فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه»، وقال بعض الشعراء:
لا تطلبن بني آدم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تغلق

الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبني آدم حين يسأل يغضب

قال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زُفَر، سمعت العَرْزَميّ يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم، قال: بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] فخصهم باسمه الرحيم، قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به؛ فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب، فصار يُضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به، والتأكيد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد، وإنما هو من باب النعت بعد النعت ولا يلزم فيه ما ذكروه، وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيص عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوف رَحِيم} [التوبة: 128] كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
والحاصل: أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص.
فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة؛ فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن، جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن جرير عن عطاء. ووجهه بذلك، والله أعلم.
وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن، حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَلي: «اكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}»، فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري، وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].
والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود وعناد وتعنت في كفرهم؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير: وقد أنشد لبعض الجاهلية الجُهَّال:
ألا ضَرَبَتْ تلك الفتاةُ هَجِينَها ** ألا قَضَبَ الرحمنُ رَبى يمينها

وقال سلامة بن جندب الطهوي:
عَجِلتم علينا عَجْلَتينَا عليكُمُ ** وما يَشَأ الرّحْمَن يَعْقِد ويُطْلِقِ

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن: الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب، وقال: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 3] الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا حماد بن مَسْعَدة، عن عوف، عن الحسن، قال: الرحمن اسم ممنوع.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو الأشهب، عن الحسن، قال: الرحمن: اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى.
وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قرآنه حرفًا حرفًا: {بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة من الكوفيين ومنهم من وصلها بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور. وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قوله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} قال ابن عطية: ولم ترد بهذه قراءة عن أحد فيما علمت. اهـ.

.قال أبو حيان:

{بسم الله الرحمن الرحيم}.
باء الجر تأتي لمعان: للإلصاق، والاستعانة، والقسم، والسبب، والحال، والظرفية، والنقل.
فالإلصاق: حقيقة مسحت برأسي، ومجازًا مررت بزيد.
والاستعانة: ذبحت بالسكين.
والسبب: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا}.
والقسم: بالله لقد قام.
والحال: جاء زيد بثيابه.
والظرفية: زيد بالبصرة.
والنقل: قمت بزيد.
وتأتي زائدة للتوكيد: شربن بماء البحر.
والبدل: فليت لي بهم قومًا أي بدلهم.
والمقابلة: اشتريت الفرس بألف.
والمجاوزة: تشقق السماء بالغمام أي عن الغمام.
والاستعلاء: من أن تأمنه بقنطار.
وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة، وزاد فيها كونها للتعليل.
وكنى عن الاستعانة بالسبب، وعن الحال، بمعنى مع، بموافقة معنى اللام.
ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها، وسم بكسر السين وضمها، وسمي كهدي، والبصري يقول: مادته سين وميم وواو، والكوفي يقول: واو وسين وميم، والأرجح الأول.
والاستدلال في كتب النحو: أل للعهد في شخص أو جنس، وللحضور، وللمح الصفة، وللغلبة، وموصولة.
فللعهد في شخص: جاء الغلام، وفي جنس: اسقني الماء، وللحضور: خرجت فإذا الأسد، وللمح: الحارث، وللغلبة: الدبران.
وزائدة لازمة، وغير لازمة، فاللازمة: كالآن، وغير اللازمة: باعد أم العمر من أسيرها، وهل هي مركبة من حرفين أم هي حرف واحد؟ وإذا كانت من حرفين، فهل الهمزة زائدة أم لا؟ مذاهب.
والله علم لا يطلق إلا على المعبود بحق مرتحل غير مشتق عند الأكثرين، وقيل مشتق، ومادته قيل: لام وياء وهاء، من لاه يليه، ارتفع.
قيل: ولذلك سميت الشمس إلاهه، بكسر الهمزة وفتحها، وقيل: لام وواو وهاء من لاه يلوه لوهًا، احتجب أو استتار، ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل، وقيل: الألف زائدة ومادته همزة ولام، من أله أي فزع، قاله ابن إسحاق، أو أله تحير، قاله أبو عمر، وأله عبد، قاله النضر، أو أله سكن، قاله المبرد.
وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطًا، كما قيل في ناس أصله أناس، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام، وكلا القولين شاذ.
وقيل: مادته واو ولام وهاء، من وله، أي طرب، وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح، قاله الخليل والقناد، وهو ضعيف للزوم البدل.
وقولهم في الجمع آلهة، وتكون فعالًا بمعنى مفعول، كالكتاب يراد به المكتوب.
وأل في الله إذا قلنا أصله الإلاه، قالوا للغلبة، إذ الإله ينطلق على المعبود بحق وباطل، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق، فصار كالنجم للثريا. وأورد عليه بأنه ليس كالنجم، لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله، ثم غلب على المعبود بحق، ووزنه على أن أصله فعال، فحذفت همزته عال.
وإذا قلنا بالأقاويل السابقة، فأل فيه زائدة لازمة، وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل. أقبل جاء من عند الله.
وزعم بعضهم أن أل في الله من نفس الكلمة، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال، وهو اختيار أبي بكر بن العربي والسهيلي، وهو خطأ، لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالًا، وامتناع تنوينه لا موجب له، فدل على أن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين.
وينفرد هذا الاسم بأحكام ذكرت في علم النحو، ومن غريب ما قيل: إن أصله لاها بالسريانية فعرب، قال:
كحلفة من أبي رياح ** يسمعها لاهه الكبار

