فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ}
قال قتادة ومقاتل: وذلك أنَّ حييَّ بْنَ أخْطَبَ حين قدم مكة قال للنبي صلى الله عليه وسلم أحق هذا العذاب؟ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِى وَرَبّى}، يعني: إي والله إنَّه لكائن.
ويقال: معناه ويسألونك عن البعث أحق هو؟ ويسألونك عن دينك أحق هو؟: {قُلْ إِى وَرَبّى}، يعني قل: يا محمَّد نعم: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} يعني: العذاب نازل بكم إن لم تؤمنوا: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين من العذاب حتَّى يخزيكم به، ثم أخبر عن حالهم حين نزل بهم العذاب.
فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} يعني: كفرت، وأشركت بالله تعالى، لو كان لها: {مَا في الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} يعني: النَّفس لافتدت من سوء العذاب، ولا يُقبَل منها.
{وَأَسَرُّواْ الندامة} يعني: أخفوا النَّدامة يعني: القادةُ من السَّفلة،: {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} حين نزل بهم العذاب.
{وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط} بين القادة والسفلة بالعدل، ويقال: قضي بينهم، يعني: بين الخلق بالعدل، فيعطي ثوابهم على قدر أعمالهم.
ويقال: يقضي بين الكفَّار بالعدل، وبين المؤمنين بالفضل.
ثم قال: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يعني: لا يُنْقَصُونَ من ثواب أعمالهم شيئًا، ثمَّ بيَّن استغناءه عن عبادة الخلق وقدرته عليهم، فقال: {أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السموات والأرض} يعني: كلُّهم عبيده وإماؤه، وهو قادر عليهم.
ويقال: كلُّ شيء يدلُّ على توحيده، وأنَّ له صانعًا.
{أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} يعني: البعث بعد الموت هو كائن.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني: لا يُصدِّقون به.
ثم قال تعالى: {هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم.
قوله تعالى: {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} يعني: يا أهل مكَّة، ويقال: جميع النَّاس،: {قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} يعني: نهيًا من ربِّكم عن الشِّرك على لسان نبيِّكم،: {وَشِفَاء لِمَا في الصدور} يعني: القرآن شفاء للقلوب من الشِّرك.
ويقال: شفاء من العمى؛ لأن فيه بيان الحلال والحرام: {وهدى} من الضّلالة، ويقال: صوابًا، وبيانًا: {وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} يعني: القرآن نعمة الله على المؤمنين، نعمة من العذاب لِمَنْ آمن، وعمل بما فيه.
قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله}، يعني: قل يا مُحمَّد للمؤمنين بفضل الله، والإسلام: {وَبِرَحْمَتِهِ} القرآن.
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال: بفضل الله، يعني: القرآن، وبرحمته الإسلام، يعني: بنعمته عليكم إذ أكرمكم بالإسلام، والقرآن.
وهكذا قال أبو سعيد الخِدْرِيّ.
وقال الضَّحَّاك، ومجاهد: بفضل الله: القرآن؛ وبرحمته: الإسلام.
وقال مقاتل: بفضل الله: الإسلام، وبرحمته: القرآن.
وعن الحسن مثله.
وقال القُتَبِيّ مثله.
قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} يعني: بالقرآن والإيمان: {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من الأموال.
قرأ ابن عامر: {فَبِذَلِكَ} بالتاء كلاهما على معنى المخاطبة وقرأ الباقون: {مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} بالياء، على معنى المغايبة.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ}
في الكتاب، ويقال: من السَّماء، ويقال: ما أعطاكم الله من الرِّزق، والحرث، والأنعام، والبحيرة، والسَّائبة.
وبَيَّنَ في كتابه تحليلها.
{فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا} حرامًا على النساء، وحلالًا على الرجال: {قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ} يعني: الله عزّ وجل أمركم بتحريمه وتحليله؟: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} يعني: بل على الله تفترون، يعني: تختلقون على الله كذبًا ما لم يقله، ولم يأمر به.
فقال: {قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ}؟ فقالوا: بلى، أمرنا بها، قال الله تعالى: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ}، بل على الله تختلقون.
ثم قال تعالى: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} يعني: وما ظنُّهم حين ينزل بهم العذاب: {يَوْمُ القيامة}؟ وكيف ينجون منه؟: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} لذو مَنَ على النَّاس، بتأخير العذاب عنهم،: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} نعمة الله تعالى عليهم، بتأخير العذاب عنهم.
قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ}، أي: وما تكون يا مُحَمَّدُ في أمر من الأمور،: {وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا} وما تقرأ من الله من قرآن، ممَّا أوحي إليك.
فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخاطب أمته أيضًا، فقال: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} يعني: عالمًا بكم، وبأعمالكم، فلا تنسوه.
ويقال: إلاّ جعل عليكم شاهدًا من الملائكة، وهم الحفظة: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يعني: حين تأخذون في قراءة القرآن.
