فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} تذييل للتعجيب من استمرارهم على الكفر بعدما ظهر لهم من الحجج والآيات، وتأييس من إيمانهم بإفادة أن انتفاء الإيمان عنهم بتقدير من الله تعالى عليهم فقد ظهر وقوع ما قدره من كلمته في الأزل.
والكاف الداخلة قبل اسم الإشارة كاف التشبيه.
والمشبه به هو المشار إليه، وهو حالهم وضلالهم، أي كما شاهدتَ حقَّت كلمة ربك، يعني أن فيما شاهدتَ ما يبين لك أن قد حقت كلمة ربك عليهم أنهم لا يؤمنون.
وقوله: {أنهم لا يؤمنون} بَدل من {كلِمة} أو من {كلمات} والمراد مضمون جملة {أنهم لا يؤمنون}.
وقرأ نافع وابن عامر {كلمات ربك} بالجمع.
وقرأها الباقون بالإفراد، والمعنى واحد لأن الكلمة تطلق على مجموع الكلام كقوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100]، ولأن الجمع يكون باعتبار تعدد الكلمات أو باعتبار تكرر الكلمة الواحدة بالنسبة لأناس كثيرين.
والفسق: الخروج من المسلك الذي شأن الشيء سلوكه، والمراد به فسق عن تلقي دعوة الرسل وإعمال النظر، وتقدم في قوله تعالى: {وما يُضل به إلا الفاسقين} في سورة [البقرة: 26].
ثم يجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا كل من استمر على فسقه فلا يؤمن، فتكون الجملة تذييلًا لما فيها من العموم الشامل لهؤلاء المتحدث عنهم، كقوله تعالى: {كذلك يضرب الله الحق والباطل} [الرعد: 17]، ويجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا المتحدث عنهم خاصة فيكون من الإظهار في مقام الإضمار لإفادة أنهم مع صفاتهم السابقة قد اتصفوا بالفسق، ولإفادة كون فسقهم علة في أنْ حقت عليهم كلمة الله، ويكون المشبه به هو الحق المأخوذ من {حَقَّت} أي كذلك الحق حقَّتْ عليهم كلمة ربك مبالغة في ظهوره حتى أنه إذا أريد تشبيهه وتقريبه لم يشبه إلا بنفسه على طريقة قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} في سورة [البقرة: 143].
وهي مع ذلك تذييل لما فيه من الفذلكة والتعجيب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}
قوله: {كَذَلِكَ} إشارة إلى ما تقدم من رزق الله تعالى للبشر جميعًا، ومن مِلْك السمع والبصر، ومن تدبير الأمر كله، ومن إخراج الحيّ من الميت، وإخراج الميت من الحي، ذلك هو الإله الحق سبحانه، وقد ثبت ذلك بسؤاله سبحانه وتعالى هذا السؤال الذي علم مُقدَّمًا ألا إجابة له إلا بالاعتراف به إلهًا حقًا: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32].
ومثل هذه القضية تمامًا قَوْلُ الحق سبحانه: {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33].
لأنهم أساءوا الفهم في الوحدانية، وفي العقيدة، واستحقوا أن يُعذَّبوا؛ لأنهم صرفوا الحق إلى غير صاحب الحق.
وقد كان هذا خطابًا للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بعضهم آمن بالله تعالى؛ ولذلك فالعذاب: إنما يحُلّ على مَنْ لم يؤمن.
وهذا القول متحقق فيمَنْ سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، وكذلك حقَّتْ كلمة ربك على هؤلاء الذين فسقوا ولا ينتهون عن فسقهم وكفرهم، وإصرارهم على الانحراف بالعبودية لغير الله الأعلى والرَّبِّ الحق سبحانه وتعالى.
والدليل على العلم الأزليِّ لله سبحانه ما نقرأه في سورة البقرة: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].
إذن: معلوم لله تعالى مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن، ومَنْ يستمر ويُصِرّ على كفره؛ هو الذي يَلْقَى العذاب، بعلم الله تعالى فيه أنه لن يؤمن.