قال أبو يزيد البلخي: هو أعجمي، فإن اليهود والنصارى يقولون لاها، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا الله. ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس اسم ذات، لأن اسم الذات يعرف به المسمى، والله تعالى لا يدرك حسًا ولا بديهة، ولا تعرف ذاته باسمه، بل إنما يعرف بصفاته، فجعله اسمًا للذات لا فائدة في ذلك.
وكان العلم قائمًا مقام الإشارة، وهي ممتنعة في حق الله تعالى، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو، وقيل طرحت تخفيفًا، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط.
{الرحمن} فعلان من الرحمة، وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعدي، وأل فيه للغلبة، كهي في الصعق، فهو وصف لم يستعمل في غير الله، كما لم يستعمل اسمه في غيره، وسمعنا مناقبه، قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ووصف غير الله به من تعنت الملحدين، وإذا قلت الله رحمن، ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام، وهو أن أصل الاسم الصرف، والآخر إلى أصل خاص، وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه.
ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء، قاله ثعلب.
{الرحيم} فعيل محوّل من فاعل للمبالغة، وهو أحد الأمثلة الخمسة، وهي: فعال، وفعول، ومفعال، وفعيل، وفعل، وزاد بعضهم فعيلًا فيها: نحو سكير، ولها باب معقود في النحو، وقيل: وجاء رحيم بمعنى مرحوم، قال العملس بن عقيل:
فأما إذا عضت بك الأرض عضة ** فإنك معطوف عليك رحيم

قال علي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، وعطاء، وابن جبير، ومحمد بن يحيى بن حبان، وجعفر الصادق، الفاتحة مكية، ويؤيده: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم}.
والحجر مكية، بإجماع.
وفي حديث أبي: إنها السبع المثاني والسبع الطوال، أنزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير: {الحمد لله رب العالمين}.
وقال أبو هريرة، وعطاء بن يسار، ومجاهد، وسواد بن زياد، والزهري، وعبد الله بن عبيد بن عمير: هي مدنية، وقيل إنها مكية مدنية.
الباء في بسم الله للاستعانة، نحو كتبت بالقلم، وموضعها نصب، أي بدأت، وهو قول الكوفيين، وكذا كل فاعل بدئ في فعله بالتسمية كان مضمر إلا بدأ، وقدره الزمخشري فعلًا غير بدأت وجعله متأخرًا، قال: تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو، إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء، والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص، وليس كما زعم.
قال سيبويه: وقد تكلم على ضربت زيدًا ما نصه: وإذا قدمت الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك، يعني تأخيره عربيًا جيدًا وذلك قولك زيدًا ضربت.