فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقبل أن يمضي في عرض ما قالوه وما فعلوه، يعقب على هذا الشرك، بأنه عارض. والفطرة في أصلها كانت على التوحيد، ثم جد الخلاف بعد حين:
{وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا}.
وقد اقتضت مشيئة الله أن يمهلهم جميعًا إلى أجل يستوفونه، وسبقت كلمته بذلك فنفذت لحكمة يريدها:
{ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون}.
وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون:
{ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربهَ فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين}.
فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم. وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم. وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم. غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية. وطبيعة معجزتها. فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل، إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل.
ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه، ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز:
{فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين}.
وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد.. وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية. فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الأنبياء المرسلين، لا يملك من أمر الغيب شيئًا، فالغيب كله لله. ولا يملك من أمر الناس شيئًا، فأمرهم موكول إلى الله.. وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية، ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة.
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون، يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر، حين يذوقون الرحمة بعد الضر. كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه. ويضرب لهم مثلًا مما يقع في الحياة يصدق ذلك، فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية:
{وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرًا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}.
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة. فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان.. ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن، مجلوة دائمًا بجلاء الإيمان.
{وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا}.
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى. فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه. فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها، وقالوا: إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا.. وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك، فجاءت محمدًا تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا، ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان.
{قل الله أسرع مكرًا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون}.
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون. ومكرهم مكشوف لديه ومعروف، والمكر المكشوف إبطاله مضمون:
{إن رسلنا يكتبون ما تمكرون}.
فلا شيء منه يخفى، ولا شيء منه ينسى. أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون، فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئًا إلا من مثل هذا النص، فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح.
ثم ذلك المشهد الحي، الذي يعرض كأنه يقع، وتشهده العيون، وتتابعه المشاعر، وتخفق معه القلوب، يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون:
{هو الذي يسيركم في البر والبحر}.
ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك.
ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب:
{حتى إذا كنتم في الفلك}.
وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء..
{وجرين بهم بريح طيبة}.
وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها:
{وفرحوا بها}.
وفي هذا الرخاء الآمن، وفي هذا السرور الشامل، تقع المفاجأة، فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين:
{جاءتها ريح عاصف}.
يا للهول!
{وجاءهم الموج من كل مكان}.
وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها، ولاطمها الموج وشالها وحطها، ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم.. وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص:
{وظنوا أنهم أحيط بهم}.
فلا مجال للنجاة..
عندئذ فقط، وفي وسط هذا الهول المتلاطم، تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات، وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه: {دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين}!
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج، وتهدأ الأنفاس اللاهثة، وتسكن القلوب الطائرة، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ، ويوقن الناس بالحياة، وأرجلهم مستقرة على اليابسة. فماذا؟
{فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} هكذا بغتة ومفاجأة!
إنه مشهد كامل، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة.. مشهد حادث. ولكنه مشهد نفس، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل. ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرًا للناس أجمعين:
{يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}.
سواء كان بغيًا على النفس خاصة، بإيرادها موارد التهلكة، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية؛ أو كان بغيًا على الناس فالناس نفس واحدة. على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة.
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده.
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة. يذوقون هذه العاقبة فسادًا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضارّ به.
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله. وإما أن يتعبدهم الطغاة. والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض، وربوبية الله وحدها في حياة البشر، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد. ودنس المستنقع، وامتهان الكرامة، وفساد المجتمع، ودناءة الحياة!
{يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم... متاع الحياة الدنيا}.
لا تزيدون عليه!
{ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}.
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء.
وما قيمة {متاع الحياة الدنيا} هذا وما حقيقته؟ يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة، وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم، ويمر عليها الأحياء دون انتباه: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.
ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى..
هذا هو الماء ينزل من السماء، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر. وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج. وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزينت، وأنهم أصحاب الأمر فيها، لا يغيرها عليهم مغير، ولا ينازعهم فيها منازع.
وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق..
{أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس}.
في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة.. وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان.
وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا بعض المتاع.
هذه هي. لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئًا إلا بمقدار.
هذه هي..
{والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة، وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس.. ودار السلام التي يدعو إليها الله، ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها. حينما تنفتح بصيرته، ويتطلع إلى دار السلام. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
أخرج أبو نعيم والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما {والله يدعوا إلى دار السلام} يقول يدعو إلى عمل الجنة، والله السلام والجنة داره.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية رضي الله عنه في قوله: {ويهدي من يشاء} قال: يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات.
وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين: اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا. فأنزل الله في ذلك كله قرآنًا في قول الملكين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم {والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} وأنزل في قولهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} [الليل: 1- 2] إلى قوله: {للعسرى} [الليل: 10]».
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن أبي هلال رضي الله عنه. سمعت أبا جعفر محمد بن علي رضي الله عنه وتلا {والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} فقال: حدثني جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «إني رأيت في المنام كان جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: ضرب له مثلًا فقال: اسمع سمعت أذناك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولًا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم فيها مأدبة، فالله هو الملك، والدار الإِسلام، والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإِسلام، ومن دخل الإِسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها».
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا موضعًا لا ندري ما هو؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في حجري، ثم إن نفرًا أتوا عليهم ثياب بيض طوال وقد أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله رضي الله عنه: فارعبت منهم. فقالوا: لقد أعطى هذا العبد خيرًا إن عينه نائمة والقلب يقظان، ثم قال بعضهم لبعض: اضربوا له ونَتَأوَّلَ نحن أو نضرب نحن وتَتَأَوَّلون أنتم. فقال بعضهم: مثله كمثل سيد اتخذ مأدبة، ثم ابتنى بيتًا حصينًا، ثم أرسل إلى الناس فمن لم يأت طعامه عذبه عذابًا شديدًا.
قال الآخرون: أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإِسلام، والطعام الجنة، وهذا الداعي فمن اتبعه كان في الجنة ومن لم يتبعه عذب عذابًا أليمًا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ فقال: ما رأيت يا ابن أم عبد؟ فقلت: رأيت كذا وكذا! فقال: أُخفِيَ علي مما قالوا شيء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم نفر من الملائكة».
وأخرج ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سيدًا بنى دارًا واتخذ مأدبة وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد، ألا وإن السيد الله، والدار الإِسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه قال: ما من ليلة إلا ينادي مناديًا يا صاحب الخير هلم ويا صاحب الشر اقصر. فقال رجل للحسن رضي الله عنه: أتجدها في كتاب الله؟ قال: نعم {والله يدعوا إلى دار السلام} قال: ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر انته.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه. أنه كان إذا قرأ {والله يدعوا إلى دار السلام} قال: لبيك ربنا وسعديك. اهـ.