ويقال: حين تخوضون فيه.
{وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ} قرأ الكِسَائِيُّ: {وَمَا يَعْزُبُ} بكسر الزَّاي.
وقرأ الباقون: بالضَّم، وهما لغتان جيدتان.
وهكذا ذُكِرَ عن الفَرَّاءِ.
يعني: وما يغيب: {عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ} قال الكَلْبِيّ: وهي النَّملة الحُمَيْرَاءُ.
وقال مقاتل: أصغر نملة في الأرض.
ويقال: الذَّر ما يُرَى من شعاع الشَّمس، والمثقال عبارة عن الوزن.
يعني: لا يغيب عنه وزن الذَّرَّة: {فِي الأرض وَلاَ في السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك} يعني: ولا أخف من وزن الذَّرَّة: {وَلا أَكْبَرَ}، يعني: ولا أثقل من وزن الذَّرَّة.
ويقال: لا أقلَّ منه، ولا أعظم،: {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ}.
يعني: مكتوبًا في اللَّوح المحفوظ.
قرأ حمزة: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ} بضمِّ الرَّاءين.
ومعناه: ولا يغيب عنه أصغر من ذلك، ولا أكبر منه، فيصير رفعًا لأنه فاعل.
وقرأ الباقون بالنَّصب، لأن معناه: ولا يغيب عنه بمثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء، ولا بمثقال ذرَّة أصغر من ذلك.
فموضعه خَفْضٌ، إلاّ أنّه لا ينصرف فصار نصبًا. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي مَوْضُوعِ تَشْرِيعِ الْقُرْآنِ الْعَمَلِيِّ التَّهْذِيبِيِّ جَاءَ بَعْدَ بَيَانِ عَقَائِدِهِ الثَّلَاثِ: (التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ) وَتَأْيِيدِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، وَقَدْ أَجْمَلَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى فِي جَمِيعِ مَقَاصِدِ هَذَا التَّشْرِيعِ وَإِصْلَاحِهِ لِلنَّاسِ بِمَا يُظْهِرُ بِهِ لِلْعَاقِلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَخَيْرٌ وَصَلَاحٌ بِذَاتِهِ لَا يَصِحُّ لِعَاقِلٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ، وَلَا أَنْ يَحْتَاجَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ لِإِصْلَاحِ أَخْلَاقِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الظَّاهِرَةِ، وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ لِإِصْلَاحِ خَفَايَا أَنْفُسِكُمْ وَشِفَاءِ أَمْرَاضِهَا الْبَاطِنَةِ، وَهِدَايَةٌ وَاضِحَةٌ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوَصِّلِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحْمَةٌ خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ هِيَ شَجْنَةٌ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، يَتَرَاحَمُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَتَكْمُلُ بِهَا رَحْمَتُهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالِمِينَ بِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ وَبِهِمْ، وَقَدْ عَرَفَ هَذَا مِنْ تَارِيخِهِمْ أَشْهَرُ فَلَاسِفَةِ التَّارِيخِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ: (مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ) فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلنَّاسِ، بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ لِلْقُرْآنِ. فَمَا بَالُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا مِنْ أَخْبَارِ هَذَا الْكِتَابِ، الَّتِي هِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَآلِ وَالْمَآبِ، وَلَا تُفَكِّرُونَ فِي آدَابِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَهِدَايَةِ نَوَامِيسِهِ وَسُنَنِهِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، الَّتِي لَا يُمَارِي فِيهَا عَالِمٌ وَلَا يُكَابِرُ فِيهَا عَاقِلٌ؟ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّ أَعْدَاءِ الرَّسُولِ إِيذَاءً لَهُ وَصَدًّا عَنْ دَعْوَتِهِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا الطَّعْنَ عَلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ، وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالشُّرُورِ وَالْفُجُورِ، كَأَبِي سُفْيَانَ عِنْدَمَا سَأَلَهُ هِرَقْلُ قَيْصَرُ الرُّومِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَمَا سَأَلَهُ أَصْحَمَةُ نَجَاشِيُّ الْحَبَشَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْجَاحِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ تَعْمِيمِ نَشْرِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ، وَقَبْلَ ظُهُورِ مَا كَانَ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ الْعَظِيمِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَرَبِ، وَمِنَ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ فِي شُعُوبِ الْعَجَمِ، أَفَلَيْسَ مِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ أَنْ يُمَارِيَ بِهِ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُصَدِّقُ مَا يَفْتَرِيهِ عَلَيْهِ دُعَاةُ الْكَنِيسَةِ وَرِجَالُ السِّيَاسَةِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَتَلَامِيذُهُمْ وَهُمْ أَكْذَبُ الْبَشَرِ؟!.
أَجْمَلَتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هَذَا الْإِصْلَاحَ الْقُرْآنِيَّ لِأَنْفُسِ الْبَشَرِ فِي أَرْبَعِ قَضَايَا أَوْ مَسَائِلَ نُكِّرْنَ فِي اللَّفْظِ لِتَعْظِيمِ أَمْرِهِنَّ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُنَّ نَوْعٌ خَاصٌّ لَمْ يَعْهَدِ النَّاسُ مِثْلَهُنَّ، فِي كَمَالِهِنَّ الْمَعْنَوِيِّ وَبَيَانِهِنَّ اللَّفْظِيِّ، وَقَوْلُهُ: {مِنْ رَبِّكُمْ} لِلتَّذْكِيرِ بِمَا يَزِيدُهَا تَعْظِيمًا، وَوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِهَا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَالِكِ أَمْرِ النَّاسِ وَمُرَبِّيهِمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
(الْأُولَى: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ) وَهِي اسْمٌ مِنَ الْوَعْظِ أَيِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَاجْتِنَابُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، بِأَسَالِيبِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ الَّتِي يَرِقُّ لَهَا الْقَلْبُ، فَتَبْعَثُ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} (2: 231)
الْآيَةَ، وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2: 232) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا وَالْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (3: 137 و138) وَيَلِيهِ الْكَلَامُ فِي الْجِهَادِ وَغَزْوَةِ أُحُدٍ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [4: 58] الآية، وَتَقَدَّمَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ وَسَيَأْتِي غَيْرُهُ مِمَّا يُفَسِّرُ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَوْعِظَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَارَى عَاقِلَانِ فِي حُسْنِهَا وَمَنْفَعَتِهَا لِلْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ؟ كَلَّا إِنَّهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
(الثَّانِيَةُ: شِفَاءُ مَا فِي الصُّدُورِ) أَيْ شِفَاءُ جَمِيعِ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَدْوَاءِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَسَائِرِ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَشْعُرُ صَاحِبُهَا ذُو الضَّمِيرِ الْحَيِّ بِضِيقِ الصَّدْرِ، مِنْ شَكٍّ فِي الْإِيمَانِ، وَمُخَالَفَةٍ لِلْوِجْدَانِ، وَإِضْمَارٍ لِلْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَحُبٍّ لِلْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالشَّرِّ، وَبُغْضٍ لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ حَيْثُمَا ذَكَرَ اللهُ الْقَلْبَ فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ نَحْوُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (50: 37) وَحَيْثُمَا ذَكَرَ الصَّدْرَ فَإِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ وَإِلَى سَائِرِ الْقُوَى مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى وَالْغَضَبِ وَنَحْوِهَا، وَقَوْلُهُ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (20: 25) فَسُؤَالُ الْإِصْلَاحِ قَوَّاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (9: 14) إِشَارَةٌ إِلَى اشْتِفَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (22: 46) أَيِ الْعُقُولُ الَّتِي هِيَ مُنْدَسَّةٌ فِيمَا بَيْنَ سَائِرِ الْقُوَى وَلَيْسَتْ مُهْتَدِيَةً وَاللهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الصَّدْرَ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْقَلْبِ الْحِسِّيِّ الَّذِي فِيهِ وَعِلَاقَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْقَلْبِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ لِلنَّفْسِ كَالْقَلْبِ الْحِسِّيِّ لِلْبَدَنِ لِأَنَّهُ لُبُّهَا، وَمَرْكَزُ شُعُورِ مَدَارِكِهَا وَانْفِعَالَاتِهَا، دُونَ الدِّمَاغِ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَشْعُرُ بِمَا يَنْطَبِعُ فِيهِ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ مِنَ انْشِرَاحٍ وَبَسْطٍ وَحَرَجٍ وَضِيقٍ وَقَبْضٍ، فَجَمِيعُ الْإِدْرَاكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْوِجْدَانِيَّةِ تُوصَفُ بِهَا الْقُلُوبُ حَقِيقَةً وَالصُّدُورُ مَجَازًا، وَتَكُونُ فَاعِلَةً وَمُفَعْوِلَةً وَصَفَاتٍ لِلْأَفْعَالِ الْعَامِلَةِ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْعَقْلُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْحَكَمُ الصَّحِيحُ فِي بَعْضِ الْإِدْرَاكَاتِ وَلَوَازِمِهَا مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَصَلَاحٍ وَفَسَادٍ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَمَرْكَزُهُ الدِّمَاغُ قَطْعًا، فَأَمْرَاضُ الصُّدُورِ وَالْقُلُوبِ تَشْمَلُ الْجَهْلَ وَسُوءَ الظَّنِّ، وَالشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقَ، وَالْحِقْدَ وَالضَّغَنَ وَالْحَسَدَ، وَسُوءَ النِّيَّةِ وَخُبْثَ الطَّوِيَّةِ وَفَسَادَ السَّرِيرَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.