فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {ولكل أمة رسول} لما بيَّن الله حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه بيَّن أن حال الأنبياء مع أممهم كذلك فقال تعالى: وكل أمة، يعني قد خلت وتقدمت قبلكم، رسول يعني: مبعوثًا إليهم يدعو إلى الله وإلى طاعته والإيمان به: {فإذا جاء رسولهم} في هذا الكلام إضمار تقديره، فإذا جاءهم رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون: {قضي بينهم بالقسط} يعني حكم بينهم بالعدل وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان: أحدهما: أنه في الدنيا وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى كل أمة رسولًا لتبليغ الرسالة وإقامة الحجة وإزالة العذر فإذا كذبوا رسلهم وخالفوا أمر الله قضى بينهم، وبين رسلهم في الدنيا فيهلك الكافرين وينجي رسلهم والمؤمنين ويكون ذلك عدلًا لا ظلمًا لأن قبل مجيء الرسول لا يكون ثوابًا ولا عقابًا.
القول الثاني: إن وقت القضاء في الآخرة وذلك أن الله إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والقضاء بينهم والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم.
والمراد من ذلك، المبالغة في إظهار العدل، وهو قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} يعني من جزاء أعمالهم شيئًا ولكن يجازي كل أحد على قدر عمله.
وقيل: معناه أنهم لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم: {ويقولون} يعني هؤلاء الكفار: {متى هذا الوعد} يعني الذي تعدنا به يا محمد من نزلو العذاب وقيل قيام الساعة، وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد: {إن كنتم صادقين} يعني فيما تعدونا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع لأن كل أمة قالت لرسولها كذلك أو يكون المعنى: إن كنتم صادقين أنت وأتباعك يا محمد أوذكروه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم: {قل} أي: قل لهم يا محمد: {لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا} يعني لا أملك لنفسي دفع ضر أو جلب نفع ولا أقدر على ذلك: {إلا ما شاء الله} يعني أن أقدر عليه أو أملكه.
والمعنى: أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصر للأولياء وعلم قيام الساعة لا يقدر عليه إلا الله فتعيين الوقت إلى الله سبحانه وتعالى بحسب مشيئته ثم إذا حضر ذلك الوقت الذي وقته الله لحدوث هذه الأشياء فإنه يحدث لا محالة وهو قوله سبحانه وتعالى: {ولكل أمة أجل} أي مدة مضروبة ووقت معين: {إذا جاء أجلهم} يعني إذا انقضت مدة أعمارهم: {فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يعني لا يتأخرون عن ذلك الأجل الذي أجل لهم ولا يتقدمونه: {قل} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: {أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتًا} يعني ليلًا يقال بات يفعل كذا إذا فعل بالليل والسبب فيه إن الإنسان في الليل لا يكون إلا في البيت غالبًا فجعل الله هذه اللفظة كناية عن الليل: {أو نهارًا} يعني في النهار: {ماذا يستعجل منه المجرمون} يعني ما الذي يستعجلون من نزول العذاب وقد وقعوا فيه وحقيقة المعنى أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فأجابهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} يعني أي شيء يعلم المجرمون ما يطلبون ويستعجلون كما يقول الرجل لغيره وقد فعل فعلًا قبيحًا ماذا جنيت على نفسك.
{أثمّ إذا ما وقع} يعني إذا ما نزل العذاب ووقع: {آمنتم به} يعني آمنتم بالله وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس وقيل معناه صدقتم بالعذاب عند نزوله ودخلت همزة الاستفهام على ثم للتوبيخ والتقريع: {آلآن} فيه إضمار تقديره يقال لهم آلآن تؤمنون أي حين وقوع العذاب: {وقد كنتم به تستعجلون} يعني تكذيبًا واستهزاء: {ثم قيل للذين ظلموا} يعني ظلموا أنفسهم بسبب شركهم وكفرهم بالله: {ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون} يعني في الدنيا من الأعمال. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)}
ولما بيّن فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل على فساد هذا المذهب بحجج:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {قل} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: {من يرزقكم من السماء} بالمطر: {والأرض} بالنبات فانحصر الرزق في ذلك، أما من السماء فبتنزل الأمطار، وأما من الأرض فلأن الغذاء إما أن يكون نباتًا أو حيوانًا، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض، وأما الحيوان فهو يحتاج أيضًا إلى الغذاء، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيوانًا آخر، وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له، وذلك محال فثبت أنّ أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات، وثبت أن تولد النبات من الأرض، فثبت القطع بأنّ الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض: {أمّن يملك السمع} أي: الأسماع: {والأبصار} أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سوّيًا عليه من الفطرة العجيبة. عن علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم، أو جمعهما وحفظهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلائه وحفظه: {ومن يخرج الحيّ من الميت} كأن يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة: {ويخرج الميت من الحيّ} كأن يخرج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي ميت في الموضعين بعد الميم بكسر الياء المشدّدة، والباقون بعد الميم بسكون الياء: {ومن يدبر الأمر} أي: ومن يلي تدبير أمر الخلائق، وهو تعميم بعد تخصيص، وذلك لأنَّ أقسام تدبير الله تعالى في العالم السفلي وفي العالم العلوي وفي عالم الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك الأفاصيل عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بيّن تعالى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال: {فسيقولون الله} إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه، وإذا كانوا يقرّون بذلك: {فقل} لهم يا محمد: {أفلا تتقون} الشرك مع اعترافكم بأنّ كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل بفضل الله تعالى وإحسانه.
