فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا لا نجد أن في الآية نفسها حديثًا عن السير في البر؛ لأن الحق سبحانه ما دام قد تكلم عن إزالة الخطر للمضطر في البحر، فهذا يتضمن إزالته عمن يسير في البر من باب أولى. وإذا ما جاء الدليل الأقوى، فهو لابد أن ينضوي فيه الدليل الأقل.
ومثال هذا قول الحق سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15].
وجاءت كل الحيثيات بعد ذلك للأم، ولم يأت بأي حيثية للأب، فيقول: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]
وشاء الحق سبحانه ذلك؛ لأن حيثية الأم مبنية على الضعف، فيريد أن يرقق قلب ابنها عليها، فالأب رجل، قد يقدر على الكدح في الدنيا، كما أن فضل الأب على الولد يدركه الولد، لكن فضل أمه عليه وهو في بطنها؛ لا يعيه، وفي طفولته الأولى لا يعي أيضًا هذا الفضل.
ولكنه يعي من بعد ذلك أن والده يحضر له كل مستلزمات حياته، من مأكل وملبس، ويبقى دور الأم في نظر الطفل ماضيًا خافتًا.
إذن: فحيثية الأم هي المطلوبة؛ لأن تعبها في الحمل والإرضاع لم يكن مُدْرَكًا من الطفل.
وكذلك هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، ترك الحق سبحانه حيثية البر وأبان بالتفصيل حيثية البحر:
{هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} [يونس: 22]
وكلمة (الفلك) تأتي مرة مفردة، وتأتي مرة جمعًا، والوزن واحد في الحالتين ومثال هذا أنه حين أراد الله سبحانه أن ينجي نوحًا عليه السلام، وأن يغرق الكافرين به، قال لسيدنا نوح: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37].
إذن هي تطلق على المفرد، وعلى الجمع، ولها نظائر في اللغة في كلتا الحالتين، فهي في الإفراد تكون مثل: قُفْل، وقُرْط. وعند الجمع تكون مثل: أسْد.
والحق سبحانه وتعالى يصف الريح هنا بأنها طيبة، والقرآن الكريم طبيعة أسلوبه حين يتكلم عن الريح بلفظ الإفراد يكون المقصود بها هو العذاب، مثل قول الحق: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 2425].
وإن تكلم عنها بلفظ الجمع فهي للرحمة، وسبحانه القائل: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
ويقول سبحانه أيضًا: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات} [الأعراف: 57].
والرياح هنا جاءت في صيغة الجمع، وعلّة وجود ريح الشر، ورياح للخير، يمكنك أن تستشفها من النظر إلى الوجود كله؛ هذا النظر يوضح لك أن الهواء له مراحل، فهواء الرُّخَاء هو الذي يمر خفيفًا، مثل النسيم العليل، وأحيانًا يتوقف الهواء فلا تمر نسمة واحدة، ولكننا نتنفس الهواء الساكن الساخن أثناء حرارة الجو، ثم يشتد الهواء أحيانًا؛ فيصير رياحًا قوية بعض الشيء، ثم يتحول إلى أعاصير.
والهواء كما نعلم هو المقوِّم الأساسي لكل كائن حي، ولكل كائن ثابت غير حي، فإذا كان الهواء هو المقوم الأساسي للنفس الإنسانية، فالعمارات الضخمة مثل ناطحات السحاب لا تثبت بمكانها إلا نتيجة توازن تيارات الهواء حولها، وإن حدث تفريغ للهواء تجاه جانب من جوانبها؛ فالعمارة تنهار.
إذن: فالذي يحقق التوازن في الكون كله هو الهواء.
ولذلك نجد القرآن الكريم قد فصّل أمر الرياح وأوضح مهمتها، وهنا يقول الحق سبحانه: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وكأنه سبحانه يتكلم هنا عن السفن الشراعية التي تسير بالهواء المتجمِّع في أشرعتها. وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدَّى الشراع، وانتقل إلى البخار، ثم الكهرباء، فإن كلمة الحق سبحانه: {برِيحٍ طَيِّبَةٍ} تستوعب كل مراحل الارتقاء، خصوصًا وأن كلمة الريح قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت: من هواء، أو محرك يسير بأية طاقة. وسبحانه القائل: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وهكذا نفهم أن معنى الريح ينصرف إلى القوة. وأيضًا كلمة الريح تنسجم مع كل تيسيرات البحر.
