فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ومنهم} أي: من قومك يا محمد،: {من يؤمن به} أي: القرآن، أي: يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب: {ومنهم من لا يؤمن به} في نفسه لغباوته وقلة تدبره، أو منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويبدله بالإيمان، ومنهم من يصر ويستمرّ على الكفر، وإنما فسرت هذه الآية بهذين التأويلين؛ لأنّ كلمة يؤمن تصلح للحال والاستقبال: {وربك أعلم بالمفسدين} أي: المعاندين على التفسير الأوّل، والمصرين على التفسير الثاني، وفي ذلك تهديد لهم.
{وإن كذبوك} أي: وإن كذبوك يا محمد بعد الزام الحجة: {فقل} لهم: {لي عملي} من الطاعة وجزاء ثوابها: {ولكم عملكم} من الشرك وجزاء عقابه، أي: فتبرأ منهم فقد أعذرت، والمعنى: لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقًا كان أو باطلًا: {أنتم بريؤن مما أعمل وأنا برئ مما تعملون} لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم. واختلف في معنى ذلك فقيل: معنى الآية الزجر والردع. وقيل: بل معناه استمالة قلوبهم. وقال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الرازي: وهذا بعيد؛ لأنّ شرط الناسخ أن يكون رافعًا لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، وآية القتال ما رفعت شيئًا من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلًا انتهى. ولا تنبغي هذه المبالغة مع مثل من ذكر، وقد تبعهما جماعة من المفسرين.
ولما قسم تعالى الكفار قسمين: منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به قسم من لا يؤمن به قسمين: منهم من يكون في نهاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه، ومنهم من لا يكون، كذلك، فوصف القسم الأول في قوله تعالى: {ومنهم} أي: من هؤلاء المشركين،: {من يستمعون إليك} إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم لشدّة عداوتهم وبغضهم لك، فإن الإنسان إذا قوي بغضه لآخر وعظمت نفرته منه صارت نفسه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه: {أفأنت تسمع الصم} أي: أتقدر على إسماعهم: {ولو كانوا} مع الصمم: {لا يعقلون} أي: لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعًا فقد تم الأمر، فكما أنك لا تقدر على إسماع الأصم الذي لا يعقل لا تقدر على إسماع من أصم الله تعالى قلبه، فإنَّ الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يستمعون ولم يوفقهم لذلك، فشبههم بالصم في عدم الانتفاع بما يتلى عليهم، ثم وصف القسم الثاني في قوله تعالى: {ومنهم من ينظرون إليك} أي: يعاينون دلائل نبوّتك ولا يصدّقونك: {أفأنت تهدي العمي} أي: أتقدر على هدايتهم: {ولو كانوا} مع العمى: {لا يبصرون} أي: لا بصيرة لهم؛ لأنَّ الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، فأمّا العمى مع الحمق فجهد البلاء، فلا تقدر على هداية من أعمى الله بصيرته، فهؤلاء في اليأس من أن يقبلوا أو يصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر، فلا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله تعالى.
تنبيه: اختلف في أنّ السمع أفضل أو البصر فمنهم من قال: السمع، واحتج على ذلك بأمور منها تقدّمه في الآية، ومنها: أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب، والقوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ إلا من جهة واحدة، وهي المقابل، ومنها: أنّ الإنسان إنما يستفيد العلم من التعلم من الأستاذ، وذلك لا يكون إلا بقوة السمع، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع. ومنها: أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم، فنبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأحوال المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع، وبيان الأحكام. ومنها: أنّ المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق بالكلام، وإنما ينتفع بذلك بالقوّة السامعة، فمتعلق السمع النطق الذي يحصل به شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات.
ومنهم من قال: البصر، واحتج بأمور منها: أن آلة القوّة الباصرة هي النور، وآلة القوّة السامعة هي الهواء، والنور أشرف من الهواء. ومنها: أنّ جمال الوجه يحصل بالبصر وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبًا في جمال وجهه، والعرب تسمي: العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، وفي الحديث يقول الله تعالى: «من أذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابًا دون الجنة». ومنها: أنهم قالوا في المثل المشهور: ليس وراء العيان بيان. وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الإبصار. ومنها: أنّ كثيرًا من الأنبياء سمع الله، واختلفوا في أنه هل رآه منهم أحد أم لا؟ وأيضًا فإنّ موسى عليه السلام أسمعه الله تعالى كلامه من غير سبق سؤال والتماس، فلما طلب الرؤية قال: لن تراني، وذلك يدل على أنَّ حال الرؤية أعلى من حال السماع، وهذا هو الظاهر. ولما حكم تعالى على أهل الشقاوة بالشقاوة بقضائه وقدره السابق فيهم أخبر تعالى أنّ تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلمًا منه بقوله تعالى: {إنّ الله لا يظلم الناس شيئًا} أي: لأنه تعالى في جميع أحواله متفضل وعادل، فيتصرّف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده، وكل من تصرّف في ملكه بالفضل والعدل لا يكون ظالمًا، وإنما قال تعالى: {ولكن الناس أنفسهم يظلمون} لأنّ فعلهم منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله تعالى وقدره فيهم، ففي ذلك دليل على أنّ للعبد كسبًا وأنه ليس مسلوب الاختيار كما زعمت المجبرة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون مخففة ورفع السين، والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب السين.
