فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: أنّ الخبر قوله: {ما لهم من الله من عاصم}، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي، والصحيح جوازه.
الثالث: أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا.
الرابع: أن يكون الخبر أولئك وما بعده، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة، وفي القول الثالث بثلاث جمل، والصحيح منع الاعتراض بثلاث الجمل وبأربع الجمل، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفًا على قوله: {للذين أحسنوا}، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله: والذين على إسقاط حرف الجر أي: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، فيتعادل التقسيم، كما تقول: في الدار زيد، والقصر عمرو، وأي: وفي القصر عمرو.
وهذا التركيب مسموع من لسان العرب، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين.
وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو.
والظاهر أنّ السيئات هنا هي سيئات الكفر، ويدل عليه ذكر أوصافهم بعد.
وقيل: السيئات المعاصي، فيندرج فيها الكفر وغيره.
ولهذا قال ابن عطية: وتعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار، ومثل سيئات المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى، ومعنى بمثلها أي: لا يزاد عليها.
قال الزمخشري: وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى.
وقيل: معنى بمثلها أي: بما يليق بها من العقوبات، فالعقوبات تترتب على قدر السيئات، ولهذا كانت جهنم دركات، وكان المنافقون في الدرك الأسفل لقبح معصيتهم.
وقرئ: ويرهقهم بالياء، لأنّ تأنيث الذلة مجاز، وفي وصف المنافقين نفي القتر والذلة عن وجوههم، وهنا غشيتهم الذلة، وبولغ فيما يقابل القتر فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا، وهذه مبالغة في سواد الوجوه.
وقد جاء مصرحًا في قوله: {وتسود وجوه} من الله أي من سخطه وعذابه، أو من جهته تعالى، ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وأغشيت: كسبت، ومنه الغشاء.
وكون وجوههم مسودة هي حقيقة لا مجاز، فتكون ألوانهم مسودة.
قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أن حكماء الإسلام قالوا: المراد من هذا السواد هاهنا سواد الجهل وظلمة الضلال، فإن الجهل طبعه طبع الظلمة.
فقوله: {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة}، المراد نور العلم وروحه وبشره وبشارته، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى.
وكثيرًا ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير، وينقل كلامهم تارة منسوبًا إليهم، وتارة مستندًا به ويعني: بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية، وهم أحق بأنْ يسمّوا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى.
وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتابًا إلهيًا، فلأنْ ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق.
وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس، ويسمونها الحكمة، ويستجهلون من عرى عنها، ويعتقدون أنهم الكملة من الناس، ويعكفون على دراستها، ولا تكاد تلقى أحدًا منهم يحفط قرآنًا ولا حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا: كيف يكون أعلم الناس بالله ينسب للجهل؟ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم، أغرى به علماء الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الاشهاد، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء:
خليفتنا جزاك الله خيرًا ** عن الإسلام والسعي الكريم

