فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفرزدق:
ولما رأى الحجاج جرد سيفه ** أسر الحروري الذي كان أظهرا

وقال آخر:
فأسررت الندامة يوم نادى ** برد جمال غاضرة المنادي

وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله: {يعلم ما يسرون ما يعلنون} ويحتمل هنا الوجهين.
أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما ناله، ولأنّ حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب، وقد قالوا: ربنا غلبت علينا شقوتنا وأما إخفاء الندامة فقيل: أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفًا من توبيخهم، وهذا فيه بعد، لأنّ من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة.
وأيضًا وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى، وهو عام في الرؤساء والسفلة.
وقيل: إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخًا.
ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكملة، ويبقى مبهوتًا جامدًا.
وأما من قال: إن معنى قوله: {وأسروا الندامة}، أخلصوا لله في تلك الندامة، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي: تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية.
والظاهر أنّ قوله: {وقضى بينهم بالقسط}، جملة أخبار مستأنفة، وليست معطوفة على ما في حيز لما، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت.
وقال الزمخشري: بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى.
وقيل: يعود على المؤمن والكافر.
وقيل: على الرؤساء والأتباع. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} بالشرك أو التعدّي على الغير أو غيرِ ذلك من أصناف الظلمِ ولو مرةً حسبما يفيده كونُ الصفةِ فعلًا: {مَّا في الأرض} أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالِها ومنافعها قاطبةً بما كثُرت: {لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلتْه فديةً لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه: {وَأَسَرُّواْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكل نفسٍ، والعدولُ إلى صيغة الجمعِ مع تحقق العمومِ في صورة الإفرادِ أيضًا لإفادة تهويلِ الخطبِ بكون الإسرارِ بطريق المعيةِ والاجتماع، وإنما لم يُراعَ ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كونِ جميعِ ما في الأرض لكل واحدةٍ من النفوس، وإيثارُ صيغةِ جمعِ المذكرِ لحمل لفظ النفسِ على الشخص أو لتغليب ذكورِ مدلولِه على إناثه: {الندامة} على ما فعلوا من الظلم أي أخفَوْها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهاتَ ولاتَ حينَ اصطبارٍ بل لأنهم بُهتوا: {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي عند معاينتِهم من فظاعة الحالِ وشدةِ الأهوالِ ما لم يكونوا يحتسبوا فلم يقدروا على أن ينطِقوا بشيء، (فلما) بمعنى حين منصوبٌ بأسرّوا أو حرفُ شرطٍ حذف جوابُه لدِلالة ما تقدم عليه، وقيل: أسرها رؤساؤُهم ممن أضلوهم حياءً منهم وخوفًا من توبيخهم، ولكن الأمرَ أشدُّ من أن يعترِيَهم هناك شيءٌ غيرَ خوفِ العذاب، وقيل: أسروا الندامةَ أخلصوها لأن إسرارها إخلاصُها أو لأن سرَّ الشيءِ خالصتُه حيث تخفى ويُضَنّ بها، ففيه تهكمٌ بهم. وقيل: أظهروا الندامةَ من قولهم: أسرَّ الشيء وأشره إذا أظهره حين عيل صبرُه وفنِيَ تجلُّده: {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي أُوقع القضاءُ بين الظالمين من المشركين وغيرِهم من أصناف أهل الظلمِ بأن أُظهر الحقُّ سواءٌ كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العبادِ من العباد من الباطل، وعومل أهلُ كل منهما بما يليق به: {بالقسط} بالعدل، وتخصيصُ الظلم بالتعدي وحملُ القضاء على مجرد الحكومةِ بين الظالمين والمظلومين من غير أن يُتعرَّضَ لحال المشركين وهم أظلمُ الظالمين لا يساعدُه المقامُ فإن مقتضاه كونُ الظلم عبارةً عن الشرك أو عما يدخُل فيه دخولًا أوليًا: {وَهُمْ} أي الظالمون: {لاَ يُظْلَمُونَ} فيما فعل بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمِهم ولوازمِه الضرورية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا قيل، وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار و: {لَوْ} قيل بمعنى أن وقيل على ظاهرها واستبعد ولا أراه بعيدًا: {مَّا في الأرض} أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبعة: {لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه فالمفعول محذوف أي لافتدت نفسها به.