ولما وصف تعالى هؤلاء الكفار بقلّة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد بقوله تعالى: {ويوم يحشرهم} أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء المشركين لموقف الحساب، وأصل الحشر: إخراج الجماعة وإزعاجهم عن مكانهم: {كأن} أي: كأنهم: {لم يلبثوا} في دنياهم. والجملة في موضع الحال من ضمير نحشرهم البارز، أي: مشبهين بمن لم يلبثوا: {إلا ساعة} حقيرة: {من النهار} أي: يستقصرون مدّة مكثهم في الدنيا وفي القبور لهول ما يرون: {يتعارفون بينهم} أي: يعرف بعضهم بعضًا إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدّة الأهوال، والجملة حال مقدّرة متعلق الظرف، والتقدير: يتعارفون يوم نحشرهم. وقوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} أي: بالبعث. يحتمل وجهين: الأوّل: أن يكون على إرادة القول، أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك، الثاني: أن يكون كلام الله تعالى، فيكون شهادة من الله تعالى عليهم بالخسران. والمعنى: أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر؛ لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني: {وما كانوا مهتدين} أي: إلى رعاية مصالح التجارة، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة، فصاروا كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب. وقوله تعالى: {وإمّا} فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة: {نرينّك} يا محمد: {بعض الذي نعدهم} به من العذاب في حياتك، وجواب الشرط محذوف، أي: فذاك: {أو نتوفّينّك} قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله تعالى: {فإلينا} بعد البعث: {مرجعهم} فنريك هناك ما هو أقرّ لعينك وأسرّ لقلبك، وقوله تعالى: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} فيه وعيد وتهديد لهم، أي: أنه تعالى شهيد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة، ولما بيّن تعالى حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه بين أنّ حال كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم كذلك بقوله تعالى: {ولكل أمة} أي: من الأمم التي خلت من قبلك: {رسول} يدعوهم إلى الله تعالى، وقوله تعالى: {فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} فيه إضمار تقديره: فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون، قضي، أي: حكم وفصل بينهم بالقسط، أي: بالعدل. وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان: أحدهما أنه في الدنيا بأن يهلك الكافرين، وينجي رسوله والمؤمنين لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} (الإسراء) والثاني في الآخرة: وذلك أنّ الله تعالى إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم لقوله تعالى: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم} (الزمر) والمراد منه: المبالغة في إظهار العدل وهو قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} في جزاء أعمالهم شيئًا بل يجازى كل واحد على قدر عمله فكذلك يفعل بهؤلاء.
{ويقولون متى هذا الوعد} الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب ومن قيام الساعة وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد: {إن كنتم صادقين} أي: فيما تعدونا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع على سبيل التعظيم أو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإن كان كل أمة قالوا لرسولها مثل ذلك وهو الموافق لقوله تعالى: {ولكل أمّة رسول} قال الله تعالى: {قل} أي: قل لهم يا محمد: {لا أملك لنفسي ضرًّا} من مرض أو فقر أدفعه: {ولا نفعًا} من صحة أو غنىً أجلبه: {إلا ما شاء الله} أن يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب أوقيام الساعة ولا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى: {لكل أمة أجل} أي: مدّة مضروبة: {إذا جاء أجلهم} أي: انقضت مدّة أعمارهم: {فلا يستأخرون} أي: لا يتأخرون: {عنه ساعة} ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها: {ولا يستقدمون} أي: ولا يتقدّمون، أي: ولا يستعجلون؛ فإنّ الوفاء بالوعد لابدّ منه، والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي: لا يوجد لهم المعنى الذي منع منه الفعل، ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون التأخر ولا التقدّم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب. وتدلّ الآية على أنَ أحدًا لا يموت إلا بانقضاء أجله، وكذا المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلها أيضًا حرف مد، والباقون بالتحقيق. قال الله تعالى: {قل} أي: قل لهم يا محمد أيضًا: {أرأيتم إن أتاكم عذابه} الذي تستعجلون به: {بياتًا} أي: في الليل بغتة كما يفعل العدوّ: {أو نهارًا} أي: وقت أنتم فيه تشتغلون بطلب المعاش والكسب: {ماذا} أي: أيّ شيء: {يستعجل منه} أي: من عذابه وعذاب كل مكروه لا يحتمل شيء منه: {المجرمون} أي: المشركون، وضع المجرمون موضع المضمر للدّلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء الوعيد لا أن يستعجلوا، وجملة الاستفهام متعلقة بأرأيتم، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه.
