فصل: (سورة يونس: الآيات 19- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة يونس: الآيات 19- 20]:

{وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}
{وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً} حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل. وقيل: بعد الطوفان حين لم يذر اللّه من الكافرين ديارا {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا} فيما اختلفوا فيه، ولميز المحق من المبطل، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. وقالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم ينزل عليه آية قط، حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغىّ {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي هو المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعنى أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو {فَانْتَظِرُوا} نزول ما اقترحتموه {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لما يفعل اللّه بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.

.[سورة يونس: آية 21]:

{وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)}
سلط اللّه القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون، ثم رحمهم بالحيا، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات اللّه ويعادون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويكيدونه، وإذا الأولى للشرط، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة، والمكر: إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة المطوية الخلق. ومعنى {مَسَّتْهُمْ} خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت: ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صح قوله: {أَسْرَعُ مَكْرًا}؟ قلت: بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤسهم من مس الضراء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى: أنّ اللّه تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام {إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ} إعلام بأنّ ما تظنونه خافيا مطويا لا يخفى على اللّه، وهو منتقم منكم. وقرئ: {يمكرون}، بالتاء والياء. وقيل: مكرهم قولهم سقينا بنوء كذا. وعن أبى هريرة: إنّ اللّه ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا.

.[سورة يونس: الآيات 22- 23]:

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
قرأ زيد بن ثابت: {ينشركم}. ومثله قوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}، {ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}.
فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد {حتى} بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء. فإن قلت:
ما جواب {إذا}؟ قلت: جاءتها. فإن قلت: فدعوا؟ قلت: بدل من ظنوا، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت: ما وجه قراءة أمّ الدرداء: {في الفلكي}، بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمرى. ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه.
والضمير في {جَرَيْنَ} للفلك، لأنه جمع فلك كالأسد، في فعل أخى فعل. وفي قراءة أمّ الدرداء: للفلك، أيضًا، لأنّ الفلكي يدلّ عليه {جاءَتْها} جاءت الريح الطيبة، أي تلقتها.
وقيل: الضمير للفلك {مِنْ كُلِّ مَكانٍ} من جميع أمكنة الموج {أُحِيطَ بِهِمْ} أي أهلكوا جعل إحاطة العدوّ بالحي مثلا في الهلاك {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من غير إشراك به، لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه {لَئِنْ أَنْجَيْتَنا} على إرادة القول. أو لأن {دَعَوُا} من جملة القول: {يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك: بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد. فإن قلت: فما معنى قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} والبغي لا يكون بحق؟ قلت: بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببني قريظة. قرئ: {متاع الحياة الدنيا} بالنصب.
فإن قلت: ما الفرق بين القراءتين؟ قلت: إذا رفعت كان المتاع خبرًا للمبتدإ الذي هو {بَغْيُكُمْ} و{عَلى أَنْفُسِكُمْ} صلته، كقوله: {فَبَغى عَلَيْهِمْ} ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم، يعنى: بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لا بقاء لها. وإذا نصبت {عَلى أَنْفُسِكُمْ} خبر غير صلة، معناه. إنما بغيكم وبال على أنفسكم، و{مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا} في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغيًا، ولا تنكث ولا تعن ناكثًا» وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام: «أسرع الخير ثوابًا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابًا البغي واليمين الفاجرة» وروى: «ثنتان يعجلهما اللّه تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي.
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يَا صَاحِبَ الْبَغْىِ إنَّ الْبَغْىَ مَصْرَعَةٌ ** فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ المَرْءِ أعْسَلُهُ

فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْمًا عَلَى جَبَلٍ ** لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ

وعن محمد بن كعب: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي والنكث والمكر.
قال اللّه تعالى: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ}.

.[سورة يونس: آية 24]:

{إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطامًا بعد ما التف ونكائف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه {فَاخْتَلَطَ بِهِ} فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضًا {أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ} كلام فصيح: جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين. وأصل {ازَّيَّنَتْ} تزينت، فأدغم. وبالأصل قرأ عبد اللّه. وقرئ: {وأزينت}، أي أفعلت، من غير إعلال الفعل كأغيلت أي صارت ذات زينة. وازيانت، بوزن ابياضت {قادِرُونَ عَلَيْها} متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، رافعون لغلتها {أَتاها أَمْرُنا} وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم {فَجَعَلْناها} فجعلنا زرعها {حَصِيدًا} شبيهًا بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ} كأن لم يغن زرعها، أي لم ينبت على حذف المضاف في هذه المواضع لابد منه، وإلا لم يستقم المعنى.
وقرأ الحسن: {كأن لم يغن}، بالباء على أنّ الضمير للمضاف المحذوف، الذي هو الزرع. وعن مروان أنه قرأ على المنبر: كأن لم تتغن بالأمس، من قول الأعشى:
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّى

والأمس مثل في الوقت القريب كأنه قيل: كأن لم تغن آنفًا.

.[سورة يونس: آية 25]:

{وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
{دارِ السَّلامِ} الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيما لها. وقيل السلام السلامة، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل: لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} {وَيَهْدِي} ويوفق {مَنْ يَشاءُ} وهم الذين علم أنّ اللطف يجدى عليهم، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته ومعناه: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون. اهـ.

