فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قُلْ} أي لأولئك المشركين الذين حيكت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجًا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الاشراك.
{مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} أي منهما جميعًا فإن الارزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كاللأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم فمن على هذا لابتداء الغاية، وقيل: هي لبيان {مِنْ} على تقدير المضاف، وقيل: تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار} {أَمْ} منقطعة بمعنى بل والاضراب انتقالي لا ابطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما ادهابا وابقاء، والملك على كل مجاز، قيل: والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماء والأرض} [فاطر: 35] {وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي ومن ينشيء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم: الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلب عنه الحياة والمآل ما علمت، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى {وَمَن يُدَبّرُ الأمر} أي ومن يلي تدبير أم العالم جميعًا وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله {فَسَيَقُولُونَ} بلا تلعثم ولا تأخير {الله} إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره {هذا} وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون {مِنْ} لابتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه انه من أهل السماء والأرض، وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز تعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله صلى الله عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها: أين الله؟ «أعتقها فإنها مؤمنة» وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام: «كم تعبد يا حصين؟» فقال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلى الله عليه وسلم: فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟ فقال حصين: «الإله الذي في السماء» أبقي الآية على ما يقتضيه ظاهرها.
وأنت تعلم إنه لم يرد صريحًا كونه تعالى من أهل السماء والأرض وان ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللاثق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك، ولا داعي لإخراج {مِنْ} عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية فر رد الاستدلال كما لا يخفى.
وفي الانتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الارزاق منقسمة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكؤني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر باذن الله تعالى وجاء اطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه: {فالمدبرات أَمْرًا} [النازعات: 5]
وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربي النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأن الله سبحانه هو المدبر بلا فرق.
واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك: الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه، وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم {فَقُلْ} لهم {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك: أتضرب إياك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك: أأضرب أبي، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض، ومفعول {تَتَّقُونَ} محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الأولوهية، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية.
وهذه الجملة تتنزل منزلة الاستدلال لقوله: {مولاهم الحق} [يونس: 30] لأنها برهان على أنه المستحق للولاية.
فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة، وبموهبة الحواس، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع، وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية.
والاستفهام تقريري.
وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجواببِ لأن ذلك في صورة الحوار، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين، ولذلك كان من طرق التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب.
وقوله: {من السماء والأرض} تذكير بأحوال الرزق؛ ليكون أقوى حضورًا في الذهن، فالرزق من السماء المطر، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ.
و{أم} في قوله: {أم من يملك السمع} للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر.
ومعنى: {يملك السمع والأبصار} يملك التصرف فيهما، وهو مِلك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه.
وأفرد {السمع} لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس.
وأما {الأبصار} فجيء به جمعًا لأنه اسم، فهو ليس نصًا في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا} [الإسراء: 36] لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36].
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} في سورة [الأنعام: 46].
وإخراجُ الحي من الميت: هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البَيْض؛ فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة.
و{مِن} في قوله: {مِن الميت} للابتداء.
وإخراج الميت من الحي إخراج النطفةِ والبيضضِ من الحيوان.
والتعريف في {الحي} و{الميت} في المرتين تعريف الجنس.
وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد، كل ذلك لزيادة التعجيب منه.
وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} في سورة [آل عمران: 27].
غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء.
وقوله: {ومن يدبر الأمر} تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة.
وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعِبرة في قوله: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 21، 22].
والفاء في قوله: {فسيقولون الله} فاء السببية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط، وذلك أنه قصد تسبب قولهم: {اللّهُ} على السؤال المأمور به النبيءُ عليه الصلاة والسلام، فنزل فعل {قل} منزلة الشرط فكأنه قيل: إن تَقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله، ومنه قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديدًا أو خلقًا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا} [الإسراء: 51، 52].
وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى: {قل لعباديَ الذين آمنوا يقيمُوا الصلاة} [إبراهيم: 31] وقوله: {وقل لعبادِي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53].
التقدير: إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا.
وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يُخَرّجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام.
والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال، وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور.
ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جَاءت الفاء كما في قوله تعالى: {قل لِمَن الأرضُ ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} [المؤمنون: 84، 85] الآيات.