{أثمَّ إذا ما وقع} أي: حل بكم: {آمنتم} أي: آمنتم بالله أو العذاب وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس، والهمزة لإنكار التأخير فلا يقبل منكم، وقوله تعالى: {آلآن} على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا وقت نزول العذاب آلآن: {وقد كنتم به تستعجلون} تكذيبًا واستهزاءً.
تنبيه: اتفق قالون مع ورش على النقل هنا، واتفق القراء كلهم على همزة الوصل التي بعد همزة الاستفهام إن فيها وجهين: وهما البدل والتسهيل. وقوله تعالى: {ثم قيل للذين ظلموا} عطف على قيل المقدّر، أي: من، أي: قائل كان استهانة بهم. وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الياء، والباقون بالكسر: {ذوقوا عذاب الخلد} أي: الذي تخلدون فيه، والاتيان بثم إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين: {هل} أي: ما: {تجزون إلا بما كنتم تكسبون} في الدنيا من الكفر والمعاصي. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ رَسُولًا بَعَثَهُ فِيهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ أُصُولَ دِينِهِ الثَّلَاثَةَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْيَوْمُ الْآخِرُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُنَاسِبُ لِحَالِ زَمَنِهِمْ: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ قَضَى اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فِي قَضَائِهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي تَأْكِيدُهُ قَرِيبًا {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُؤ} أَيْ وَيَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: مَتَى يَقَعُ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَعِدُونَنَا بِهِ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي قَوْلِكُمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَنْتَقِمُ لَكُمْ مِنَّا وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْنَا، أَيْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} (19: 75) وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (72: 24- 26) إِلَخْ.
وَهَاهُنَا لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} أَيْ إِنَّنِي بَشَرٌ رَسُولٌ لَا أَمَلِكُ لِنَفْسِي- فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا- شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الضُّرِّ فَأَدْفَعَهُ عَنْهَا وَلَا النَّفْعِ فَأَجْلِبَهُ لَهَا، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَقْدِرُ غَيْرِي عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنْهَا إِنْزَالُ الْعَذَابِ بِالْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ، وَلَا هِبَةُ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ {إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} أَيْ لَكِنْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَتَى شَاءَ لِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الرِّسَالَةِ الَّتِي وَظِيفَتُهَا التَّبْلِيغُ لَا التَّكْوِينُ. هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مُنْقَطِعٌ وَلَهُ أَمْثَالٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُوَ مَنْ أَظْهَرِهَا الصَّرِيحِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (7: 188) وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ وَتَأْخِيرِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، فَقَدْ قُدِّمَ الضُّرُّ فِي آيَةِ يُونُسَ لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مِيعَادِ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، وَهُوَ مِنَ الضُّرِّ، وَقُدِّمَ النَّفْعُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ الْمَقَامَ بَيَانُ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ فَضْلًا عَنْ مِلْكِهِ لِغَيْرِهِ، وَالْمُنَاسِبُ فِي هَذَا تَقْدِيمُ النَّفْعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ وَسَعْيِهِ لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَامًّا لِمَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ أَمْلِكَهُ بِمَا أَعْطَانِي مِنَ الْكَسْبِ الِاخْتِيَارِيِّ مَعَ تَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ لِي، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ فَهِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا مِمَّا يَمْلِكُهُ رُسُلُهُ.
