فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34].
ومعنى أن الله يسأل القوم هذا السؤال أنه لابد أن تكون الإجابة كما أرادها هو سبحانه. وإنْ قال قائل: وكيف يأمنهم على مثل هذا الجواب، ألم يكن من الجائز أن ينسبوا هذا إلى غير الله؟
نقول: إن هذا السؤال: لا يُطرح إلا وطارحه يعلم أن له إجابة واحدة، فلن يجد المسئول إجابة إلا أن يقول: إن الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه ولا يمكن أن يقولوا: إن الصنم يفعل ذلك؛ لأنهم يعلمون أنهم هم الذين صنعوا الأصنام، ولا قدرة لها على مثل هذا الفعل.
فالإجابة معلومة سلفًا: إن الله سبحانه وتعالى وحده هو القادر على ذلك، وهذا يوضح أن الباطل لجلج والحق أبلج، وللحق صَوْلة؛ فأنت ساعة تنطق بكلمة الحق في أمر ما، تجدها قد فعلت فِعْلها فيمن هو على الباطل، ويأخذ وقتًا طويلًا إلى أن يجد كلامًا يرد به ما قلته، بل يحدث له انبهار واندهاش، وتنقطع حجته.
ولذلك لم يَقُل الحق سبحانه هنا مثلما قال من قبل: {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31].
بل قال: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34].
وجاء بها الحق سبحانه هكذا؛ لأنهم حينما سُئلوا هذا السؤال بهرهم الحق وغلب ألسنتهم وخواطرهم؛ فلم يستطيعوا قول أي شيء.
ومثال ذلك ولله المثل الأعلى نجد وكيل النيابة يضيّق الخناق على المتهم بأسئلة متعددة إلى أن يوجه له سؤالًا ينبهر المتهم من فرط دقته وليس له إلا إجابة واحدة تتأبى طباعة ألا يجيب عنه، فيجيب المتهم معترفًا.
والإنسان كما خلقه الله تعالى صالح لأن يؤمن، وصالح لأن يكفر، فإرادته هنا تتدخل، لكن أبعاضه مؤمنة عابدة مسبحة، فاللسان الذي قد ينطق الكفر، هو في الحقيقة مؤمن مُسبِّحٌ، حامد، شاكر، لكن إرادة الإنسان التي شاءها الله سبحانه متميزة بالاختيار قد تختار الكفر والعياذ بالله فينطق اللسان بالكفر.
وقد تأتمر اليد بأمر صاحبها؛ فتمتد لتسرق، أو تسعى الأقدام مثلًا إلى محل احتساء الخمر، ولكن هل هذه الفاعلات راضية عن تلك الأفعال؟
لا، إنها غير راضية، إنما هي خاضعة لإرادة الفاعل.
وحين يسأل السؤال: من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ فاللسان بفطرية تكوينه المؤمنة يريد أن يتكلم؛ لكنه لا يملك إرادة الكلام، فيبين الحق سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب نيابة عن الأبعاض المؤمنة، فيقول سبحانه: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] وهو بذلك يؤكد الصيغة، ويكفي أن يقول محمد صلى الله عليه وسلم هذا القول مُبلِّغًا عن ربه، وينال هذا القول شرف العندية:
{قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34].
والإفك: هو الكذب المتعمَّد، وهو الافتراء، وهناك فارق بين الكذب غير المتعمد والكذب المتعمد، فالكذب غير المتعمد هو من ينقل ما بلغه عن غيره حسبما فهم واعتقد، وهو لون من ألوان الكذب لا يصادف الحق، ويتراجع عنه صاحبه إن عرف الحق.
أما الافتراء فهو الكذب المتعمد، أي: أن يعلم الإنسان الحقيقة ويقلبها؛ ولذلك نجد العلماء قد وقفوا هنا وقفة؛ فمنهم من قال: هناك صدق، وهناك كذب، لكن علماء آخرين قالوا: لا، إن هناك واسطة بين الصدق والكذب.
ومثال ذلك: أن يدخل ابنٌ على أبيه، بعد أن سمع هذا الابن من الناس أن هناك حريقًا في بيت فلان، فيقول الابن لوالده: هناك حريق في بيت فلان؛ فيذهب الأب ليعاين الأمر، فإن وجد حريقًا فقول الابن صدق، وإن لم يكن هناك حريق فالخبر كاذب، ولكن ناقل الخبر نقله حسبما سمع.
إذن: فهناك فَرْق بين صدق الخبر وصدق المُخْبِر، فمرة يَصْدُق الخبر ويصدُق المخبر، ومرة يصدُق الخبر ولا يصدُق المخبِر، ومرة يصدق المخبر ولا يصدق الخبر.
فهُنا أربعة مواقف، والذين قالوا إن هناك واسطة بين الصدق والكذب هم مَنْ قالوا: إن الصدق يقتضي مطابقة بين الواقع والخبر. أما الكذب فهو ألا يطابق الواقع الخبر.
لذلك يجب أن نفرِّق بين صدق الخبر في ذاته، وصدق المخبر، بأنه يقول ما يعتقد. أما صدق الخبر فهو أن يكون هو الواقع.
وقول الحق سبحانه: {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تقلبون الحقائق؛ لأنكم تعرفون الواقع وتكذبونه كذبًا متعمدًا؟
وكلنا نعلم قول الحق سبحانه: {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53].
والمؤتفكة: هي القرى التي كُفئت أعلاها إلى أسفلها، كذلك الكذَّاب يقلب الحقيقة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)}
قوله تعالى: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق}: هذه الجملةُ جواب لقوله: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ} وإنما أتى بالجواب جملةً اسميةً مُصَرَّحًا بجزأيها مُعَادًا فيها الخبر مطابقًا لخبر اسم الاستفهام للتأكيدِ والتثيبتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا لا مَنْدوحةَ لهم عن الاعتراف به جاءَت الجملةُ محذوفًا منها أحدُ جُزْأَيْها في قوله: {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31]، ولم يَحْتَجْ إلى التأكيد بتصريح جزأيها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)}
كَشف قبيحَ ما انطوت عليه عقائدُهم من عبادتهم ما لا يصحُّ منه الخْلقُ والإعادة، وأثبت أن المعبودَ مَنْ منه الخَلْقُ والإعادة.
قومٌ جعلوا له في الإيجاد شركاءَ بدعوى القَدَرِ، وقوم منعوا جواز قدرته على الإعادة. وكل هذا جنوحٌ إلى الْكفْرِ وذهابٌ عن الدِّين. اهـ.

