فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}
{بل} إضرابٌ انتقالي لبيان كنه تكذيبهم، وأن حالهم في المبادرة بالتكذيب قبل التأمل أعجب من أصل التكذيب إذ إنهم بادروا إلى تكذيبِه دون نظر في أدلة صحته التي أشار إليها قوله: {وما كان هذَا القرآن أن يفترى من دون الله} [يونس: 37].
والتكذيب: النسبة إلى الكذب، أو الوصف بالكذب سواء كان من اعتقاد أم لم يكنه.
واختيار التعْبير عن القرآن بطريق الموصولية في قوله: {بما لم يحيطوا بعلمه} لِمَا تؤذن به صلة الموصول من عجيب تلك الحالة المنافية لتسليط التكذيب، فهم قد كذبوا قبل أن يختبروا، وهذا من شأن الحماقة والجهالة.
والإحاطة بالشيء: الكون حوله كالحَائط، وقد تقدم آنفًا في قوله: {وظنوا أنهم أحيط بهم} [يونس: 22].
ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه.
ومنه قوله تعالى: {ولا يُحيطون به علمًا} [طه: 110] وقوله: {وأحاط بما لديهم} [الجن: 28] أي علمِه، فمضى: {بما لم يحيطوا بعلمه} بما لم يتقنوا علمه.
والباء للتعدية.
وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المُحاط به وهو المعلوم، وهو هنا القرآن.
وعدل عن أن يقال بما لم يحيطوا به علمًا أو بما لم يحط علمهم به إلى: {بما لم يحيطوا بعلمه} للمبالغة إذ جُعل العِلم معلومًا.
فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا عِلْمه أشد إتقان فلما نُفي صار لم يحيطوا بعلمه، أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقه يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر عِلمُ أدلته ثم إعادةُ التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم.
وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل.
والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه.
وإنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونِه مكذوبًا.
ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت: فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء، ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب.
ونظير هذه الآية في سورة [النمل: 84]: {قال أكذَّبتم بآياتي ولم تُحيطوا بها علمًا أم ماذا كنتم تعملون}
وجملة: {ولماَّ يأتهم تأويله} معطوفة على الصلة، أي كذبوا بما لمّا يأتهم تأويله.
وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأنَاةِ والتثبت، أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن، أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل.
والتأويل: مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء.
وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيرًا يظهر المعنى، فيؤول واضحًا بعد أن كان خفيًا، ومنه قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7] الآية. وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير. وقد مرَّ في سورة آل عمران وفي المقدمة الأولى من هذا التفسير.
ويطلق التأويل على اتضاح ما خفي من معنى لفظ أو إشارة، كما في قوله تعالى: {هذا تأويل رؤْياي من قبل} [يوسف: 100] وقوله: {هل ينظرون إلا تأويله} [الأعراف: 53] أي ظهور ما أنذرهم به من العذاب.
والتأويل الذي في هذه الآية يحتمل المعنيين ولعل كليهما مراد، أي لما يأتهم تأويل ما يدَّعون أنهم لم يفهموه من معاني القرآن لعدم اعتيادهم بمعرفة أمثالها، مثل حكمة التشريع، ووقوع البعث، وتفضيل ضعفاء المؤمنين على صناديد الكافرين، وتنزيل القرآن منجمًا، ونحو ذلك.
فهم كانوا يعتبرون الأمور بما ألفوه في المحسوسات وكانوا يقيسون الغائب على الشاهد فكذبوا بذلك وأمثاله قبل أن يأتيهم تأويله.
ولو آمنوا ولازموا النبي صلى الله عليه وسلم لعلموها واحدةً بعد واحدة.
وأيضًا لما يأتهم تأويل ما حسبوا عدم التعجيل به دليلًا على الكذب كما قالوا: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ايتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] ظنًا أنهم إن استغضبوا الله عَجَّل لهم بالعذاب فظنوا تأخر حصول ذلك دليلًا على أن القرآن ليس حقًا من عنده.