وَقَدْ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} لِبَقَائِهَا وَهَلَاكِهَا، عَلِمَهُ اللهُ وَقَدَّرَهُ لَهَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} أَيْ فَلَا يَمْلِكُ رَسُولُهُمْ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَهُ سَاعَةً عَنِ الزَّمَانِ الْمُقَدَّرِ لَهُ وَإِنْ قَلَّتْ وَلَا أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السِّينُ وَالتَّاءُ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى هَذَا النَّصِّ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 34) بِلَفْظِهِ فَاسْتَغْرَقَ أَرْبَعَ وَرَقَاتٍ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَالِكَ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ} إِلَخْ وَقَالَ هُنَا: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ} إِلَخْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا هُنَا أَبْلَغُ فِي نَفْيِ تَأْخِيرِ الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ تَفْنِيدٌ لِاسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ وَصْفًا لِلْأَجَلِ مُرْتَبِطًا بِهِ مُبَاشَرَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَمَا هُنَالِكَ إِخْبَارٌ بِآجَالِ الْأُمَمِ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ تَفْرِيعٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِهِ لَهُ بِلَا مُهْمَلَةٍ كَالَّذِي هُنَا. وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا السُّؤَالُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ جَوَابِهِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَأَشْبَهَهُ بِمَا هُنَا سِيَاقُ سُورَةِ النَّمْلِ وَأُجِيبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (27: 72) وَهُوَ مِنْ رَدِفَهُ إِذَا لَحِقَهُ وَتَبِعَهُ، وَعُدِّيَ بِاللَّامِ لِتَأْكِيدِهِ أَوْ تَضْمِينِهِ مَعْنًى يُنَاسِبُهُ. وَقَدْ بَلَغَ مِنْ جَهْلِ الْخُرَافِيِّينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِتَوْحِيدِ اللهِ، أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النُّصُوصِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ لَمْ تَصُدَّ الْجَاهِلِينَ بِهِ مِنْهُمْ عَنْ دَعْوَى قُدْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ- حَتَّى الْمَيِّتِينَ مِنْهُمْ- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْعِهِمْ وَضُرِّهِمْ، مِمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْكَسْبِ الْمَقْدُورِ لَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ كُلِّهِ، كَالَّذِينِ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْأَرْبَعَةَ. وَأَنَّ بَعْضَ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَكْتُبُ هَذَا حَتَّى فِي مَجَلَّةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فَيُفْتِي بِجَوَازِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ مِنَ الْمَوْتَى وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ، وَأَلَّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ، وَكَوْنِ الْمَيِّتِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَقْضُونَ حَوَائِجَ مَنْ يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ بَعْدَ نَقْلِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ أَئِمَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَتَرْجِيحِهِ مَا نَصُّهُ:
وَفِي هَذَا أَعْظَمُ وَازِعٍ وَأَبْلَغُ زَاجِرٍ لِمَنْ صَارَ دَيْدَنَهُ وَهَجِيرَاهُ الْمُنَادَاةُ لِرَسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوِ الِاسْتِغَاثَةُ بِهِ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَارَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مَقَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ، وَرَزَقَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَيُمِيتُهُمْ، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ صَالِحٍ مِنَ الصَّالِحِينَ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ؟ وَيُتْرَكُ الطَّلَبُ لِرَبِّ الْأَرْبَابِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُعْطِي الْمَانِعِ؟ وَحَسْبُكَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَوْعِظَةٍ، فَإِنَّ هَذَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ يَأْمُرُهُ اللهُ بِأَنْ يَقُولَ لِعِبَادِهِ {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ لِغَيْرِهِ؟ وَكَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ- مِمَّنْ رُتْبَتُهُ دُونَ رُتْبَتِهِ وَمَنْزِلَتُهُ لَا تَبْلُغُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ- لِنَفْسِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَهُ لِغَيْرِهِ؟
فَيَا عَجَبًا لِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَنِ الْحَوَائِجِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ! كَيْفَ لَا يَتَيَقَّظُونَ لِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَلَا يَنْتَبِهُونَ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَمَدْلُولِ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (112: 1): وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا اطِّلَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى بَلْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ وَمُقَرِّبِينَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَيُنَادُونَهُمْ تَارَةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَتَارَةً مَعَ ذِي الْجَلَالِ وَكَفَاكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، وَاللهُ نَاصِرُ دِينِهِ، وَمُطَهِّرُ شَرِيعَتِهِ مِنْ أَوَضَارِ الشِّرْكِ وَأَدْنَاسِ الْكُفْرِ. وَلَقَدْ تَوَسَّلَ الشَّيْطَانُ أَخْزَاهُ اللهُ بِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ إِلَى مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ وَيَنْثَلِجُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ كُفْرِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَةِ {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (18: 104): {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. اهـ.