.تفسير الآية رقم (35):

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فلما فرغ مما يتعلق بأحوال الجسد أمره أن يسألهم عن غاية ذلك، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعانًا في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال: {قل} أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود {هل من شركائكم} أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظًا من أموالكم وأولادكم {من يهدي} أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين {إلى الحق} فضلًا عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلامًا.
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين، أمره أن يجيبهم معرضًا عن انتظار جوابهم آتيًا بجزئي الاستفهام أيضًا فقال: {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يهدي} ولما كان قادرًا على غاية الإسراع، عبر باللام فقال: {للحق} إن أراد، ويهدي إلى الحق من يشاء، لا أحد ممن زعموهم شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير، فالآية من الاحتباك: ذكر {إلى الحق} أولًا دليلًا على حذفه ثانيًا، و{للحق} ثانيًا دليلًا على حذفه أولًا، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال: {أفمن يهدي} أي منتهيًا في هداه ولو على بعد {إلى الحق} أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه {أحق أن يتبع} أي بغاية الجهد {أم من لا يهدي} أي يهتدي فضلًا عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلًا ورأسًا؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه {إلا أن يهدى} أي يهديه هاد غيره كائنًا من كان، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل: أتجيبون أم تسكتون؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله: {فما} اي أيّ شيء ثبت {لكم} في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتًا آخر فقال: {كيف تحكمون} فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل، أبالباطل أم بالحق؟ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء: العقل الأول؛ والإعادة: إيجاد الشيء ثانيًا؛ والهداية: التعريف بطريق الرشد من الغي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}
وفي الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في أن الحديث عن الهداية في القرآن يعقب الاستدلال على وجود الصانع]:

اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة، واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولًا، ثم بالهداية ثانيًا، عادة مطردة في القرآن، فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] وأمر محمدًا صلى الله عليه وسلم فقال: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى الذي خَلَقَ فسوى والذى قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1 3] وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضًا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: {أمَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل: 64] أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية.
واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم، وأيضًا فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى- حصول الهداية.
إذا ثبت هذا فنقول: العقول مضطربة والحق صعب، والأفكار مختلطة، ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون، فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده، ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} [طه: 25] وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة، مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة، وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى.
إذا عرفت هذا فنقول: الهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق، وإما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية، ودللنا على أنها ليست إلا من الله تعالى.
وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلًا محضًا وسفهًا صرفًا، فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.