وجوز أن يكون افتدى لازمًا على أنه مطاوع فدى المتعدي يقال فداه فافتدى، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول: {وَأَسَرُّواْ} أي النفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى صيغة الجمع لإفادة تهويل الخطب بكون الإسرار بطريق المعية والاجتماع، وإيثار صيغة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إناثه، والإسرار الإخفاء أي أخفوا: {الندامة} أي الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم، والمراد إخفاء آثارها كالبكاء وعض اليد وإلا فهي من الأمور الباطنة التي لا تكون إلا سرًا وذلك لشدة حيرتهم وبهتهم: {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يمر لهم ببال، فأشبه حالهم حال المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من الخطب ويغلب حتى لا يستطيع التفوه ببنت شفة ويبقى جامدًا مبهوتًا، وقيل: المراد بالإسرار الإخلاص أي أخلصوا الندامة وذلك إما لأن إخفاءها إخلاصها وإما من قولهم: سر الشيء لخالصه الذي من شأنه أن يخفى ويصان ويضن به وفيه تهكم بهم: وقال أبو عبيدة والجبائي: إن الأسرار هنا بمعنى الإظهار.
وفي الصحاح أسررت الشيء كتمته وأعلنته أيضًا وهو من الأضداد، والوجهان جميعًا يفسران في قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ الندامة} وكذلك في قول امرئ القيس:
لو يسرون مقتلي

انتهى وفي القاموس أيضًا أسره كتمه وأظهره ضد، وفيه اختلاف اللغويين فإن الأزهري منهم ادعى أن استعمال أسر بمعنى أظهر غلط وأن المستعمل بذلك المعنى هو أشر بالشين المعجمة لا غير.
ولعله قد غلط في الغليط، وعليه فالإظهار أيضًا باعتبار الآثار على ما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون المراد بالإسرار الإخفاء إلا أن المراد من ضمير الجمع الرؤساء أي أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفًا من توبيخهم، وفيه أن ضمير: {أَسَرُّواْ} عام لا قرينة على تخصيصه على أن هول الموقف أشد من أن يتفكر معه في أمثال ذلك، وجملة: {أَسَرُّواْ} مستأنفة على الظاهر وقيل: حال بتقدير قد، و: {لَّمًّا} على سائر الأوجه بمعنى حين منصوب بأسروا، وجوز أن يكون للشرط والجواب محذوف على الصحيح لدلالة ما تقدم عليه أي لما رأوا العذاب أسروا الندامة: {وَقُضِىَ} أي حكم وفصل: {بَيْنَهُمْ} أي بين النفوس الظالمة: {بالقسط} أي بالعدل: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أصلًا لأنه لا يفعل بهم إلا ما يقتضيه استعدادهم، وقيل: ضمير: {بَيْنَهُمْ} للظالمين السابقين في قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} والمظلومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر لكن الظلم يدل بمفهومه عليهم وتخصيص الظلم بالتعدي، والمعنى وقعت الحكومة بين الظالمين والمظلومين وعومل كل منهما بما يليق به.
وأنت تعلم أن المقام لا يساعد على ذلك لأنه إن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولًا أوليًا، والظاهر أن جملة: {قَضَى} مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على جملة: {رَأَوْاْ} فتكون داخلة في حيز لما. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ}
الأظهر أن هذه الجملة من بقية القول، فهي عطف على جملة: {إي وربي إنه لحق} [يونس: 53] إعلامًا لهم بهول ذلك العذاب عساهم أن يحذروه، ولذلك حذف المتعلِّق الثاني لفعل (افتدت) لأنه يقتضي مفديًا به ومفديًا منه، أي لافتدت به من العذاب.
والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام، ولذلك ذكر: {كل نفس} دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به.
وجملة: {أن لكل نفس ظلمتْ ما في الأرض} واقعة موقع شرط (لو).
و: {ما في الأرض} اسم (أن).
و: {ولكل نفس} خبر (أن) وقدم على الاسم للاهتمام بما فيه من العموم بحيث ينص على أنه لا تسلم نفس من ذلك.
وجملة: {ظلمت} صفة لِ: {لنفس}.
وجملة: {لافتدت به} جواب (لو).
فعموم: {كل نفس} يشمل نفوس المخاطبين مع غيرهم.
ومعنى: {ظلمت} أشركت، وهو ظلم النفس: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
و: {ما في الأرض} يعم كل شيء في ظاهر الأرض وباطنها لأن الظرفية ظرفية جمع واحتواء.
و(افتدى) مرادف فدى.
وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها به.
جملة مستأنفة معطوفة عطف كلام على كلام.
وضمير: {أسروا} عائد إلى: {كل نفس} باعتبار المعنى مع تغليب المذكر على المؤنث، وعبر عن الإسرار المستقبَلي بلفظ الماضي تنبيهًا على تحقيق وقوعه حتى كأنَّه قد مضى، والمعنى: وسيسرُّون الندامة قطعًا.
وكذلك قوله: {وقُضيَ بينهم}.
والندامة: الندم، وهو أسف يحصل في النفس على تفويت شيء ممكن عمله في الماضي، والندم من هواجس النفس، فهو أمر غير ظاهر ولكنه كثير، أي يصدر عن صاحبه قولٌ أو فعل يدل عليه، فإذا تجلد صاحب الندم فلم يظهر قولًا ولا فعلًا فقد أسر الندامة، أي قصرها على سِره فلم يظهرها بإظهار بعض آثارها، وإنما يكون ذلك من شدة الهول؛ فإنما أسروا الندامة لأنهم دهشوا لرؤية ما لم يكونوا يحتسبون فلم يطيقوا صراخًا ولا عويلًا.
وجملة: {وقُضي بينهم} عطف على جملة: {وأسروا} مستأنفة.
ومعنى: {قضي بينهم} قضي فيهم، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل، فالقضاء بالعدل وقع فيهم، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد، بخلاف قوله تعالى: {فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} [يونس: 47] فإن ذلك قضاء بين المرسل إليهم وبين الرسل كما قال تعالى: {فلنَسألنَّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف: 6، 7].
وجملة: {وهم لا يظلمون} حالية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ}
وساعة ياتي العذاب فالإنسان يرغب في الفرار منه، ولو بالافتداء.
وانظر كيف يحاول الإنسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه، حتى ولو كان يملك كل ما في السموات وما في الأرض.
ولكن هل يتأتى لأحد غير الله سبحانه أن يملك السموات والأرض؟
طبعًا لا.
إذن: فالشر لا يتأتَّى. وهَبْ أنه تأتَّى، فلن يصلح الافتداء بملك ما في السموات وما في الأرض؛ لأن الإنسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير، وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه الظالم منه، والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره، ولو صحَّ ذلك لتحوَّل البعض إلى مغتصبِين لحقوق الغير، ولأخذوا عرق وكدح غيرهم، ولتعطلت حركة الحياة.
ولذلك إن لم يردع الله سبحانه وتعالى الظالم في الدنيا قبل الآخرة لاستشرى الظلم، وإذا استشرى الظلم في مجتمع، فالبطالة تنتشر فيه، ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره، وبهذا يختلّ ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها.
وهَبْ أن الظالم أخذ مُلْك الدنيا كلها، وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب، ويفاجأ بأن كسبه من حرام لا يُقْبَل فداءً، أليس هذا هو الخسران الكبير؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس.
وهَبْ أن واحدًا ارتشى أو اختلس أو سرق، ويفاجئه القانون ليمسكه من تلابيبه فيقول: خذوا ما عندي واتركوني. ولن يقبل القائمون على القانون ذلك. وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في (الجمارك) فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الإفراج عنه، هذا ما يحدث في الدنيا، لكنه لن يحدث في الآخرة.
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48].
وقال الحق سبحانه في آية أخرى: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123].
وقال بعض المشككين أن الآيتين متشابهتان، ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الأخرى في التقديم للعدل، والتأخير للشفاعة.
والبلاغة الحقَّة تتجلَّى في الآيتين؛ لأن القارئ لصَدْر كل آية منهما، والفاهم للمَلَكه اللغوية العربية أن عَجُز كل آية يناسب صدرها.