وكذلك كانوا يسألون آيات من الخوارق، كقولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} [الإسراء: 90] الآية.
ولو أسلموا ولازموا النبي عليه الصلاة والسلام لعلموا أن الله لا يعبأ باقتراح الضُلال.
وعلى الوجهين فحرف: {لمّا} موضوع لنفي الفعل في الماضي والدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم، وذلك يقتضي أن المنفي بها متوقَّع الوقوع، ففي النفي بها هنا دلالة على أنه سيجيء بيان ما أجمل من المعاني فيما بعد، فهي بذلك وعد، وأنه سيحِل بهم ما توعدهم به، كقوله: {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} [الأعراف: 53] الآية. فهي بهذا التفسير وعيد.
وجملة: {كذلك كذّب الذين من قبلهم} استئناف.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لمن يتأتى منه السماع.
والإشارة بـ: {كذلك} إلى تكذيبهم المذكور، أي كان تكذيب الذين مِن قبلهم كتكذيبهم، والمراد بالذين من قبلهم الأممُ المكذبون رسلهم كما دل عليه المشبه به.
ومما يقصد من هذا التشبيه أمور:
أحدها: أن هذه عادة المعاندين الكافرين ليعلم المشركون أنهم مماثلون للأمم التي كذبت الرسل فيعتبروا بذلك.
الثاني: التعريض بالنذارة لهم بحلول العذاب بهم كما حل بأولئك الأمم التي عرف السامعون مصيرها وشاهدوا ديارها.
الثالث: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما لقي من قومه إلا مثل ما لقي الرسل السابقون من أقوامهم.
ولذلك فرع على جملة التشبيه خطابُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} أي عاقبة الأمم التي ظلمت بتكذيب الرسل كما كذب هؤلاء.
والأمر بالنظر في عاقبة الظالمين مقصود منه قياس أمثالهم في التكذيب عليهم في ترقب أن يحل بهم من المصائب مثل ما حل بأولئك لتعلم عظمة ما يلاقونك به من التكذيب فلا تحسبن أنهم مفلتون من العذاب.
والنظر هنا بصري.
و: {كيف} يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام، فهي اسم مصدر للحالة والكيفية، كقولهم: كن كيف شئت.
ومنه قوله تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} في سورة [آل عمران: 6].
فكيف مفعول به لفعل: {انظر}، وجملة: {كان عاقبة الظالمين} صفة: {كيف}. والمعنى انظر بعينك حالة صفتها كان عاقبة الظالمين، وهي حالة خراب منازلهم خرابًا نشأ من اضمحلال أهلها. ويجوز أن تكون: {كيف} اسم استفهام، والمعنى فانظر هذا السؤال، أي جوابَ السؤال، أي تدَبره وتفكَّر فيه. و: {كيفَ} خبر: {كان}.
وفعل النظر معلق عن العمل في مفعوليه بما في: {كيف} من معنى الاستفهام. اهـ.

.قال الشعراوي:

{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} وهذا الصنف من الناس الذين: {كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، وهم من أخذتهم المفاجأة حين حُدِّثوا بشيء لا يعرفونه، والناس أعداء ما جهلوا؛ فكذبوا ما جاء به رسول الله صلىلله عليه وسلم من القرآن قبل أن يتبينوا جمال الأداء فيه، ونسق القيم العالية، وإذا ما سنحت لهم فرصة يتبينون فيها جمال الأداء، ودقة الإعجاز فهم يتجهون إلى الإيمان.
ومثال ذلك: عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان كافرًا ثم علم أن أخته وزوجها قد أسلما؛ فذهب إليها في منزلها وضربها، فأسال دمها، وسيل الدم من أخت بضربة أخيها مثير لعاطفة الحنان، وهذا ما حدث مع عمر؛ فهدأت موجة عناده، فاستقبل القرآن بروح لا عناد فيها؛ فذهب فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من قبل ذلك ممن: {كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] أي: لم يعرفوا مراميه، وبمجرد أن سمعوا عن رسالته صلى الله عليه وسلم فجأة، اتهموه بالكذب والعياذ بالله.
