فصل: قال الخازن في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن في الآيات السابقة:

قوله: {قل من يرزقكم من السماء والأرض} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماء يعني المطر والأرض يعني النبات: {أم من يملك السمع والأبصار} يعني ومن أعطاكم هذه الحواس التي تسمعون بها وتبصرون بها: {ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} يعني أنه تعالى يخرج الإنسان حيًا من النطفة وهي ميتة وكذلك الطير من البيضة وكذلك يخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي ويخرج البيضة الميتة من الطائر الحي.
وقيل: معناه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والقول الأول أقرب إلى الحقيقة: {ومن يدبر الأمر} يعني أن مدبر أمر السموات ومن فيها ومدبر أمر الأرض وما فيها هو الله تعالى وذلك قوله: {فسيقولون الله} يعنى أنهم يعترفون أن فاعل هذه الأشياء هو الله وإذا كانوا يقرون بذلك: {فقل} أي قل لهم يا محمد: {أفلا تتقون} يعني: أفلا تخافون عقابه حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تقدر على شيء من هذه الأمور: {فذلكم الله ربكم الحق} يعني: فذلكم الذي يفعل هذه الأشياء ويقدر عليها هو الله ربكم الحق الي يستحق العبادة لا هذه الأصنام: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} يعني: إذا ثبت بهذه البراهين الواضحة والدلائل القطعية أن الله هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالًا وباطلًا: {فأنى تصرفون} يعني: إذا عرفتم هذا الأمر الظاهر الواضح فكيف تستخيرون العدول عن الحق إلى الضلال الباطل.
{كذلك} أي كما ثبت أنه ليس بعد الحق إلا الضلال: {حقت} أي وجبت: {كلمة ربك} في الأزل: {على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} قيل: المراد بكلمة الله قضاؤه عليهم في اللوح المحفوظ أنهم لا يؤمنون وقضاؤه لا يرد ولا يدفع: {قل هل من شركائكم} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين هل من شركائكم يعني هذه الأصنام التي تزعمون أنها آلهة: {من يبدأ الخلق} يعني من يقدر على أن ينشئ الخلق على غير مثال سبق: {ثم يعيده} أي ثم يعيده بعد الموت كهيئته أول مرة، وهذا السؤال استفهام إنكار: {قل} أي: قل أنت يا محمد: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} يعني أن الله هو القادر على ابتداء الخلق وإعادته: {فأنى تؤفكون} يعنى فأنى تصرفون عن قصد السبيل والمراد من هذا التعجب من أحوالهم كيف تركوا هذا الأمر الواضح وعدلوا عنه إلى غيره: {قل} أي قل يا محمد: {هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} يعني هل من هذه الأصنام من يقدر علي أن يرشد إلى الحق فإذا قالوا لا ولابد لهم من ذل: {قل} أي قل لهم أنت يا محمد: {الله يهدي للحق} يعني أن الله هو الذي يرشد إلى الحق لا غيره: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى} يعني أن الله هو الذي يهدي إلى الحق فهو أحق بالاتباع لا هذه الأصنام التي لا تهتدي إلا أن تهدي.
فإن قلت: الأصنام جماد لا تتصور هدايتها ولا أن تهدي فكيف قال إلا أن يهدي.
قلت: ذكر العلماء عن هذا السؤال وجوهًا.
الأول: أن معنى الهداية في حق الأصنام الانتقال من مكان إلى مكان فيكون المعنى أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان آخر إلا أن تحمل وتنقل، فبين سبحانه وتعالى بها عجز الأصنام.
الوجه الثاني: أن ذكر الهداية في حق الأصنام على وجه المجاز وذلك أن المشركين لما اتخذوا الأصنام آلهة وأنزلوها منزلة من يسمع ويعقل عبر عنها بما يعبر به عمن يسمع ويعقل ويعلم ووصفها بهذه الصفة وإن كان الأمر ليس كذلك.
الوجه الثالث: يحتمل أن يكون المراد من قوله هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده الأصنام، والمراد من قوله هل من شركائكم من يهدي إلى الحق رؤساء الكفر والضلالة فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين بما ظهر من الدلائل الدالة على وحدانيته وأما رؤساء الكفر والضلالة فإنهم لا يقدرون على هداية غيرهم إلا إذا هداهم الله إلى الحق فكان اتباع دين الله والتمسك بهدايته أولى من اتباع غيره.
وقوله سبحانه وتعالى: {فما لكم كيف تحكمون} قال الزجاج: فما لكم كلام تام كأنه قيل لهم: أي شيء لكم في عبادة هذه الأصنام. ثم قال: كيف تحكمون؟ يعني: على أي حال تحكمون.
