فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي: امتزج به لسريانه فيه، فالباء للمصاحبة، أو هي للسببية، أي: اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضًا، أي: التف بعضه ببعض، والأول أظهر: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} من الزروع والثمار والكلأ والحشيش: {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أي: حسنها وبهجتها: {وَازَّيَّنَتْ} أي: بأصناف النبات: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي: متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها: {أَتَاهَا أَمْرُنَا} أي: عذابنا: {لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي: كالمحصود من أصله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} أي: لم تنبت: {بِالأَمْسِ} أي: قبيل ذلك الوقت. و(الأمس) مَثَلٌ في الوقت القريب: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أي: بالأمثلة تقريبًا: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: في معانيها.
تنبيه:
قال القاشاني: البغي ضد العدل، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيئة وحدانية لها، فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعًا، فصاحبها في غاية البعد عن الحق، ونهاية الظلمة، كما قال: الظلم ظلمات يوم القيامة. فلهذا قال: {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} لا على المظلوم؛ لأن المظلوم سعد به، وشقي الظالم غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا؛ إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية، ولذات حيوانية، تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال، وقلة البقاء، هذا المثل الذي مثل به، من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات سريعًا قبل الانتفاع بنباتها، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم.
وفي الحديث: «أسرع الخير ثوابًا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابًا البغي واليمين الفاجرة»؛ لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى. انتهى.
وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة {متاع الحياة الدنيا} [يونس: 23] المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد.
والمثَل: الحال الماثلة على هيئة خاصة، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة.
عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة.
وصيغة القصر لتأكيد المقصُود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء.
ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ.
والمعنى: قصرُ حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف، فالقصر قصر قلب، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة.
شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطامًا ومصيره حصيدًا.
ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزءٍ من الحاليْن المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه.
فقوله: {كماء أنزلناه من السماء} شُبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمَّل منه مِن زخرف الأرض ونضارتها.
وقوله: {فاختلط به نبات الأرض} شُبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها.
وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه.
وقوله: {مما يأكل الناس والأنعام} وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول، وأصنافٌ تأكلها الأنعام من العشب والكلأ، وذلك يشبَّه به ما ينعَم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان، فإن له حظًا في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته.
ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تُشبه به رغَبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس، وتشبيهَ سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام، كقوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} [محمد: 12].
والقول في {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} كالقول في قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك} [يونس: 22]، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء.
وأمر الله: تقديره وتكوينه.
وإتيانه: إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء.
وفي معنى الغاية المستفادِ من {حتى} ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطوارًا كثيرة، فذلك طوي في معنى {حتى}.
وقوله: {ليلًا أو نهارًا} ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت.
والزخرف: اسم الذهب.
وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي.
وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارةٌ مكنية.
شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتُحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان.
والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ، قال تعالى: {يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]، وقال بشار بن برد:
وخُذي ملابس زينة ** ومُصَبَّغات وهي أفخر

وذكر {ازينت} عقب {زخرفها} ترشيح للاستعارة، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين.
و{ازّينت} أصله تزينت فقلبت التاء زَايًا؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.
واعلم أن في قوله تعالى: {أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا فجعلناها حصيدًا} إشارة لإرادة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم، كقوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44] لاسيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه، ويزيد تلك الإشارة وضوحًا قوله: {وظن أهلها أنهم قادرون عليها} المؤذنُ بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة.
ومعنى: {أنهم قادرون عليها} أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة.
والحصيد: المحصود، وهو الزرع المقطوع من منابته.
والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها.
ومعنى {لم تغْنَ} لم تَعْمُر، أي لم تعمر بالزرع.
يقال: غَنِي المكان إذا عَمَر.
ومنه المغنَى للمكان المأهول.
وضد أغنى أقفر المكان.
والباء في {بالأمس} للظرفية.
والأمس: اليوم الذي قبل يومك.
واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن.
والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال.
وجمَعَها قولُ زهير:
وأعلم عِلم اليوم والأمسِ قبلَه ** ولكنني عن عِلم ما في غد عَمِ

وجملة: {كذلك نفصل الآيات} إلى آخرها تذييل جامع، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع.
فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات.
وتقدم نظيره في قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيلَ المجرمين} في سورة [الأنعام: 55].