وقول الحق: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} هذا القول الكريم يضم ثلاثة وقائع: الوجود في الفُلْك، وجرى الفُلْك بريح طيبة، ثم فرحهم بذلك؛ هذه ثلاثة أشياء جاءت في فعل الشرط، ثم يأتي جواب الشرط وفيه ثلاثة أشياء أيضًا:
أولها: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وثانيها: {وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} وثالثها: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}.
أما الريح العاصف: فهي المدمرة، ويقال: فلان يعصف بكذا، وفي القرآن: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5].
إذن: {رِيحٌ عَاصِفٌ} هي الريح المدمِّرة والمغرِقة. وقول الحق: {وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ}.
فالموج يأتي من أسفل، والريح تأتي من أعلى، وترفع الريح الموج فيدخل الموج إلى المركب، ونعلم أنهم يقيسون ارتفاع الموج كل يوم حسب قوة الريح: فحين تكون الريح خفيفة؛ يظهر سطح مياه البحر مجعّدًا، وحين تكون الريح ساكنة؛ فأنت لا تجد صفحة المياه مجعدة، بل مبسوطة، وقد جاءتهم الريح عاصفًا فيزداد عنف الموج، ويتحقق نتيجة لذلك الظن بأنهم قد أحيط بهم.
ومعنى الإحاطة هو عدم وجود منفذ للفرار؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يتكلم عن الكافرين بقوله: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} [البقرة: 19].
أي: ليس هناك منفذ يفلتون منه.
ولحظة ظنهم أنه قد أحيط بهم؛ لا يسلمون أنفسهم لهذه الحالة؛ بدعوى الاعتزاز بأنفسهم غريزيًا، بل يتجهون إلى الله بالدعاء، هذا الإله الذي أنكروه، لكنهم لحظة الخطر لا يكذب أحد على نفسه أو يخدعها.
ولذلك نجد سيدنا جعفر الصادق يجيب على سائل سأله: أهناك دليل على وجود الصانع الأعلى؟ فيقول سيدنا جعفر: ما عملك؟ فيجيب السائل: تاجر أبحر في البحر. فسأله سيدنا جعفر: أوَلم يحدث لك فيه حال؟ قال الرجل: بل حدث. فسأل سيدنا جعفر: ما هو؟ قال: حملت بضائعي في سفينة، فهبت الريح وعلا الموج وغرقت السفينة وتعلقت بلوح من الخشب.
قال سيدنا حعفر: الم يخطر على بالك أن تفزع إلى شيء؟ قال الرجل: نعم.
قال سيدنا جعفر: هذا الصانع الأعلى.
وكذلك لجأ هؤلاء الذين كفروا بالله إلى الله تعالى حين عصفت بهم الريح، وعلا عليهم الموج، وظنوا أنهم قد أحيط بهم ويقول الحق سبحانه وتعالى وهم في مثل هذه الحالة: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} وهذا يعني أنهم لم يدعوه فقط، بل دَعَوْه بإخلاص وأقروا بوحدانيته، وألاّ شريك له أبدًا؛ لأنهم يعلمون أن مثل هذا الشريك لن ينفعهم أبدًا.
ثم يجيء الحق سبحانه بصيغة دعائهم: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} فهل وَفَّوْا بالعهد؟ لا؛ لأن الحق سبحانه يقول بعد ذلك: {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
قوله تعالى: {يُسَيِّرُكُمْ}: قراءةُ ابنِ عامر مِن النَّشْر ضد الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكم.
وقرأ الحسن: {يُنْشِركم} مِنْ أَنْشَر، أي: أَحْيا وهي قراءةُ ابنِ مسعود أيضًا.