وقيل: معناه كيف تقضون لأنفسكم بالجور حين تزعمون أن مع الله شريكًا وقيل معناه بئسما حكمتم إذ جعلتم لله شريكًا من ليس بيده منفعة ولا مضرة ولا هداية: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنًا} يعني: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته بل هم في شك منه وريبة وقيل المراد بالأكثر الكل لأن جميع المشركين يتبعون الظن في دعواهم أن الأصنام تشفع لهم وقيل المراد بالأكثر الرؤساء: {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئًا ولا يقوم مقامه وقيل في الآية إن قولهم إن الأصنام آلهة وإنها تشفع لهم ظن منهم لم يرد به كتاب ولا يعني أنها لا تدفع عنهم من عذاب الله شيئًا: {إن الله عليم بما يفعلون} يعني من اتباعهم الظن وتكذيبهم الحق اليقين.
قوله تعالى: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} يعني وما كان ينبغي لهذا القرآن أن يختلف ويفتعل لأن معنى الافتراء الاختلاق والمعنى ليس وصف القرآن وصف شيء ممكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر وذلك أن كفار مكة زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق فأخبر الله أن هذا القرآن وحي أنزل الله عليه وأنه مبرأ من الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يؤكد هذا بقوله: {ولكن تصديق الذي بين يديه} يعني ولكن الله أنزل هذا القرآن مصدقًا لما قبله من الكتب التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل.
وتقرير هذا، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولم يجتمع بأحد من العلماء، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بها القرآن العظيم المعجز وفيه أخبار الأولين وقصص الماضين وكل ذلك موافق لما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة قبله ولو لم يكن كذلك لقدحوا فيه لعداوة أهل الكتاب له ولما لم يقدح فيه أحد من أهل الكتاب علم بذلك أن ما فيه من القصص والأخبار مطابقة لما في التوراة والإنجيل مع القطع بأنه ما علم ما فيها فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله عليه وأنه مصدق لما بين يديه وأنه معجزة له صلى الله عليه وسلم.
وقيل في معنى قوله: ولكن تصديق الذي بين يديه يعني من أخبار الغيوب الآتية، فإنها جاءت على وفق ما أخر: {وتفصيل الكتاب} يعني وتبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام: {لا ريب فيه من رب العالمين} يعني أن هذا القرآن لا شك فيه أنه من رب العالمين وأنه ليس مفترى على الله وأنه لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله وهو قوله سبحانه وتعالى: {أم يقولون افتراه} يعني أم يقول هؤلاء المشركون افترى محمد هذا القرآن وخلقه من قبل نفسه وهو استفهام إنكار وقيل أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه: {قل} أي: قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون: {فأتوا بسورة مثله} يعني بسورة شبيهة به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم فأنتم عرب مثلي في الفصاحة والبلاغة.
فإن قلت: قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {فأتوا بسورة من مثله} وقال سبحانه وتعالى هنا: {فأتوا بسورة مثله} فما فائدة ذلك وما الفرق بينهما.
قلت لما كان محمدًا صلى الله عليه وسلم أميًا لم يقرأ ولم يكتب وأتى بهذا القرآن العظيم كان معجزًا في نفسه فقيل لهم فأتوا بسورة من مثله يعني: مع إنسان أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم في عدم الكتابة والقراءة.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {فأتوا بسورة مثله} أي فأتوا بسورة تساوي سورة القرآن في الفصاحة والبلاغة وهو المراد بقوله فأتوا بسورة مثله يعني أن السورة في نفسها معجزة فإن الخلق لو اجتمعوا على ذلك لم يقدروا عليه وهو المراد من قوله: {وادعوا من استطعتم من دون الله} يعني وادعوا للاستعانة على ذلك من استطعتم من خلقه: {إن كنتم صادقين} يعني في قولكم إن محمدًا افتراه ثم قال تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} يعني القرآن.
أي: كذبوا بما لم يعلموه.
قال عطاء: يريد أنه ليس خلق يحيط بجميع علوم القرآن.
وقيل: معناه بل كذبوا بما في القرآن من ذكر الجنة والنار والحشر والقيامة والثواب والعقاب وغيرها مما لم يحيطوا بعلمه، لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله.
وقيل: إنهم لما سمعوا ما في القرآن من القصص وأخبار الأمم الخالية ولم يكونوا سمعوها قبل ذلك أنكروها لجهلهم فرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لأن القرآن العظيم مشتمل على علوم كثيرة لا يقدر أحد على استيعابها وتحصيلها: {ولما يأتهم تأويله} يعني أنهم كذبوا به ولم يأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في القرآن به من العقوبة.
والمعنى: أنهم لم يعلموا ما تؤول إليه عاقبة أمرهم.