ثم يذكر الحق بعد ذلك ما يمكن أن يُجادَلَ به الكافرون بمنطق أحوالهم، ففي ذوات نفوس غير المؤمنين بإله توجد نزعة فطرية لفعل الخير، وتوجيه غيرهم إليه، وهو موجود حتى في الأمم غير المؤمنة، فكل قوم يُوجِّهون إلى الخير بحسب معتقداتهم، فنجد بين الشعوب غير المؤمنة بإلهٍ حكماء وأطباء وعلماء، وهؤلاء يوجهون الناس إلى بعض الخير الذي يرونه.
ونجد الطفل الصغير يكتسب المعتقدات والعادات والاتجاهات من والديه، ومما يسمعه من توجيهاتهم، فنجده يبتعد عن النار مثلًا أو الكهرباء؛ لأنه ترسخت في ذهنه توجيهات ونصائح غيره؛ بل إنه يتعلم كيف يتعامل مع هذه الأشياء دون أن تصيبه بالضرر.
إذن: يوجد توجيه من الخلق إلى الخلق لجهات الخير، ألا نجد في الدول غير المؤمنة بإله مَنْ يرشد الناس إلى الطرق التي يمكن أن يسيروا فيها باتجاهين، والطرق التي عليهم أن يسيروا فيها باتجاه واحد؟
ألا يوجد مَنْ يدل الناس على المنحنيات الخطرة على الطرق، وكذلك يوجّههم إلى ضرورة خفض سرعة السيارات أمام مدارس الأطفال؟
نعم، يوجد في البلاد غير المؤمنة مَنْ يفعل ذلك.
إذن: فالتفكير في الخير لصالح الأمم أمر طبيعي غريزي موجود في كل المجتمعات، وإذ كان التوجيه للخير يحدث من الإنسان المساوي للإنسان، ألا يكون الله سبحانه هو الأحق بالتوجيه إلى الخير، وهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيم حياته على الأرض. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيتين:

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
{فذلكم} إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة، واعتقاد اختصاصه بالألوهية لا أصنامكم المربوبة الباطلة.
وماذا استفهام معناه النفي، ولذلك دخلت إلا، وصحبه التقرير والتوبيخ، كأنه قيل: ما بعد الحق إلا الضلال، فالحق والضلال لا واسطة بينهما، إذ هما نقيضان، فمن يخطئ الحق وقع في الضلال.
وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهامًا، كأنه قيل: أي شيء.
والخبر بعد الحق، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما، كأنه قيل: الذي بعد الحق؟ وبعد صلة كذا.
ولما ذكر تعالى تلك الصفات، وأشار إلى أنّ المتصف بها هو الله، وأنه مالكهم وأنه هو الحق، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق قال تعالى: {فأنى تصرفون}، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف.
واستنباط كون الشطرنج ضلالًا من قوله: {فماذا بعد الحق إلا الضلال}، لا يكاد يظهر، لأنّ الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة الله، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا.
وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون: إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان.
قال: لو كان كذلك ما قال: أنى تصرفون.
كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول: إني عميت.
كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب، والإشارة بذلك قيل: إلى المصدر المفهوم من تصرفون، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله: {فسيقولون الله} حق العذاب عليهم أي: جازاهم مثل أفعالهم.
وقيل: إشارة إلى الحق.
قال الزمخشري: كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك، أي كما حق وثبت أنّ الحق بعد الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك.
وقال ابن عطية: كذلك أي كما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم، واكتسبوا كذلك حقت.
ومعنى فسقوا: تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك أي: حق عليهم انتفاء الإيمان.
ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلًا أي: لأنهم لا يؤمنون.
ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة: أنهم لا يؤمنون بالكسر، وهذا إخبار منه تعالى أنّ في الكفار من حتم الله بكفره وقضى بتخليده.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان: كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة.