.قال سيد قطب:

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
السورة كلها- كما أسلفنا في تقديمها- لحمة واحدة، يصعب تقسيمها إلى مقاطع: شأنها في هذه الخاصية شأن سورة الأنعام التي سبق الحديث عنها في الجزء السابع- مع تميز كل سورة بشخصيتها وطابعها الخاص- فهي تتدفق في هيئة موجات متوالية؛ تنصب بمؤثراتها الموحية على القلب البشري، وتخاطبه بإيقاعات منوعة.. من التعجيب من أمر المشركين في استقبالهم للوحي والقرآن. إلى عرض المشاهد الكونية التي تتجلى فيها ألوهية الله سبحانه.. إلى عرض مشاهد القيامة. إلى عرض أحوال البشر في مواجهة الأحداث التي تمر بهم. إلى عرض مصارع الغابرين.. إلى آخر ما سبقت الإشارة إليه من الموضوعات والمؤثرات التي تحتويها السورة.
وإذا جاز تقسيم السورة إلى مقاطع مميزة. فإن أكثر من نصفها الأول يعد مقطعًا واحدًا يتدفق بهذه الموجات المتتابعة. ثم تجيء قصة نوح- ومن بعده في اختصار- وقصة موسى والإشارة إلى قصة يونس؛ فتؤلف مقطعًا آخر. ثم تجيء الإيقاعات الأخيرة في السورة فتؤلف المقطع الأخير.
ونظرًا لطبيعة السورة هذه فسنحاول عرضها موجة موجة- أو مجموعة من الموجات المتناسقة- كما هي طبيعتها المتميزة..
أما هذا الدرس الأول منها فيبدأ بحروف ثلاثة. (ألف. لام. را) كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف بحروف ذكرنا الرأي الذي اخترناه في تفسيرها هناك. يبدأ بهذه الأحرف مبتدأ خبره: {تلك آيات الكتاب الحكيم}.
ثم يأخذ السياق في عرض عدة أمور تبدو فيها الحكمة التي أشير إليها في وصف الكتاب. من الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر الناس ويبشر المؤمنين، والرد على المعترضين أن يوحي الله إلى بشر.. إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما.. إلى جعل الشمس ضياء والقمر نورًا، وتقدير منازل القمر ليعلموا عدد السنين والحساب.. إلى اختلاف الليل والنهار وما فيه من حكمة وتدبير..
ويتطرق من عرض هذه الآيات الكونية إلى الغافلين عنها، الذين لا يرتقبون لقاء الله مدبر كل شيء، وما ينتظر هؤلاء الغافلين من سوء المصير؛ وما ينتظر المؤمنين في الجانب الآخر من نعيم مقيم. ويسجل حكمة تأجيل المصير إلى يومه الموعود، وعدم تعجيل الشر للناس كما يستعجلون هم الخير في هذه الدنيا ولو عجل لهم بالشر كما يستعجلون بالخير لانتهى الأجل وأخذوا بذنوبهم دون إمهال.
ومن ثم وصف لطبيعة البشر في تلقيهم للشر والخير. وضراعتهم إلى الله عند مس الأذى، ونسيانهم له عند كشف الضر. ولجاجهم فيما كانوا من قبل فيه، دون اعتبار بالقرون الخالية التي سارت في الطريق ذاته، ولقيت مصارعها في ذلك الطريق!
ومع أن مصارع الغابرين كانت واضحة للعرب الذين يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المكذبين كانوا يطلبون إلى الرسول أن يأتي لهم بقرآن غير هذا القرآن أو يبدل بعضه.
غير متدبرين ولا مدركين أن القرآن من عند الله، وأن له حكمة ثابتة فهو لا يقبل التبديل. وهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم دون استناد إلى شيء، ويتركون عبادة الله وحده وهي تستند إلى وحي من الله. ثم يطلبون خارقة من الخوارق غير ناظرين إلى آية الله الواضحة في القرآن، غافلين عن آياته المعجزة في تضاعيف الكون.
ثم عودة إلى طبيعة البشر في تلقي الرحمة والضر، وعرض نموذج حي من هذه الطبيعة، في مشهد من المشاهد النابضة المتحركة المؤثرة. في ركوب البحر عندما تسير الفلك في أول الأمر رخاء، ثم تعصف بها الريح ويأتيها الموج من كل مكان.
ومشهد آخر يمثل غرور هذه الحياة الدنيا، وبريقها ولألاءها الذي ينطفئ في لحظة، وأهلها مأخوذون بزخرفها غافلون عن المصير الخاطف المرهوب.. ذلك والله يدعو إلى دار السلام. دار الأمن والاطمئنان. الدار التي لا خوف من أخذها على حين غرة..
{كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}. ويدركون حكمة الله في الخلق والتدبير.
{ألر تلك آيات الكتاب الحكيم}.
من هذه الحروف وأمثالها، تتألف آيات الكتاب الحكيم، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول. وهذه الحروف في متناول أيديهم، ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب- كما يتحداهم في هذه السورة- ولا يقودهم هذا إلى التدبر، وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول، وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزًا عن تأليف آية واحدة، من هذه الحروف المبذولة للجميع.