ولذلك اقرأ قول الحق سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16].
وهذا يدل على أنهم لم يفهموا ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وتأتي الإجابة من الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44].
إذن: فالقرآن هدى لمن تتفتح قلوبهم للإيمان، أما القلوب المليئة بالبغض لقائله وللإسلام؛ فهؤلاء لا يمكن أن يصح حكمهم.
وإن أراد أي منهم حكمًا صحيحًا فليُخرجْ من قلبه ما يناقض ما يسمع، ثم عليه أن يستقبل الأمرين؛ ولسوف يدخل قلبه الأقوى حجة، وهو الإسلام.
إذن: فمن امتلأ قلبه بعقيدة كاذبة؛ لا يمكن له أن يهتدي.
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39].
والتأويل هو ما يرجع الشيء إليه، وهذا يوضح لنا أن هناك أقضية من القرآن لم يأت تفسيرها بعد، ستفسرها الأحداث، وقد يقول القرآن الكريم قضية غيبية، ثم يأتي الزمن ليؤكد هذه القضية، هنا نعرف أن تأويلها قد جاء.
وهؤلاء القوم قد كَذَّبوا من قبل أن يأتي لهم التأويل، وكان عدم مجيء التأويل هو السبب في تأخر بيان الحق في المسألة لتأخر زمنه.
وعلى سبيل المثال، ها هو ذا عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قامت المعركة بين معاوية بن أبي سفيان والإمام علي رضي الله عنه وَقاتَلَ عمَّار في صف عليّ، وقُتِل. هنا تنبه الصحابة إلى تأويل حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «ويح عمار.. تقتله الفئة الباغية».
وهكذا جاء تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تحقق في الواقع، وكان هذا سببًا في انصراف بعض الصحابة عن جيش معاوية.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]
أي: أن التأويل لم يظهر لهم بعد.
ومن أدوات النفي: لم مثل قولنا: لم يَجيءْ فلان، ونقول أيضًا: لما يجيء فلان، والنفي في الأولى جزم غير متصل بالحاضر، كأنه لم يأت بالأمس.
أما النفي بلما فيعني أن المجيء مُنْتف إلى ساعة الكلام، أي: الحاضر، وقد يأتي من بعد ذلك؛ لأن لما تفيد النفي، وتفيد توقُّع الإثبات.
والحق سبحانه يقول: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].
وهؤلاء القوم من الأعراب قالوا: {آمَنَّا} رغم أنهم راءوا المسلمين وقلدوهم زيفًا ونفاقًا، ولم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بعد، وحين سمعوا قول الحق سبحانه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
قالوا: الحمد لله؛ لأن معنى ذلك أن الإيمان سوف يدخل قلوبهم.
وكذلك قول الحق سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142].
فحين سمعوا ذلك قالوا: إذن: وثقنا أنه سيأتي علم الله سبحانه بنا كمجاهدين وصابرين.
وهكذا نعرف أن: {لَمَّا} تعني أن المنفي بها متوقع الحدوث. والتأويل كما نعلم هو مرجع الشيء.
وقد جاء في القرآن الكثير من الأخبار لم تكن وقت ذكرها بالقرآن متوقعة، أو مظنة أن توجد. وحين وُجدت ولا دخل لبشر في وجودها، فهذا يعني أن قائل هذا الكلام قد أخذه عَمَّن يقدر على أن يوجد، مثلما جاء في خبر انتصار الروم على الفرس رغم هزيمة الروم.
قال الحق سبحانه: {غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 25].
جاء هذا الخبر وانتظر المسلمون تأويله، وقد جاء تأويله طبقًا لما أخبر القرآن.
أو أن التأويل سيأتي في الآخرة، وما يؤول الأمر في التكذيب سيعلمونه من بعد ذلك.