وقرأ باقي السبعة على الإفراد. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} هذا توقيف وتوبيخ واحتجاج لا محيد عن التزامه، و{من السماء} يريد بالمطهر ومن {الأرض} يريد بالإنبات ونحو ذلك، و{يملك السمع والأبصار}، لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه حتى أن ما عداهما من الحواس تبع، {ويخرج الحي من الميت} الجنين من النطفة، والطائر من البيضة، والنبات من الأرض إذ له نمو شبيه بالحياة، {ويخرج الميت من الحي}، مثل البيضة من الطائر ونحو ذلك، وقد تقدم فيما سلف إيعاب القول في هذه المعاني، وتدبير الأمر عام لهذا وغيره من جميع الأشياء، وذلك استقامة الأمور كلها عن إرادته عز وجل، وليس تدبيره بفكر ولا روية وتغيرات تعالى عن ذلك بل علمه محيط كامل دائم، {فسيقولون الله} لا مندوحة لهم عن ذلك، ولا تمكنهم المباهتة بسواه، فإذا أقروا بذلك {فقل أفلا تتقون}. في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة: وقوله تعالى: {فذلكم الله ربكم} الآية، يقول: فهذا الذي هذه صفاته {ربكم الحق} أي المستوجب للعبادة والألوهية، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق، وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازًا وإيضاحًا، وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف وهي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} [المائدة: 48] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات»، و{الحق} في هذه في الطرفين لأن المتعبدين إنما طلبوا بالاجتهاد لا بعين في كل نازلة ويدلك على أن {الحق} في الطرفين اختلاف الشرائع بتحليل وتحريم في شيء واحد، والكلام في مسائل الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بالمشترع، وقوله: {فأنى تصرفون} تقرير كما قال: {فأين تذهبون} [التكوير: 26] ثم قال: {كذلك حقت} أي كما كانت صفات الله كما وصف وعبادته واجبة كما تقرر وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم وتكسبوا {كذلك حقت}، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم، وحمزة والكسائي هنا وفي آخر السورة {كلمة} على الإفراد الذي يراد به الجمع كما يقال للقصيدة كلمة، فعبر عن وعيد الله تعالى بكلمته، وقرأ نافع وابن عامر في الموضعين المذكورين {كلمات} وهي قراءة أبي جعفر وشيبة بن نصاح، وهذه الآية إخبار أن في الكفار من حتم بكفره وقضى بتخليده، وقرأ ابن أبي عبلة، {إنهم} بكسر الألف. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}
قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ}: الكافُ في محلِّ نصب نعتًا لمصدر محذوف، والإِشارةُ بذلك إلى المصدرِ المفهوم مِنْ تُصْرفون، أي: مثلَ صَرْفِهم عن الحق بعد الإِقرار به في قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31]. وقيل إشارةٌ إلى الحق.
قال الزمخشري: كذلك: مثلَ ذلك الحقِّ حَقَّتْ كلمةُ ربك.
قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ رفعِ بدلًا من {كلمةُ}، أي: حَقَّ عليهم انتفاء الإِيمان.
الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: الأمر عدمُ إيمانِهم.
الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الحرف الجارّ.
الرابع: أنها في محلِّ جرٍّ على إعمالِه محذوفًا إذا الأصل: لأنهم لا يُؤْمنون.
قال الزمخشري: أو أراد بالكلمة العِدَة بالعذاب، و{أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} تعليل، أي: لأنهم.
وقرأ أبو عمرو وابنُ كثير والكوفيون {كلمة} بالإِفراد، وكذا في آخر السورة. وقد تقدَّم ذلك في الأنعام.
وقرأ ابن أبي عبلة {أَنهم لا يُؤْمنون} بكسر إن على الاستئناف وفيها معنى التعليل، وهذه مقويِّةُ للوجه الصائر إلى التعليل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لايؤمنون} وقال في سورة الؤمن: {وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار}، للسائل أن يسأل هنا عن قوله في الأولى {كذلك} بغير حرف عطف وفى الثانية {وكذلك} وعن قوله في الأولى: {على الذين فسقوا} وفى الثانية: {على الذين كفروا} وعن قوله في الأولى: {أنهم لايؤمنون} وقوله في الثانية: {أنهم أصحاب النار}؟ فتلك ثلاث مسائل.