فحق جهاده جاهدت فيه ** إلى أن فزت بالفتح العظيم

وصيرت الأنام بحسن هدى ** على نهج الصراط المستقيم

فجاهد في أناس قد أضلوا ** طريق الشرع بالعلم القديم

وحرق كتبهم شرقًا وغربًا ** ففيها كامنًا شر العلوم

يدب إلى العقائد من أذاها ** سموم والعقائد كالجسوم

وفي أمثالها إذ لا دواء ** يكون السيف ترياق السموم

وقال:
يا وحشة الإسلام من فرقة ** شاغلة أنفسها بالسفه

قد نبذت دين الهدى خلفها ** وادعت الحكمة والفلسفه

وقال:
قد ظهرت في عصرنا فرقة ** ظهورها شؤم على العصر

لا تقتدي في الدين إلا بما ** سن ابن سينا أو أبو نصر

ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيرًا من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهرًا من غير أن ينكر ذلك أحد تعجبت من ذلك، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له، وأنه إذا بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق، إنما يسمونه المفعل، حتى أنّ صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتابًا من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتابًا لبعض شيوخنا في المنطق، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير، فسماه في كتابه لي بالمفعل.
ولما ألبست وجوههم السواد قال: كأنما أغشيت وجوههم، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته.
وقرأ ابن كثير والكسائي قطعًا بسكون الطاء، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع.
وقال الأخفش في قوله: بقطع من الليل، بسواد من الليل.
وأهل اللغة يقولون: القطع ظلمة آخر الليل.
وقال بعضهم: طائفة من الليل.
وعلى هذه القراءة يكون قوله: {مظلمًا} صفة لقوله: {قطعًا}، كما جاء ذلك في قراءة أبي: {كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم}.
وقرأ ابن أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء.
وقيل: قطع جمع قطعة، نحو سدر وسدرة، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو: نخل منقعر، وبالمؤنث نحو نخل خاوية، ويجوز على هذا أن يكون مظلمًا حالًا من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة، كأنما أغشيت وجوههم قطعًا بتحريك الطاء بالفتح من الليل: مظلمًا بالنصب.
قال الزمخشري: (فإن قلت): إذا جعلت مظلمًا حالًا من الليل، فما العامل فيه؟ (قلت): لا يخلو إما أن يكون أغشيت، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله: {قطعًا}، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة.
وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى.
أما الوجه الأوّل فهو بعيد، لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن، وأغشيت عامل في قوله: {قطعًا} الموصوف بقوله: {من الليل}، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي: قطعًا مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه.
وقيل: {مظلمًا} حال من قوله: {قطعًا}، أو صفة.
وذكر في هذين التوجيهين لأنّ قطعًا في معنى كثير، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير.
وجوزوا أيضًا في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلمًا حالًا من قطع، وحالًا من الضمير في من.
قال ابن عطية: فإذا كان نعتًا يعني: مظلمًا نعتًا لقطع، فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة، قطعًا استقر من الليل مظلمًا على نحو قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مباركًا} انتهى.
ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير: كائنًا من الليل مظلمًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والذين كَسَبُواْ السيئات} أي الشركَ والمعاصيَ وهو مبتدأٌ بتقدير المضافِ خبرُه قوله تعالى: {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي جزاءُ الذين كسبوا السيئاتِ أن يجازى سيئةً واحدةً بسيئة مثلها، لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة، وتغييرُ السبكِ حيث لم يقل: وللذين كسبوا السيئاتِ السوآى لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتبايُن، وإيرادُ الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعِهم وبسبب جنايتِهم على أنفسهم، أو الموصولُ معطوفٌ على الموصول الأولِ كأنه قيل: وللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها كقولك: في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ وفيه دلالةٌ على أن المرادَ بالزيادة الفضلُ {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وأيُّ ذلةٍ كما ينبئ عنه التنوينُ التفخيميُّ، وفي إسناد الرَهق إلى أنفسهم دون وجوهِهم إيذانٌ بأنها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعًا وقرئ يرهَقهم بالياء التحتانية {مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي لا يعصِمُهم أحدٌ من سُخطه وعذابِه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى مَن يعصمهم كما يكون للمؤمنين، وفي نفي العاصمِ من المبالغة في نفي العصمةِ ما لا يخفى، والجملةُ مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَت وُجُوههم قطعًا مِنَ اللَّيْلِ} لفرط سوادِها وظلمتِها {مُظْلِمًا} حالٌ من الليل والعاملُ فيه أغشيت لأنه العاملُ في قِطَعًا وهو موصوفٌ بالجار والمجرور والعاملُ في الموصوف عاملٌ في الصفة، أو معنى الفعلِ في {مِنَ الليل} وقرئ قِطْعًا بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال:
افتحي الباب وانظُري في النجوم ** كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم

فيجوزُ كونُ مظلمًا صفةً له أو حالًا منه وقرئ كأنما يغشى وجوهَهم قِطعٌ من الليل مظلمٌ، والجملةُ كما قبلها مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم {أولئك} أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة {أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} وحيث كانت الآيةُ الكريمةُ في حق الكفارِ بشهادة السياقِ والسباقِ لم يكن فيها تمسك للوعيدية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} أي الشرك والمعاصي، وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه: {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} والباء متعلقة بجزاء وهو مصدر المبني للمفعول لا اسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفو بمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ وحينئذٍ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد السمن منوان بدرهم.
وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئة بمثلها وحذف لهم لقرينة {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} [يونس: 26] والجملة خبر {الذين كَسَبُواْ} وحينئذٍ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف، وجوز غير واحد أن يكون {الذين} عطفا على {الذين} [يونس: 26] المجرور الذي هو مع جاره خبر وجزاء سيئة معطوف على {الحسنى} [يونس: 26] الذي هو المبتدأ، وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقًا وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقًا وهو مذهب الفراء والتفصيل بين أن يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع، والمانعون يحملون نحو هذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطردًا كقوله:
أكل امرئ تحسبين امرأ ** ونار توقد بالليل نارًا

وقيل: هو مبتدأ والخبر جملة {مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أو {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} أو {أُوْلَئِكَ أصحاب النار} وما في البين اعتراض، وفي تعدد الاعتراض خلاف بين النحويين و{جَزَاء سَيّئَةٍ} حينئذٍ مبتدأ و{بِمِثْلِهَا} متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو {بِمِثْلِهَا} هو الخبر على أن الباء زائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة، والأولى تقدير المتعلق خاصًا كمقدر ويصح تقديره عامًا، والقول بأنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر، وأيًا ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادة هي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافه لاسيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولم يؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتباين، وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهم وجنايتهم على أنفسهم {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي هوان عظيم، فالتنوين هنا للتفخيم على عكس التنوين فيما قبل كما أشرنا إليه، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم.
وقرئ {يرهقهم} بالباء التحتانية لكون الفاعل ظاهرًا وتأنيثه غير حقيقي، وقيل: التذكير باعتبار أن المراد من الذلة سببها مجازًا، ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لاسيما المفصول كثير جدًا.