{فذلكم الله ربكم الحق} أي: الثابت ربوبيته ثباتًا لا ريب فيه، وإذا ثبت أنّ هذا هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالًا؛ لأنَّ النقيضين يمتنع أن يكونا حقين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقًا وجب أن يكون ما سواه باطلًا، كما قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} إذ لا واسطة بينهما فهو استفهام تقرير، أي: ليس بعده غيره فمن أخطأ الحق وهو عبادة الله تعالى وقع في الضلال، ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فأنّى} أي: فكيف ومن، أي: جهة: {تصرفون} أي: تعدلون عن عبادته وأنتم تقرّون بأنّ الله هو الحق.
{كذلك} أي: كما حقت الربوبية لله تعالى أو أنّ الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق: {حقت كلمة ربك} في الأزل: {على الذين فسقوا} أي: تمرّدوا في كفرهم وخرجوا عن حدّ الاستصلاح. وقوله تعالى: {أنهم لا يؤمنون} بدل من الكلمة، أي: حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك والمراد بكلمة الله العدة بالعذاب، وهو: {لأملأن جهنم} (الأعراف) الآية، وأنهم لا يؤمنون تعليل بمعنى لأنهم لا يؤمنون، أو ذلك تفسير لكلمته التي حقت. وقرأ نافع وابن عامر كلمة بالألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير الألف بعد الميم على الإفراد.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {قل} أي: قل يا محمد لهؤلاء: {هل من شركائكم} الذين زعمتموهم شركاء وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزرعكم: {من يبدأ الخلق} كما بدأ به ليصح لكم ما ادّعيتم من الشركة: {ثم يعيده} كما كان. فإن قيل: هم غير معترفين بالإعادة فكيف احتج عليهم تعالى بها كالابتداء في الإلزام بها؟
أجيب: بأنها لظهور برهانها وإن لم يقروا بها وضعت موضع ما إن دفعه دافع كان مكابرًا رادًّا للظاهر البيّن الذي لا مدخل للشبهة فيه دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمرًا مسلمًا معترفًا بصحته عند العقلاء. ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنهم في الجواب بقوله تعالى: {قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده} لأنّ لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها: {فأنى} أي: فكيف: {تؤفكون} عن عبادته مع قيام الدلائل. فإن قيل: ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام؟
أجيب: بأنّ الكلام إذا كان ظاهرًا جليًا ثم ذكر على سبيل الاستفهام كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {قل} أي: قل يا محمد لهم: {هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} بنصب الحجج، وخلق الاهتداء، وإرسال الرسل، ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب بقوله تعالى: {قل الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة: {يهدي للحق} من يشاء لا أحدًا ممن زعمتموه شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض. قال الزجاج: يقال هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد. فالله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله تعالى: {من يهدي إلى الحق} وفي قوله تعالى: {قل الله يهدي للحق} وقوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق} أي: وهو الله تعالى: {أحق أن يتبع أمّن لا يهدي} أي: يهتدي: {إلا أن يهدى} أحق أن يتبع استفهام تقرير وتوبيخ، أي: الأوّل أحق: {فما لكم كيف تحكمون} هذا الحكم الفاسد من اتباع من لا يستحق الاتباع، وقوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم} في تفسيره وجهان الأوّل: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى: {إلا ظنًا} لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم. الثاني: وما يتبع أكثرهم إلا ظنًا في قولهم للأصنام آلهة، وإنها شفعاء عند الله تعالى إلا الظنّ، حيث قلدوا فيه آباءهم. قال الرازي: والقول الأول أقوى لأنا في القول الثاني نحتاج إلى تفسير الأكثر بالكل: {إنَّ الظنّ لا يغني من الحق} فيما المطلوب فيه العلم: {شيئًا} من الإغناء، فدلت هذه الآية على أنَّ كل من كان ظانًا في مسائل الأصول، وما كان قاطعًا لا يكون مؤمنًا. فإن قيل: فقول أهل السنة: أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر أجاب الرزاي: بأنَّ هذا ضعيف من وجوه: الأوّل: أنَّ مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنَّ الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، فالشك حاصل في أنّ هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني: أنّ الغرض من قوله إن شاء الله تعالى بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث: الغرض هضم النفس وكسرها: {إنَّ الله عليم} أي: بالغ العلم: {بما يفعلون} أي: من اتباعهم الظنّ، وتكذيبهم الحق اليقين، فيجازيهم عليه. وقوله تعالى: {وما كان} عطف على قوله: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} إلخ فهو حينئذٍ مقول القول، أي: قل لهم ذلك الكلام: {هذا القرآن} أي: الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق: {أن يفترى} أي: افتراء: {من دون الله} أي: غيره؛ لأنّ المفترى هو الذي تأتي