واللام في: {لقوم يتفكرون} لام الأجْل.
والتفكر: التأمل والنظر، وهو تفعل مشتق من الفكر، وقد مر عند قوله تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} في سورة [الأنعام: 50].
وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم.
وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}
والماء الذي ينزل من السماء، هو الماء الصالح للري وللسقي؛ لأن المياه الموجودة في الوجود، هي مخازن للحياة، وغالبًا ما تكون مالحة، كمياه البحار والمحيطات، وشاء الحق سبحانه ذلك، لحمايتها من العفن والفساد، ثم تتم عملية تقطير المياه بأشعة الشمس التي تحوّل الماء إلى بخار، ويتجمع البخار كسحاب، ثم يسقط ماء عَذْبًا مقطرًا صالحًا للشرب والرّي.
والحق سبحانه يقول هنا: {كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} [يونس: 24]
والاختلاط: اجتماع شيئين أو أشياء على هيئة الانفصال بحيث يمكن أن تعزل هذا عن ذاك، فإن خلطت بعضًا من حبات الفول مع بعض من حبّات الترمس؛ فأنت تستطيع أن تفصل أيا منهما عن الآخر، ولكن هناك لونًا آخر من جمع الأشياء على هيئة المزج، مثلما تعصر ليمونة على ماء محلّى بالسكر، وهذا ينتج عنه ذوبان كل جزيء من الليمون والسكر في جزيئات الماء.
وهنا يقول الحق سبحانه: {كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} وقد يُفهم من ذلك أن الماء والنبات قد اختلطا معًا، لكن النبات كما نعلم ككائن حي مخلوق من الماء مصداقًا لقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].
وهنا لابد أن نلتفت إلى الفارق بين باء الخلط، وباء السببية فالباء هنا في هذه الآية هي باء السببية، وبذلك يكون المعنى: فاختلط بسببه نبات الأرض. وأنت ترى بعد سقوط المطر على الأرض أن المياه تغطي الأرض، ثم تجد بعد ذلك بأيام أو أسابيع، أن سطح الأرض مغطى بالزروع، وكلها مختلطة متشابكة، وكلما تشابكت الزروع مع بعضها فهذا دليل على أن الري موجود والخصوبة في هذه الأرض عالية، وهذا نتيجة تفاعل الماء مع التربة.
أما إن كانت الأرض غير خصبة، فأنت تجد نَبْتة في منطقة من الأرض، وأخرى متباعدة عنها، وهذا ما يطلق عليه أهل الريف المصري أثناء زراعة الذرة على سبيل المثال: الذرة تفلس أي: أن كل عود من أعواد الذرة يتباعد عن الآخر نتيجة عدم خصوبة الأرض.
إذن: فخصوبة الأرض لها أساس هام في الإنبات والماء موجود لإذابة عناصر الغذاء للنبات، فتنتشر بها جذور النبات.
وإن سمحتْ لك الظروف بزيارة المراكز العلمية للزراعة في طوكيو أو كاليفورنيا؛ فلسوف ترى أنهم يزرعون النباتات على خيوط رفيعة؛ تُسقى بالماء الذي يحتوي على عناصر الغذاء اللازمة للإنبات؛ لأنهم وجدوا أن أي نبات يأخذ من الأرض المواد اللازمة لإنباته بما لا يتجاوز خمسة في المائة من وزنه، ويأخذ من الهواء خمسة وتسعين في المائة من وزنه.
إذن: فالمطر النازل من السماء خلال الهواء هو الذي يذيب عناصر الأرض؛ ليمتصها النبات.
والحق سبحانه وتعالى هنا أراد أن يضرب لنا المثل، والمثل: هو قول شُبِّه مَضْرِبُهُ بِمَوْلِدِه، أي: شيء نريد أن نمثله بشيء، ولابد أن يكون الشيء الممثل به معلومًا، والشيءُ المأخوذ كمثلٍ هو الذي نريد أن نوضح صورته؛ ولذلك لا يصح أن نمثل مجهولًا بمجهول، وإنما نمثل مجهولًا بمعلوم.
وتجد من يقول لك: ألا تعرف فلانًا؟ فتقول: لا أعرفه، فيرد عليك صاحبك: إنه مثل فلان في الشكل. وهكذا عرَّفْتَ المجهول بمعلوم.