
وهذه الآية الكريمة جاءت مرحلة من مراحل إخبار الله سبحانه وتعالى عن المعاندين لدعوة الإسلام، التي بدأها الحق سبحانه بأنه قد رحمهم فأجّل لهم استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر، ولو أنه أجابهم إلى ما دَعَوْا به على أنفسهم من الشر في قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
لقضي أمرهم: فمن رحمة الله تعالى أنه لم يُجِبْهم إلى دعائهم.
وإذا كان الله سبحانه قد أجَّل استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر رحمة بهم، فيجب أن يعرفوا أن تأجيل استجابتهم بدعاء الخير رحمة بهم أيضًا؛ لأنهم قد يدعون بالشر وهم يظنون أنهم يدعون بالخير، وبعد ذلك دلّل على كذبهم في دعائهم على أنفسهم بالشر بأنهم إذا مسّهم ضرٌّ دعوا الله تعالى مضطجعين وقاعدين وقائمين.
فلو كانوا يحبون الشر لأنفسهم؛ لظلوا على ما هم فيه من البلاء إلى أن يقضي الله تعالى فيهم أمرًا.
ثم عرض سبحانه قضية أخرى، وهي أنه سبحانه إذا مسهم بضر؛ ليعتبروا، جاء الله سبحانه برحمته؛ لينقذهم من هذا الضر. فياليتهم شركوا نعمة الله تعالى في الرحمة من بعد الضر، ولكنهم مرُّوا كأن لم يدعوا الله سبحانه إلى ضر مسَّهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يصور لنا الحق سبحانه وضعًا آخر، هو وضع السير في البر والبحر، فيقول: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} [يونس: 22].
وكلمة {يُسَيِّرُكُمْ} تدل على أن الذي يسِّير هو الله، ولكن في القرآن آيات تثبت أن السير يُنسب إلى البشر حين يقول: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} [النمل: 69]
وحين يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29].
وهو سبحانه يقول: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ: 18]
فكأن هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد نسبت التسيير إلى الله سبحانه، وبعض الآيات الأخرى نسبت التسيير إلى النفس الإنسانية، ونقول لمن توهموا أن في ذلك تعارضًا:
لو أنكم فطنتم إلى تعريف الفاعل عند النحاة وكيف يرفعونه؛ لعرفتم أن تحقق أي فعل إنما يعود إلى مشيئة الله سبحانه، فحين نقول: نجح فلان فهل هو الذي نجح، أم أن الذي سمح له بالنجاح غيره؟ إن الممتحن والمصحِّح هما من سمحا له بالنجاح؛ تقديرًا لإجاباته التي تدل على بذَل المجهود في الاستذكار.
وكذلك نقول: مات فلان، فهل فلان فعل الموت بنفسه؟ خصوصًا ونحن نعرب مات كفعل ماضٍ، ونعرب كلمة (فلان) فاعل أو نقول: إن الموت قد وقع عليه واتَّصف به؛ لأن تعريف الفاعل: هو الذي يفعل الفعل، أو يتّصف به.
وإذا أردنا أن ننسب الأشياء إلى مباشرتها السببية؛ قلنا: سار الإنسان.
وإذا أردنا أن نؤرِّخ لسير الإنسان بالأسباب، وترحَّلنا به إلى الماضي؛ لوجدنا أن الذي سيَّره هو الله تعالى.
وكل أسباب الوجود إنْ نظرتَ إليها مباشرة؛ وجدتها منسوبة إلى من هو فاعل لها؛ لكنك إذا تتبَّعتها أسبابًا؛ وجدتّها تنتسب إلى الله سبحانه.
فمثلًا: إذا سُئلت: مَنْ صنع الكرسي؟ تجيب: النجار. وإنْ سألت النجار: من أين أتيت بالخشب؟ سيجيبك: مِن التاجر. وسيقول لك التاجر أنه استورده من بلاد الغابات، وهكذا.
إذن: إذا أردت أن تسلسل كل حركة في الوجود؛ لابد أن تنتهي إلى الله تعالى.
وحين قال الحق سبحانه: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29]
نفهم من ذلك أن موسى عليه السلام قد سُيِّر بأهله؛ لأن التسيير في كل مقوماته من الله تعالى.
والمثال الآخر: نحن نقرأ في القرآن قول الحق: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43]
فهو سبحانه الذي خلق الضحك، وخلق البكاء.
فنجد من يقول: كيف يقول الله سبحانه إنه خلق الضحك والبكاء وهو الذي يقول في القرآن: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} [التوبة: 82]
ونقول: أنت إن نظرت إلى القائم بالضحك، فهو الإنسان الذي ضحك، وإن نظرت إلى من خلق غريزة الضحك في الإنسان؛ تجده الله سبحانه.
وغريزة الضحك موجودة باتفاق شامل لكل أجناس الوجود، وكذلك البكاء فلا يوجد ضحك عربي، وضحك انجليزي، ولا يوجد بكاء فرنسي، أو بكاء روسي.
إذن: فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الضحك والبكاء.
وقد صدق قول الحق: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43]
لكن الضاحك والباكي يقوم به الوصف. وكذلك قول الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17]
فقد شاء الحق سبحانه أن يمكن رسوله صلى الله عليه وسلم بالبشرية أن يرمي الحصى، ولكن إيصال الحصى لكل فرد في الجيش المقابل له، فتلك إرادة الله.
إذن: فقول الحق سبحانه: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر}. لا يتعارض مع أنهم هم الذين يسيرون، وأنت إذا علّلت السير في الأرض أو في البحر؛ ستجد أن السير هو انتقال السائر من مكان إلى مكان، وهو يحدِّد غاية السير بعقله، والأرض أو البحر الذي يسير في أي منهما بأقدامه أو بالسيارة أو بالمركب، هذا العقل خلقه الله تعالى، والأرض كذلك، والبحر أيضًا، كلها مخلوقات خلقها الله سبحانه وتعالى. وأنت حين تحرِّك ساقيك؛ لتسير، لا تعرف كيف بدأت السير ولا كَمْ عضلة تحركت في جسدك، فالذي أخضع كل طاقات جسمك لمراد عقلك هو الله تعالى.
إذن: فكل أمر مرجعه إلى الله سبحانه.
وهنا ملحظ في السير في البر والبحر، فكلاهما مختلف، فالإنسان ساعة يسير في الأرض على اليابسة، قد تنقطع به السبل، ويمكنه أن يستصرخ أحدًا من المارة، أو ينتظر إلى أن يمر عليه بعض المارة؛ ليعاونه.
أما المرور في البحر؛ فلا توجد به سابلة أو سالكة كثيرة؛ حتى يمكن للإنسان أن يستصرخهم.
إذن: فالمرور في البحر أدق من المرور في البر؛ ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول عن السير في البحر: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22]