والحق سبحانه يقول: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 52 53]. هم ينتظرون ما يؤول إليه القرآن وما يؤولون إليه، إن كان في الدنيا فنصر أهل القرآن، وإن كان في الآخرة، فهذا قول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: 53].
هذا هو التأويل الذي كذَّبه البعض من قبل.
إذن: فالتأويل: إما أن يكون لمن بقي من الكفار فيرى ما أخبره به القرآن وقد جاء على وفق ما أخبر به نبيٌّ لا يملك أن يتحكم في مصائر الأشياء، وتأتي على وفق ما قال. فكأن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يجازف بأن يقول كلامًا لا يتحقق؛ فينصرف عنه الذين آمنوا به، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا ما هو واثق ومطمئن من وقوعه؛ لأن الخبر به جاء من لدن عليم خبير. وإما أن التأويل أيضًا يأتي في الآخرة. وهنا قال الحق سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39].
والحق سبحانه هنا يلفت رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن ما حدث معه قد حدث مع رسل من قبله، فقال سبحانه في نفس الآية: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} [يونس: 39].
أي: انظر لموكب الرسل كلهم من بدء إرسال الرسل، هل أرسل الله رسولا ونصر الكافرين به عليه؟.. لا، لقد كانت الغلبة دائمًا لرسل الحق عز وجل مصداقًا لقوله سبحانه: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21]. وعرفنا ما حدث للظالمين، فمنهم من أغرقه الله، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أخذه بالصيحة.
إذن: فالتأويل واضح في كل مواكب الرسل التي سبقت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كل قوم من الظالمين قد نالوا ما يناسب رسالة رسولهم، فسينال القوم الظالمين الكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ما يناسب عمومية رسالته صلى الله عليه وسلم.
وحين يقول الحق سبحانه: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} [يونس: 39] لابد لنا أن نعرف معنى الظلم، إنه نقل الحق لغير صاحبه، والحقوق تختلف في مكانتها، فهناك حق أعلى، وحق أوسط، وحق أدنى.
فإذا جئت للحق الأدنى في أن تنقل الألوهية لغير الله سبحانه وتعالى فهذا قمة الظلم، والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
لأن في هذا نقل الألوهية من الله سبحانه إلى غيره، ويا ليت غيره كان صاحب دعوة بينه وبين الله تعالى، لا، فليس ذلك المنقول له الألوهية بصاحب دعوة، بل تطوَّع الظالم من نفسه بذلك، واتخذ من دون الله شريكًا لله، وفي هذا تطوع بالظلم بغير مُدَّع.
وهَبْ أن الله تعالى قال: لا إله إلا أنا، فإما أن القضية صحيحة، وإما أنها غير ذلك، فإن افترض أحد معاذ الله عدم صحتها، فالإله الثاني كان يجب أن يعلن عن نفسه، ولا يترك غيره يسمع له ويعلن عنه، وإلا كان إلهًا أصمَّ غافلًا، ولكن أحدًا لم يعلن ألوهيته غير الله سبحانه،؛ لذلك تثبت الألوهية الواحدة للإله الحق سبحانه وتعالى.
وقد بيَّن لنا الحق سبحانه: لا إله إلا أنا، أنا الخالق، أنا الرازق. ولم يصدر عن أحد آخر دعوى بأنه صاحب تلك الأعمال، إذن: فقد صَحَّت الدعوى في أنه لا إله إلا الله.
والدرجة التالية في الظلم هي الظلم في الأحكام، فإذا حكم أحد بحلِّ الربا فهذا ظلم في قضية كبيرة، ولكن إن حكم قاض على مدين بأن يردَّ الدَّين فقط فهذا عدل؛ وكذلك القاضي الذي يظلم في أحكامه إنما ينقل حقوق الناس إلى غيرهم.
إذن: فالظلم يأخذ درجات حسب الشيء الذي وقع فيه الظلم. اهـ.