وقرأ بعض الشاميين {يُنْشِّركم} بالتشديد للتكثير مِن النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار.
وقرأ الباقون {يُسَيِّركم} من التَّسْيير، والتضعيفُ فيه للتعديةِ تقول: سار الرجل وسَيَّرْتُه أنا. وقال الفارسي: هو تضعيفُ مبالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ، لأنَّ العربَ تقول: سِرْتُ الرجلَ وسيَّرته، ومنه قول الهذلي:
فلا تجزعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتها ** فأولُ راضٍ سنةٍ مَنْ يَسِيْرُها

وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر؛ لأن الأكثر في لسان العرب أنَّ سار قاصرٌ، فَجَعْلُ المضعفِ مأخوذًا من الكثير أَوْلَى.
وقال ابنُ عطية: وعلى هذا البيتِ اعتراضٌ حتى لا يكونَ شاهدًا في هذا، وهو أن يكون الضميرُ كالظرفُ، كما تقول: سِرْتُ الطريق.
قال الشيخ: وأمَّا جَعْلُ ابن عطية الضميرَ كالظرفِ كما تقول: سِرْتَ الطريقَ فهذا لا يجوزُ عند الجمهور، لأنَّ الطريقَ عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدار فلا يَصِلُ إليها الفعلُ غيرَ دخلت عند سيبويه، وانطلقت وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميرُه أَحْرى أَنْ لا يتعدى إليه الفعل.
وزعم ابن الطراوة أنَّ الطريق ظرفٌ غيرُ مختصٍ فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباه النحاة.
قوله: {حتى إِذَا} {حتى} متعلقةٌ بـ {يُسَيِّركم}. وقد تقدَّم الكلامُ على {حتى} هذه الداخلةِ على {إذا} وما قيل فيها.
قال الزمخشري: كيف جَعَلَ الكونَ في الفلك غايةَ التسييرِ في البحر، والتسيُير في البحر إنما هو بالكون في الفُلْك؟ قلت: لم يجعلِ الكونَ في الفلك غايةَ التسيير، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد {حتى} بما في حيِّزها كأنه قال: يُسَيِّركم حتى إذا وقعت هذه الحادثةُ فكان كيت وكيتَ مِنْ مجيء الريحِ العاصفةِ وتراكُمِ الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإِنجاء.
وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء {في الفُلْكيّ} بياء النسب. وتخريجُها يَحْتمل وجهين:
أحدهما: أن يُراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ الذي لا يَجْري الفُلْكُ إلا فيه، كأنه قيل: كنتم في اللُّلجِّ الفُلْكِيِّ، ويكونُ الضمير في {جَرَيْنَ} عائدًا على الفلك لدلالةِ {الفلكي} عليه لفظًا ولزومًا.
والثاني: أن يكونَ من باب النسبةِ إلى الصفة لقولهم: أَحْمَريّ كقوله:
أَطَرَبًا وأنت قِنَّسْرِيُّ ** والدهرُ بالإِنسان دوَّارِيُّ

وكنِسْبَتهم إلى العَلَم في قولهم: الصَّلَتَانيّ كقوله:
أَنَا الصَّلَتَانِيُّ الذي قد عَلِمْتُمُ **........................

فزاد ياءَي النسبِ في اسمه.
قوله: {وَجَرَيْنَ} يجوز أن يكونَ نسقًا على {كنتم}، وأن يكونَ حالًا على إضمار قد.
والضميرُ عائدٌ على {الفلك}، والمرادُ به هنا الجُمع، وقد تقدَّم أنه مكسرَّ، وأن تغييره تقديريٌّ، فضمَّتُه كضمةِ بُدْن، وأنه ليس باسم جمع، كما زعم الأخفش.
وقوله: {بِهِم} فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت: المبالغةُ كأنه يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح.
وقال ابن عطية: {بهم} خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله: {كُنتُمْ فِي الفلك} هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن. انتهى.
فقدَّر اسمًا غائبًا وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه. ومثلُه {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] تقديره: أو كذي ظلمات وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ.
