فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (32):

قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم علل إنكار عدم تقواهم بقوله: {فذلكم} أي العظيم الشأن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام، فكانت هذه قدرته وأفعاله {ربكم} أي الموجد لكم المدبر لأموركم الذي لا إحسان عندكم لغيره {الحق} أي الثابته ربوبيته ثباتًا لا ريب فيه لاجتماع الصفات الماضية له لا لغيره لأنه لا تكون الربوبية حقيقة لمن لم تجتمع له تلك الصفات {فما} أي فتسبب عن ذلك أن يقال لكم: {ماذا بعد الحق} أي الذي له أكمل الثبات {إلاّ الضلال} فإنه لا واسطة بينهما- بما أنبأ عنه إسقاط الجار، ولا يعدل عاقل عن الحق إلى الضلال فانّى تصرفون أنتم عن الحق إلى الضلال؛ ولذلك سبب عنه قوله: {فأنى} أي فكيف ومن أيّ جهة {تصرفون} أي أنتم من صارف ما كائنًا ما كان، عن الحق إلى الضلال. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ} ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو {رَبُّكُمُ الحق} الثابت ربوبيته ثباتًا لا ريب فيه، وإذا ثبت أن هذا هو الحق، وجب أن يكون ما سواه ضلالًا، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقًا وجب أن يكون ما سواه باطلًا.
ثم قال: {فأنى تُصْرَفُونَ} والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر {فأنى تُصْرَفُونَ} وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر، واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال: هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان، لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول: {فأنى تُصْرَفُونَ} كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت، واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ {الْحَقِّ}:

وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى فِي تَسْمِيَةِ الْبَارِي تَعَالَى بِهِ.
وَلُبَابُهُ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ، وَالْوُجُودُ عَلَى قِسْمَيْنِ: وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ، وَوُجُودٌ شَرْعِيٌّ.
فَأَمَّا الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ فَلَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُك الْحَقُّ، وَوَعْدُك الْحَقُّ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ».
فَأَمَّا اللَّهُ وَصِفَاتُهُ فَوُجُودُهَا هُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهَا عَدَمٌ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ.
وَأَمَّا لِقَاءُ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ سَبَقَهُ عَدَمٌ، وَيَعْقُبُهُ مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا حَقَّانِ، سَبَقَهُمَا عَدَمٌ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ، لَكِنَّ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ أَعْرَاضٌ.
وَأَمَّا الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الَّذِي يُحَسِّنُهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَاطِلِ:

وَهُوَ ضِدُّ الْحَقِّ، وَالضِّدُّ رُبَّمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ الضِّدِّ، فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً، فَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَعَنْهُ عَبَّرَ الَّذِي يَقُولُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَقَّ هُوَ الْحَسَنُ شَرْعًا فَالْبَاطِلُ هُوَ الْقَبِيحُ شَرْعًا، وَمُقَابَلَةُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عُرِفَ لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}.
كَمَا أَنَّ مُقَابَلَةَ الْحَقِّ بِالضَّلَالِ عُرِفَ أَيْضًا لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ}، وَقَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْحَقِّ.
فَأَمَّا حَقِيقَةُ الضَّلَالِ، وَهِيَ:

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [في حقيقة الضلال]:

فَهُوَ الذَّهَابُ عَنْ الْحَقِّ، أُخِذَ مِنْ ضَلَالِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ الْعُدُولُ عَنْ سَمْتِ الْقَصْدِ، وَخُصَّ فِي الشَّرْعِ بِالْعِبَارَةِ عَنْ الْعُدُولِ عَنْ السَّدَادِ فِي الِاعْتِقَادِ دُونَ الْأَعْمَالِ.
وَمِنْ غَرِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ إذَا قَابَلَهُ غَفْلَةً، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِعَدَمِهِ جَهْلٌ أَوْ شَكٌّ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ: {وَوَجَدَك ضَالًّا فَهَدَى}.
الَّذِي حَقَّقَهُ قَوْلُهُ: {مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}.

.المسألة الرَّابِعَةُ: [في المراد بكلمة الضلال]:

رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ}؟ فَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مِنْ الضَّلَالِ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: سُئِلَ يَعْنِي مَالِكًا عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ، وَاللَّعِبُ كُلُّهُ مِنْ الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِذِي الْعَقْلِ أَنْ تَنْهَاهُ اللِّحْيَةُ وَالشَّيْبُ عَنْ الْبَاطِلِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَسْلَمَ فِي شَيْءٍ: أَمَا تَنْهَاك لِحْيَتُك هَذِهِ؟ قَالَ أَسْلَمُ: فَمَكَثْت زَمَانًا وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا سَتَنْهَانِي.
فَقِيلَ لِمَالِكٍ لِمَا كَانَ عُمَرُ لَا يَزَالُ يَقُولُ فَيَكُونُ.
فَقَالَ: نَعَمْ فِي رَأْيِي.
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَلْعَبُ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي بَيْتِهِ.
فَقَالَ مَالِكٌ: مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّعِبُ؛ يَقُولُ اللَّهُ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ}، وَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خِدَاشٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ}.
رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْجُهَنِيُّ؛ قَالَ: قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَدْعُو الرَّجُلَ لِعَبَثِي.
فَقَالَ مَالِكٌ: أَذَلِكَ مِنْ الْحَقِّ؟ قُلْت: لَا.
قَالَ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ}.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَلْفَاظِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخَالِفِينَ، فَقَالَ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ اللَّهِ هُوَ الضَّلَالُ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهَا: {فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ} فَهَذَا فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَعْنِي لَيْسَ فِي الْأَعْمَالِ.
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَالَ: إنَّ الْكُفْرَ تَغْطِيَةُ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
هَذَا مُنْتَهَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ وَحَرَّمَ، فَالْحَرَامُ ضَلَالٌ، وَالْمُبَاحُ هُدًى؛ فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ حَقًّا كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَالشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمُبَاحِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَبَاحَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ ضَالٌّ، وَإِنْ كَانَ الشِّطْرَنْجُ خَارِجًا مِنْ الْمُبَاحِ فَيَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ، وَأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُخَالِفُ النَّرْدَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إكْدَادَ الْفَهْمِ، وَاسْتِعْمَالَ الْقَرِيحَةِ، وَالنَّرْدُ قِمَارٌ غَرَرٌ لَا يَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ لَهُ فِيهِ، كَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ» يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَشْغَلُ عَنْ ذَكَرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَالْفَهْمُ يُكَدُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ تَفَاضَلَا فِيهِ.
وَأَمَّا لَعِبُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ بِالْأَرْبَعِ عَشَرَةَ فَالْمُمْتَنِعُ لَا تَفْتَرِقُ فِيهِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ لِلرَّجُلِ وَلَا الْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْعَبَ مَعَهَا بِالنَّرْدَشِيرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ فِيهِ، وَالْأَرْبَعَ عَشَرَةَ قِمَارٌ مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الْغِنَاءُ فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهْوِ الْمُهَيِّجِ لِلْقُلُوبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
أَمَّا إنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ دَلِيلًا عَلَى إبَاحَتِهِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ حَادِيَتَانِ مِنْ حَادِيَاتِ الْأَنْصَارِ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ الْأَنْصَارُ بِهِ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ» فَلَوْ كَانَ الْغِنَاءُ حَرَامًا مَا كَانَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ.
وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِ الرُّخْصَةِ وَالرِّفْقِ بِالْخَلِيقَةِ فِي إجْمَامِ الْقُلُوبِ؛ إذْ لَيْسَ جَمِيعُهَا يَحْمِلُ الْجِدَّ دَائِمًا.
وَتَعْلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ دَوَامِهِ، وَرُخْصَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ كَالْعِيدِ، وَالْعُرْسِ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِينَ وَالْمُفْتَرِقَاتِ عَادَةً.
وَكُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي التَّحْرِيمِ أَوْ آيَةٍ تُتْلَى فِيهِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ سَنَدًا، بَاطِلٌ مُعْتَقَدًا، خَبَرًا وَتَأْوِيلًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْغِنَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ ابْنِ وَدِيعَةَ. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم قال تعالى: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق}، وغيره من الآلهة باطل ليس بشيء.
{فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال}، يعني: فما عبادتكم بعد ترك عبادة الله تعالى إلا عبادة الشيطان؟ ويقال: فماذا بعد التوحيد إلا الشرك؟ {فأنى تُصْرَفُونَ}، يعني: فمن أين تمتنعون عن الإيمان بالله؟ ويقال: فأنى تصرفون عن هذا الأمر بعد المعرفة؟ وقال مقاتل: فمن أين تعدلون به غيره؟ ويقال: كيف ترجعون عن هذا الإقرار؟. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}
قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} فيه ثمان مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق} أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق، لا ما أشركتم معه.
{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ} ذا صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال.
وقال بعض المتقدّمين: ظاهر هذه الآية يدلّ على أن ما بعد الله هو الضلال؛ لأن أولها {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} وآخرها {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ} فهذا في الإيمان والكفرِ، ليس في الأعمال.
وقال بعضهم: إن الكفر تغطية الحق، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى؛ فالحرام ضلال والمباح هُدًى؛ فإن الله هو المبيح والمحرّم.
والصحيح الأوّل؛ لأن قبل {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} ثم قال: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي هذا الذي رزقكم، وهذا كله فعله هو.
{رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغيرُ حق.
الثانية قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأُصول التي الحق فيها في طرف واحد؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذاتٍ كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وقوله عليه السلام: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أُمور متشابهات» والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يُختلَفُ فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها.
الثالثة ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جَوْف الليل قال: «اللهم لك الحمد» الحديثَ.
وفيه «أنت الحق ووَعْدُك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق» الحديثَ.
فقوله: «أنت الحق» أي الواجب الوجود؛ وأصله من حَقَّ الشيء أي ثبت ووجب.
وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجِده لا من نفسه.
وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد:
ألاّ كلُّ شيءٍ ما خلا اللَّه باطلُ

وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]
الرابعة مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعًا، كما في هذه الآية.
وكذلك أيضًا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعًا؛ قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} [لقمان: 30].
والضلال حقيقته الذهاب عن الحق؛ أخِذ من ضلال الطريق، وهو العدول عن سَمْته.