والفاء في قوله: {فقل} فاء الفصيحة، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون.
والفاء في قوله: {أفلا تتقون} فاء التفريع، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم.
ومفعول {تتقون} محذوف، تقديره تتقونه، أي بتنزيهه عن الشريك.
وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن.
وفيه تحدّ لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحًا، ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامتْ عليهم الحجة بقوله: {فقل أفلا تتقون}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي: أن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اسألهم هذا السؤال، ولا يسأل هذا السؤال إلا مَنْ يثق في أن المسئول لو أدار في ذهنه كل الأجوبة، فلن يجد جوابًا غير ما عند السائل.
ومثال ذلك من حياتنا والله المثل الأعلى إن جاء لك من يقول: أبي يهملني، فتمسك به، وتسأله: من جاء لك بهذه الملابس وذلك القلم ويُطعمك ويُعلِّمك؟ سيقول لك: أبي.
وأنت لا تسأله هذا السؤال إلا وأنت واثق أنه لو أدار كل الأجوبة فلن يجد جوابًا إلا الذي تتوقعه منه، فليس عنده إجابة أخرى؛ لأنك لون كنت تعرف أنه سوف يجيبك إجابة مختلفة لما سألته فكأنك ارتضيت حكمه هو في المسألة.
والحق سبحانه وتعالى قال في بداية هذه الآية الكريمة: {قُلْ} كما أنزل عليه مثيلاتها مما بُدئ بقوله سبحانه: {قُلْ} مثل قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الصمد: 1].
وهذا ما اقتضاه خطاب الحق سبحانه دائمًا للخَلْق، ويختلف عن خطاب الخَلْق للخَلْق، فحين تقول لابنك: اذهب إلى عمِّك، وقُلْ له كذا. فالابن يذهب إلى العمِّ ويقول له منطوق رسالة الأب، دون أن يقول له: {قُلْ}، أما خطاب الحق سبحانه للخلق، فقد شاء سبحانه أن يبلِّغنا به رسوله الله صلى الله عليه وسلم كما نزل: {قُلْ} فالرسول صلى الله عليه وسلم أمين في البلاغ عن الله تعالى، لا يترك كلمة واحدة من الوحي دون أن يبلِّغها للبشر، وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي أمره، فهو يبلغ ما أمِرَ، حتى لا يحرم آذان خلق الله تعالى من كل لفظ صدر عن الله سبحانه.
وكذلك أمر الحق سبحانه هنا لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: {مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض} [يونس: 31].
ونحن نعلم أن الرزق هو ما يُنتفع به، والانتفاع الأول مُقوِّم حياة، والثاني تَرَفٌ أو كماليات حياة، والرزق الذي هو أصل الحياة هو ماء ينزل من السماء، ونبات يخرج من الأرض.
وهكذا قال الحق سبحانه السؤال والإجابة معروفة مقدَّمًا، فلم يَقُلْ لرسوله صلى الله عليه وسلم: أجِب أنت بل ترك لهم أن يجيبوا بأنفسهم.
وكذلك جاء الحق سبحانه بسؤال آخر: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} [يونس: 31].
والسمع والبصر هما السيدان لملَكَات الإدراك؛ لأن إدراك المعلومات له وسائل متعددة، إنْ أردتَ أنْ تُدرك رائحة؛ فبأنفك، وإن أردتَ أنْ تدرك نعومة؛ فبلمسك وببشرتك، وإنْ أردتَ أن تدرك مذاق شيء فبلسانك، وإنْ أردت أن تتكلم فبأجهزة الكلام وعمدتها اللسان، وإنْ أردتَ أن تسمع فبأذنك.
وكذلك تتجلَّى لك المرائي بعينيك، ثم تأتي إدراكات متعددة من الحواس؛ لتُكوِّن أشياء نسميها الخميرة، توجد منها القضية العقلية الأخيرة، فالطفل أمام النار يجد منظرها جميلًا جذابًا، لكن ما إن يلمسها حتى تلسعه؛ فلا يقرب منها أبدًا من بعد ذلك؛ لأنه اختبرها بحواسه فارتكزت لديه القضية العقلية وهي أن هذه نار محرقة، واستقر هذا لديه يقينًا.