وقال الشيخ: والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قوله: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون وكفَّار، والخطابُ شاملٌ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ، ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق.
قوله: {بِرِيحٍ} متعلقٌ بـ {جَرَيْنَ}، فيقال: كيف يتعدى فعلٌ واحدٌ إلى معمولَيْن بحرفِ جرٍ متحدٍ لفظًا ومعنى؟. فالجوابُ أن الباءَ الأولى للتعدية كهي في مررت بزيد والثانية للسبب فاختلف المعنيان، فلذلك تعلَّقا بعاملِ واحدٍ. يجوز أن تكونَ الباءُ الثانيةُ للحالِ فتتعلقَ بمحذوف، والتقدير: جَرَيْنَ بهم ملتبسةً بريح، فتكونُ الحالُ من ضمير الفلك.
قوله: {وَفَرِحُواْ بِهَا}، يجوز أن تكون هذه الجملةُ نَسَقًا على {جَرَيْنَ}، وأن تكونَ حالًا، وقد معها مضمرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحوا، وصاحبُ الحال الضمير في بهم.
قوله: {جَاءَتْهَا} الظاهرُ أن هذه الجملةَ الفعلية جواب إذا، وأن الضميرَ في {جاءَتْها} ضميرُ الريح الطيبة، أي: جاءَتِ الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفَتْها. وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفراء وجَوَّز أن يكونَ الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأن الفُلْكَ هو المُحَدَّث عنه.
قوله: {وظنوا} يجوز أن يكونَ معطوفًا على {جاءتها} الذي هو جوابُ {إذا}، ويجوز أن يكونَ معطوفًا على {كنتم} وهو قولُ الطبريّ ولذلك قال: {وظنُّوا} جوابُه {دَعَوا الله}.
قال الشيخ: ظاهره العطف على جواب {إذا} لا أنَّه معطوفٌ على {كنتم} لكنه محتمل كما تقول: إذا زارك فلانٌ فأكرمه، وجاءك خالد فأحسِنْ إليه وأنَّ أداةَ الشرط مذكورة.
وقرأ زيد بن عليّ {حِيط} ثلاثيًا.
قوله: {دَعَوُاْ الله}، قال أبو البقاء: هو جواب ما اشتمل عليه المعنى مِنْ معنى الشرط، تقديره: لما ظَنُّوا أنهم أُحيط بهم دَعَوُا الله، وهذا كلامٌ فارغ. وقال الزمخشري: هي بدلٌ مِنْ {ظنُّوا} لأنَّ دعاءهم مِنْ لوازم ظنِّهم الهلاكَ فهو متلبسٌ به.
ونقل الشيخ عن شيخه أبي جعفر أنه جوابٌ لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا كان حالُهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوُا الله. و{مخلصين} حال. و{له} متعلقٌ به. و{الدين} مفعوله.
قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} اللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوف، و{لنكونَنَّ} جوابه، والقسمُ وجوابهُ في محل نصب بقول مقدر، وذلك القولُ المقدرُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والتقدير: دَعَوا قائلين: لئن أَنْجَيْتنا من هذه لنكوننَّ. ويجوزُ أن يجرى {دَعَوا} مجرى قالوا، لأن الدعاء بمعنى القول، إذ هو نوعٌ مِنْ أنواعه، وهو مذهب كوفي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يريد أنهم يُصْبحون في النّعم يجرُّون أذيالَهُم، ثم يُمْسُون يبكون لَيَالِيَهُم. وقد يَبِيتُون والبهجةُ مَلكَتْهُم ثم يصبحون وخفايا التقدير أهلكتْهُم، وأنشدوا:
أقمتَ زمانًا والعيونُ قريرةٌ ** وأصبحتَ يومًا والجفونُ سوافِكُ

فإذا رجعوا إلى الله بإخلاص الدعاء يجود عليهم بكَشْفِ البلاء.
فلمَّا أنجاهم بالإجابة لدعائهم إذا هم إلى غيره يرجِعون، وعلى مناهجهم- في تمردهم يسلكون. اهـ.