وقيل: معناه أنهم لم يعلموه تنزيلًا ولا علموه تأويلًا فكذبوا به وذلك لأنهم جهلوا القرآن وعلمه وعلم تأويله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} يعني كما كذب هؤلاء بالقرآن كذلك كذب الأمم الماضية أنبياءهم فيما وعدوهم به: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: فانظر يا محمد كيف كان عاقبة من ظلم من الأمم كذلك تكون عاقبة من كذبك من قومك ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس.
والمعنى: فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم فاحذر أن تفعل مثل فعله.
{وإن كذبوك} يعني وإن كذبك قومك يا محمد: {فقل} أي فقل لهم: {لي عملي} يعني الطاعة وجزاء ثوابها: {ولكم عملكم} يعني الشرك وجزاء عقابه: {أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون} قيل: المراد منه الزجر والرجوع.
وقال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف.
قال الإمام فخر الدين الرازي: وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعًا الحكم المنسوخ.
ومدلول الآية: اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئًا من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلًا.
قوله تعالى: {ومنهم} يعني ومن هؤلاء المشركين: {من يستمعون إليك} يعني بأسماعهم الظاهرة ولا ينفعهم ذلك لشدة بغضهم وعداوتهم لك: {أفأنت تسمع الصم} يعني كما أنك لا تقدر على إسماع الصم فكذلك لا تقدر على إسماع من أصم الله سمع قلبه: {ولو كانوا لا يعقلون} يعني أن الله سبحانه وتعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يسمعون ولم يوفقهم لذلك فهم بمنزلة الجهال إذا لم ينتفعوا بما لم يسمعوا وهم أيضًا كالصم الذين لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه لعدم التوفيق: {ومنهم من ينظر إليك} يعني بأبصارهم الظاهرة: {أفأنت تهدي العمي} يريد عمي القلوب: {ولو كانوا لا يبصرون} لأن الله أعمى بصائر قلوبهم فلا يبصرون شيئًا من الهدى وفي هذا تسلية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول الله إنك لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع ولا تقدر أن تهدي من سلبته البصر ولا تقدر أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن: {إن الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون}.
قال العلماء: لما حكم الله على أهل الشقوة بالشقاوة لقضائه وقدره السابق فيهم أخبر في هذه الآية أن تقدير الشقاوة عليهم ما كان ظلمًا منه لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيدة وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالمًا وإنما قال ولكن الناس أنفسهم يظلمون لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم.
قوله سبحانه وتعالى: {ويوم يحشرهم} يعني: واذكر يا محمد يوم نجمع هؤلاء المشركين لموقف الحساب.
وأصل الحشر: إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم: {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} يعني كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من النهار.
وقيل: معناه كأنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار.
والوجه الأول أولى، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار لبثهم في القبور إلى وقت الحشر، فتعين حمله على أمر يختص بحال الكافر وهو أنهم لما لم ينتفعوا بأعمارهم في الدنيا استقلوها.
والمؤمن لما انتفع بعمره في الدنيا لم يستقله.
وسبب استقلال الكفار: مدة مقامهم في الدنيا أنهم لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على ما فيها ولم يعملوا بطاعة الله فيها كان وجود ذلك كالعدم فلذلك استقلوه.
وقيل: إنهم لما شاهدوا أهوال يوم القيامة وطال عليهم ذلك، استقلوا مدة مقامهم في الدنيا، لأن مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة قليل جدًا: {يتعارفون بينهم} يعني: يعرف بعضهم بعضًا إذا خرجوا من قبورهم كما كانوا يتعارفون في الدنيا ثم تنقطع المعرفة بينهم إذا عاينوا أهوال يوم القيامة، وفي بعض الآثار: أن الإنسان يوم القيامة يعرف من بجنبه ولا يقدر أن يكلمه هيبة وخشية، وقيل: إن أحوال يوم القيامة مختلفة ففي بعضها يعرف بعضها بعضًا وفي بعضها ينكر بعضهم بعضًا لهول ما يعاينون في ذلك اليوم: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} يعني أن من باع آخرته الباقية بدنياه الفانية قد خسر لأنه أثر الفاني على الباقي: {وما كانوا مهتدين} يعني إلى ما يصلحهم وينجيهم من هذا الخسار.
{وإما نرينك} يعني يا محمد: {بعض الذي نعدهم} يعني ما نعدهم به من العذاب في الدنيا فذاك: {أو نتوفينك} قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى: {فإلينا مرجعهم} يعني في الآخرة وفيه دليل على أن الله يري رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعًا من عذاب الكافرين وذلهم وخزيهم في حال حياته في الدنيا وقد أراه ذلك في يوم بدر وغيره من الأيام وسير به ما أعد لهم من العذاب في الآخرة بسبب كفرهم وتكذيبهم: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} فيه وعيد وتهديد لهم يعني أنه سبحانه وتعالى شاهد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة.