فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

الفرق بين فرح القلب وفرح النفس ظاهر فإن الفرح بالله ومعرفته ومحبته وكلامه من القلب قال تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} فإذا كان أهل الكتاب يفرحون بالوحي فأولياء الله وأتباع رسوله أحق بالفرح به وقال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} وقال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} قال أبو سعيد الخدري فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله وقال هلال بن يساف فضل الله ورحمته الإسلام الذي هداكم إليه والقرآن الذي علمكم هو خير من الذهب والفضة الذي تجمعون وقال ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور المفسرين فضل الله الإسلام ورحمته القرآن فهذا فرح القلب وهو من الإيمان ويثاب عليه العبد فإن فرحه به يدل على رضاه به بل هو فوق الرضا فالفرح بذلك على قدر محبته فإن الفرح إنما يكون بالظفر بالمحبوب وعلى قدر محبته يفرح بحصوله له فالفرح بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنته وكلامه محض الإيمان وصفوته ولبه وله عبودية عجيبة وأثر القلب لا يعبر عنه فابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضل ما يعطاه بل هو جل عطاياه والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبته في الدنيا فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبة وضعفها فهذا شأن فرح القلب وله فرح آخر وهو فرحه بما من الله به عليه علمه من معاملته والإخلاص له والتوكل عليه والثقة به وخوفه ورجائه به وكلما تمكن في ذلك قوى فرحه وابتهاجه وله فرحة أخرى عظيمة الوقع عجيبة الشأن وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة فلو علم المعاصي إن لذة التوبة وفرحتها يزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.
وسر هذا الفرح إنما يعلمه من علم سر فرح الرب تعالى بتوبة عبده أشد فرح يقدر ولقد ضرب له رسول مثلا ليس في أنواع الفرح في الدنيا أعظم منه وهو فرح رجل قد خرج براحته التي عليها طعامه وشرابه في سفر ففقدها في أرض دوية مهلكة فاجتهد في طلبها فلم يجدها فيئس منه فجلس ينتظر الموت حتى إذا طلع البدر رأي في ضوئه راحلته وقد تعلق زمامها بشجر فقال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته.
فلا ينكر أن يحصل للتائب نصيب وافر من الفرح بالتوبة ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحات! ومضض ومحن لا تثبت لها الجبال فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح وإن ضعف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء وآخر أمره فوات ما آثره من فرحة المعصية ولذتها فيفوته الأمران ويحصل على ضد اللذة من الألم المركب من وجود المؤذي وفوت المحبوب {فالحكم لله العلي الكبير}.
فصل وهاهنا فرحة أعظم من هذا كله وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله إذا أرسل إليه الملائكة فبشروه بلقائه وقال له ملك الموت أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب ابشري بروح وريحان ورب غير غضبان اخرجي راضية مرضيا عنك يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمر بآيثارها فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح منها الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه ومنه فتح أبوب السماء لها وصلاة ملائكة السماء عليها وتشييع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح ويصلي عليها أهلها وشيعها مقربوها هكذا إلى السماء السابعة فكيف يقدر فرحها استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت ثم سمعته سبحانه يقول اكتبوا كتابه في غلبين ثم يذهب به فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعد الله له ويلقي أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله فيجدهم على أحسن حال ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر هذا كله قبل الفرج الأكبر يوم حشر الأجساد بجلوسه في ظل العرش وشربه من الحوض وأخذه كتابه بيمينه وثقل ميزانه وبياض وجهه وإعطائه النور التام والناس في الظلمة وقطعه جسر جهنم بلا تعويق وانتهائه إلى باب الجنة وقد أزلفت له في لموقف وتلقي خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يقدر قدره ولا يعبر عنه تتلاشى هذه الأفراح كلها عنده وإنما يكون هذا لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم وسلامه عليهم وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم.
وليست هذه الفرحات إلا ** لذى الترحات في دار الرزايا

فشمر ما استطعت الساق واجهد ** لعلك أن تفوز بذي العطايا

وصم عن لذة حشيت بلاء ** الذات خلصن من البلايا

ودع أمنية إن لم تنلها ** تعذب أو تنل كانت منايا

ولا تستبط وعدا من رسول ** أتى بالحق من رب البرايا

فهذا الوعد أدنى من نعيم ** مضى بالأمس لو وفقت رايا

.اهـ.

.فصل في منزلة السرور:

قال ابن القيم:
باب السرور قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
تصدير الباب بهذه الآية في غاية الحسن فإن الله تعالى أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته وذلك تبع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم محسن بر يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى ونذكر ما في هذه الآية من المعنى ثم نشرح كلام المصنف قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم فضل الله الإسلام ورحمته القرآن فجعلوا رحمته أخص من فضله فإن فضله الخاص عام على أهل الإسلام ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض فجعلهم مسلمين بفضله وأنزل إليهم كتابه برحمته قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله قلت يريد بذلك أن هاهنا أمرين: أحدهما الفضل في نفسه والثاني استعداد المحل لقبوله كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له والله أعلم والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى فيتولد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى الحزن والغم وذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة فأخبر سبحانه أن ما آتى عباده من الموعظة التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل والظلمة والغي والسفه وهو أشد ألما لها من أدواء البدن ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا فهناك يحضرها كل مؤلم محزن وما آتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة وتدفع عنها كل شر ومؤلم فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به لا ما يجمع أهل الدنيا منها فإنه ليس بموضع للفرح لأنه عرضة للآفات ووشيك الزوال ووخيم العاقبة وهو طيف خيال زار الصب في المنام ثم انقضى المنام وولى الطيف وأعقب مزاره الهجران وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين مطلق ومقيد.
فالمطلق جاء في الذم كقوله تعالى: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} والمقيد نوعان أيضا مقيد بالدنيا ينسي صاحبه فضل الله ومنته فهو مذموم كقوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} والثاني مقيد بفضل الله وبرحمته وهو نوعان أيضا فضل ورحمة بالسبب وفضل بالمسبب فالأول كقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} والثاني كقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فالفرح بالله وبرسوله وبالإيمان وبالسنة وبالعلم وبالقرآن من أعلى مقامات العارفين قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له ولا يحزنه فواته فالفرح تابع للمحبة والرغبة والفرق بينه وبين الاستبشار أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِم} والفرح صفة كمال ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها والمقصود أن الفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته والفرح والسرور نعيمه والهم والحزن عذابه والفرح بالشيء فوق الرضى به فإن الرضى طمأنينة وسكون وانشراح والفرح لذة وبهجة وسرور فكل فرح راض وليس كل راض فرحا ولهذا كان الفرح ضد الحزن والرضى ضد السخط والحزن يؤلم صاحبه والسخط لا يؤلمه إلا إن كان مع العجز عن الانتقام والله أعلم.
قال صاحب المنازل:
السرور اسم لاستبشار جامع وهو أصفى من الفرح لأن الأفراح ربما شانه الأحزان ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع وورد السرور في موضعين من القرآن في حال الآخرة السرور والمسرة مصدر سره سرورا ومسرة وكأن معنى سره أثر في أسارير وجهه فإنه تبرق منه أسارير الوجه كما قال شاعر العرب:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل

وهذا كما يقال رأسه إذا أصاب رأسه وبطنه وظهره إذا أصاب بطنه وظهره وأمه إذا أصاب أم رأسه وأما الاستبشار فهو استعفال من البشرى والبشارة هي أول خبر صادق سار والبشرى يراد بها أمران أحدهما بشارة المخبر والثاني سرور المخبر قال الله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فسرت البشرى بهذا وهذا ففي حديث عبادة بن الصامت وأبي الدرداء رضي الله عنهما عن النبي صلى اله عليه وسلم: «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» وقال ابن عباس بشرى الحياة الدنيا هي عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله وفي الآخرة عند خروج نفس المؤمن إذا خرجت يعرجون بها إلى الله تزف كما تزف العروس تبشر برضوان الله.
وقال الحسن هي الجنة واختاره الزجاج والفراء وفسرت بشرى الدنيا بالثناء الحسن يجري له على ألسنة الناس وكل ذلك صحيح فالثناء من البشرى والرؤيا الصالحة من البشرى وتبشير الملائكة له عند الموت من البشرى والجنة من أعظم البشرى قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} وقال تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} قيل وسميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه ولذلك كانت نوعين بشرى سارة تؤثر فيه نضارة وبهجة وبشرى محزنة تؤثر فيه بسورا وعبوسا ولكن إذا أطلقت كانت للسرور وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به قوله هو أصفى من الفرح واحتج على ذلك بأن الأفراح ربما شابها أحزان أي ربما مازجها ضدها بخلاف السرور فيقال والمسرات ربما شابها أنكاد وأحزان فلا فرق قوله ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع يريد أن الله تعالى نسب الفرح إلى أحوال الدنيا في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} وفي قوله تعالى: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} فإن الدنيا لا تتخلص أفراحها من أحزانها وأتراحها البتة بل ما من فرحة إلا ومعها ترحة سابقة أو مقارنة أو لاحقة ولا تتجرد الفرحة بل لابد من ترحة تقارنها ولكن قد تقوى الفرحة على الحزن فينغمر حكمه وألمه مع وجودها وبالعكس فيقال ولقد نزل القرآن أيضا بالفرح في أمور الآخرة في مواضع كقوله تعالى: {فرحين بما آتاهم الله من فضله} وقوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فلا فرق بينهما من هذا الوجه الذي ذكره قوله وورد اسم السرور في القرآن في موضعين في حال الآخرة يريد بهما قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} والموضع الثاني قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} فيقال وورد السرور في أحوال الدنيا في موضع على وجه الذم كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} فقد رأيت ورود كل واحد من الفرح والسرور في القرآن بالنسبة إلى أحوال الدنيا وأحوال الآخرة فلا يظهر ما ذكره من الترجيح بل قد يقال الترجيح للفرح لأن الرب تبارك وتعالى يوصف به ويطلق عليه اسمه دون السرور فدل على أن معناه أكمل من معنى السرور وأمر الله به في قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} وأثنى على السعداء به في قوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وأما قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} وقوله: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} فعدل إلى لفظ السرور لاتفاق رؤوس الآي ولو أنه ترجم الباب بباب الفرح لكان أشد مطابقة للآية التي استشهد بها والأمر في ذلك قريب فالمقصود أمر وراء ذلك قال وهو في هذا الباب على ثلاث درجات الدرجة الأولى سرور ذوق ذهب بثلاثة أحزان حزن أورثه خوف الانقطاع وحزن هاجته ظلمة الجهل وحزن بعثته وحشة التفرق لما كان السرور ضد الحزن والحزن لا يجامعه كان مذهبا له ولما كان سببه ذوق الشيء السار فإنه كلما مان الذوق أتم كان السرور به أكمل وهذا السرور يذهب ثلاثة أحزان الحزن الأول حزن أورثه خوف انقطاع وهذا حزن المتخلفين عن ركب المحبين ووفد المحبة فأهل الانقطاع هم المتخلفون عن صحبة هذا الركب وهذا الوفد وهم الذين كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فثبط عزائمهم وهممهم أن تسير إليه وإلى جنته وأمر قلوبهم أمرا كونيا قدريا أن تقعد مع القاعدين المتخلفين عن السعي إلى محغابه فلو عانيت قلوبهم حين أمرت بالقعود عن مرافقة الوفد وقد غمرتها الهموم وعقدت عليها سحائب البلاء فأحضرت كل حزن وغم وأمواج القلق والحسرات تتقاذف بها وقد غابت عنها المسرات ونابت عنها الأحزان لعلمت أن الأبرار في هذه الدار في نعيم وأن المتخلفين عن رفقتهم في جحيم وهذا الحزن يذهب به ذوق طعم الإيمان فيذيق الصديق طعم الوعد الذي وعد به على لسان الرسول فلا يعقله ظن ولا يقطعه أمل ولا تعوقه أمنية كما تقدم فيباشر قلبه حقيقة قوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} وقوله تعالى: {يا أيها الناس اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وقوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وأمثال هذه الآيات قوله وحزن هاجته ظلمة الجهل وهذا الحزن الثاني الذي يذهب سرور الذوق هو حزن ظلمة الجهل والجهل نوعان جهل علم ومعرفة وهو مراد الشيخ هاهنا وجهل عمل وغي وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة وقد سمى الله سبحانه وتعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة وسمى ضده ظلمة وموتا وضلالا قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فجعله روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح ونورا لما يحصل به من الهدى والرشاد ومثل هذا النور في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ومثل حال من فقد هذا النور بمن هو في ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور الحزن الثالث حزن بعثته وحشة التفرق وهو تفرق الهم والقلب عن الله عز وجل ولهذا التفرق حزن ممض على فوات جمعية القلب على الله ولذاتها ونعيمها فلو فرضت لذات أهل الدنيا بأجمعها حاصلة لرجل لم يكن لها نسبة إلى لذة جمعية قلبه على الله وفرحه به وأنسه بقربه وشوقه إلى لقائه وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك ولله در القائل.