والجواب: أنه لما تقدم في سورة يونس قوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} إلى قوله: {فأنى تصرفون} فذكر سبحانه عباده بما لا يجدون محيصا عن إضافة ذلك كله وإسناده إليه سبحانه إذ الرزق كالخلق وقد كانوا يقرون بإسناد الخلق إليه سبحانه قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وأخبر هنا سبحانه باعترافهم بإسناد ما قرروا عليه إليه بقوله: {فسيقولون الله} قيل لهم: {أفلا تتقون} أي عجبا لكم كيف تجمعون بين الاقرار بهذا كله ثم لا تخافون من إليه ذلك كله وتتخذون وقاية من عذابه على مخالفتكم ثم قيل لهم: {فذلكم الله ربكم الحق} أي مالك ذلك كله والمنفرد بتدبيره هو ربكم الحق فكيف تنصرفون عنه ثم أخبر تعالى أن كلمته التي لا مبدل لها حقت على من انصرف عن الحق وتركه بعد بيانه بحسب ما قدر له في الأزل ولم يقلع عن ذلك أنه لا يؤمن أبدا {إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} ولما لم يتقدم قبل هذه الآيات فيما اتصل بها مقال من ذكر ممن حقت عليه كلمة العذاب أتى قوله: {كذلك حقت} فصورة الاستئناف غير معطوفة إذ لم يتقدم ما يعطف عليه وقيل {فسقوا} لأن بما تقدم مما قرروا عليه مع ما جعل لهم من الاسماع والابصار والافئدة مكنوا من النظر بما خلق لهم من الادوات ووضوح المنظور فيه فبمجموع هذا كله كانوا بمنزلة من تحصل الأجر وكأنه قج اتصف به وتمكنت حاله فيه ثم تركه وخرج عنه ونظير هذا قوله تعالى: {أولئك ال ذين اشتروا الضلالة بالهدى} فلاءم هذا الحال وسمهم بالفسق فقيل: {على الذين فسقوا} فاستحقوا على فسقهم بقدر الله عليه أن منعوا التصديق وهو الإيمان فأضلهم الله على علم.
أما آية غافر فإنه تقدم قبلها قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} ثم أعقب بذكر قوم نوح والأحزاب وهم كل أمة منهم برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذهم الله وأهلكهم بما حق عليهم.
ثم قال تعالى: {وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} وأهلها فكيف يصح منهم الإيمان وقد حقت عليهم الكلمة: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} فلما تقدم في هذه السورة ذكر من حقت عليه كلمة العذاب عطف عليه: {وكذلك حقت} ولم يتقدم ذلك في يونس ولما تقدم قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} ولم يتقدم بسط دلالات مما به الاعتبار لم يكن هؤلاء بمنزلة المذكورين في يونس وإن كانت الدلالات عنده في حق الكل ولكن مراعاة النظم أمر ملتزم والافصاح بالذكر كما أفصح في آية يونس لم يقع هنا فلما تكن هذه الآية كتلك فيما ذكر وسم هؤلاء بالكفر وقيل {على الذين كفروا} ولم يقل {فسقوا} إذ لم يتقدم هنا ما تقدم هناك ما يتقدم معه ذكر الفسق وأيضا فقد تقدم في غافر قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} فناسبه {وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا} وإذا كانوا كافرين فهم أصحاب النار فأما الفاسق فإن كان فسقه يخرجه من الإيمان كان كافرا وان كان بالخروج إلى المعصية دون الكفر لم يكن كافرا إلا أن المراد بفسوق من ذكر في سورة يونس إنما هو ترك الاعتبار الحامل على الإيمان إذا وفق المعتبر فالتارك لذلك خارج عن التصديق فكان كافرا فقد حصل الجواب عن السؤالات الثلاث ووضح مجئ كل على ما يناسب وإن الوارد في سورة يونس لا يناسبه ما تقدم قبل الآية في سورة غافر ولا الوارد في سورة غافر يناسب ما تقدم في سورة يونس والله أعلم. اهـ.