به البشر، وكفار مكة زعموا أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أتى بهذا من عند نفسه، فأخبر الله تعالى أنّ هذا القرآن وحي أنزله عليه وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله، ثم ذكر هذا بقوله تعالى: {ولكن} أنزل: {تصديق الذي بين يديه} أي: قبله من الكتب الذي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والانجيل، فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه معجزة له فإنه كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجتمع بأحد من العلماء، ثم أنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن العظيم المعجز، وفيه أخبار الأوّلين وقصص الماضين، وقيل تصديق الذي القرآن بين يديه من القيامة والبعث: {وتفصيل الكتاب} أي: تبيين ما كتب الله من الأحكام وغيرها: {لا ريب} أي: لا شك: {فيه}. وقوله تعالى: {من رب العالمين} متعلق بتصديق أو بأنزل المحذوف.
{أم} أي: بل: {يقولون افتراه} أي: اختلقه محمد، ومعنى الهمزة فيه للإنكار: {قل} أي: قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون: {فأتوا بسورة مثله} في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، فأنتم عرب مثله في البلاغة والفطنة. فإن قيل: هل يتناول ذلك جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار؟
أجيب: بأنّ هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فيكون المراد مثل هذه السورة؛ لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا أجاب الرازي، والأولى التناول لجميع السور؛ فإنهم لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة. فإن قيل: لم قال في البقرة: {بسورة من مثله} (البقرة) وهنا: {بسورة مثله}؟
أجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ لأحد فقيل في سورة البقرة: {فأتوا بسورة من مثله} بناء على أنّ الضمير يرجع للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: فليأت إنسان يساوي محمدًا صلى الله عليه وسلم في عدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز، فهذا لا يدل على أنّ السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد صلى الله عليه وسلم في عدم التعلم والتتلمذ معجز. ثم بيّن تعالى في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجزة فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور وهو المراد من قوله تعالى: {وادعوا من استطعتم} أي: فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به: {من دون الله} أي: غيره؛ فإنه تعالى وحده قادر على ذلك: {إن كنتم صادقين} أي: في أني أتيت به من عندي؛ لأنَّ العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر.
تنبيه: مراتب تحدّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستة: أوّلها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} (الإسراء). ثانيها: أنه تحدّاهم بعشر سور فقال تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} (هود). ثالثها: أنه تحدّاهم بسورة واحدة كما قال تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة). رابعها: أنه تحدّاهم بحديث مثله. خامسها: أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التلمذة والتعلم، ثم في هذه السورة طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي: إنسان سواء تعلم العلوم أم لم يتعلمها. سادسها: أنّ في المراتب المتقدّمة تحدي واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الاتيان بهذه المعارضة، كما قال تعالى: {وادعوا من استطعتم من دون الله} وهاهنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أنّ القرآن معجز، ثم إنَّ الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن فقال تعالى: {بل كذبوا} أي: أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك: {بما لم يحيطوا بعلمه} أي: القرآن أوّل ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته من غير شبهة أصلًا بل عنادًا وطغيانًا ونفورًا مما يخالف دينهم، فهو من باب: مَنْ جَهِلَ شيئًا عاداه، والإحاطة إدارة ما هو كالحائط حول الشيء وإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه: {ولما يأتهم} أي: إلى زمن تكذيبهم. أي: تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب وعاقبة ما فيه من الوعيد حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب، ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرّر عليهم التحدي، فجربوا عقولهم في معارضته فصغرت وضعفت دونها، ومع هذا لم يقلعوا عن التكذيب تمردًا وعنادًا: {كذلك} أي: مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبر المعجزة: {كذب الذين من قبلهم} أي: من كفار الأمم الماضية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم: {فانظر} يا محمد: {كيف كان عاقبة الظالمين} بتكذيب الرسل، أي: آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك يهلك من كذبك من قومك، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس، والمعنى: فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم، فاحذر أن تفعل مثل فعله.