فصل: من فوائد الألوسي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} وهو على الشائع عطف على {نِعْمَتِيَ} [البقرة: 47].
بتقدير: اذكروا كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو اتقوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا، وقرئ: {أنجيناكم} و{أنجيتكم} ونسبت الأول للنخعي، والآل قيل: بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء، وإن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب، فألفه بدل من واو، ولذلك قال يونس في تصغيره: أويل، ونقله الكسائي نصًا عن العرب، وروي عن أبي عمر غلام ثغلب إن الأهل القرابة كان لها تابع أولًا، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل، وقد خصوه أيضًا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم، فلا يقال آل الكوفة، ولا آل الحجام وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال آل فاطمة ولعل كل ذلك أكثري وإلا فقد ورد على خلاف ذلك كآل أعوج اسم فرس، وآل المدينة، وآل نعم، وآل الصليب، وآلك ويستعمل غير مضاف كهُم خير آل ويجمع كأهل فيقال آلون: وفرعون لقب لمن ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل: تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا، واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين وقيل: أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير، قيل: قنطوس حكاه مقاتل، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس، وكنيته أبو مرة وكان من القبط، وقيل: من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمم تفرقوا في البلاد، وروي أنه من أهل اصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكًا، وقيل: كان عطارًا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل وحكاية البطيخ شهيرة وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام، وكان اسمه على المشهور الريان بن الوليد، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة، والمراد بآل فرعون هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه، وب أنجيناكم أنجينا آباءكم، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي، وهذا في كلام العرب شائع كقوله حسان:
ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت ** عساكركم في الهالكين تجول

و{يسومونكم} من السوم، وأصله الذهاب للطلب، ويستعمل للذهاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب أخرى، ومنه السوم في البيع، ويقال: سامه كلفه العمل الشاق، والسوء مصدر ساء يسوء، ويراد به السيء، ويستعمل في كل ما يقبح كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق و{سوء العذاب} أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره، وهو منصوب على المفعولية ليسومونكم بإسقاط حرف الجر أو بدونه، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير {نجيناكم} أو {مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} وهو الأقرب، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده، وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدمًا وخولًا، وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمون ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرًا، وجعل النساء يغزلن الكتان، وينسجن.
{يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل: ما الذي ساموهم إياه، فقال: {يُذَبّحُونَ} الخ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى: {يَلْقَ أَثَامًا يضاعف لَهُ العذاب} [الفرقان: 68، 69]، وقيل: بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم، والمحققون على الفرق، وحملوا {سُوء العذاب} فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح، وعطف للتغاير، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5]، وهو يقتضي التعداد، وليس هنا ما يقتضيه، والأبناء الأطفال الذكور، وقيل: إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره، والمشهور حمل الأبناء على الأول، وهو المناسب المتبادر، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 8 3] وقرأ الزهري وابن محيصن: {يُذَبّحُونَ} مخففًا، وعبد الله: {يَقْتُلُونَ} مشددًا {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} عطف على {يُذَبّحُونَ} أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات، وقيل: يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل والحياء الفرج لأنه يستحى من كشفه، والنساء جمع المرأة، وفي البحر إنه جمع تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساءً لخدمتهم، وعلى الثاني فيه تغليب البالغات على الصغائر، وعلى الثالث حقيقة، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.
{وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} إشارة إلى التذبيح والاستحياء، أو إلى الإنجاء، وجمع الضمير للمخاطبين، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا فإن حملت الإشارة على المعنى الأول: فالمراد بالبلاء المحنة، وإن على الثاني: فالمراد به النعمة، وإن على الثالث: فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما، ويرجح الأول: التبادر، والثاني: أنه في معرض الامتنان، والثالث: لطف جمع الترغيب والترهيب؛ ومعنى {مّن رَّبّكُمْ} من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعًا، و{عظيم} صفة {بلاء} وتنكيرهما للتفخيم، والعظم بالنسبة للمخاطب، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئًا.
ومن باب الإشارة: والتأويل: وإذ نجيناكم من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها، والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود، ومصر مدينة البدن المستعبدة، وهي وقواها من الوهم، والخيال، والغضب، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح، والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة، والأعمال الشاقة من جمع المال، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار، والتمتع بدار القرار {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب، والعملية التي هي العين اليسرى له، والفهم الذي هو سمعه، والسر الذي هو قلبه {وَيَسْتَحْيُونَ} [البقرة: 49] قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها.
وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربّكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ} الآية.
عطف على قوله: {نعمتي} [البقرة: 47] فيُجْعل {إذ} مفعولًا به كما هو في قوله تعالى: {واذكروا إذ كنتم قليلًا فكثركم} [الأعراف: 86] فهو هنا اسم زمان غير ظرف لفعل والتقدير اذكروا وقت نجيناكم، ولما غلبت إضافة أسماء الزمان إلى الجمل وكان معنى الجملة بعدها في معنى المصدر وكان التقدير اذكروا وقت إنجائنا إياكم، وفائدة العدول عن الإتيان بالمصدر الصريح لأن في الإتيان بإذ المقتضية للجملة استحضارًا للتكوين العجيب المستفاد من هيئة الفعل لأن الذهن إذا تصور المصدر لم يتصور إلا معنى الحدث وإذا سمع الجملة الدالة عليه تصور حدوث الفعل وفاعله ومفعوله ومتعلقاته دفعة واحدة فنشأت من ذلك صورة عجيبة، فوزان الإتيان بالمصدر وزان الاستعارة المفردة، وزان الإتيان بالفعل وزان الاستعارة التمثيلية، وليس هو عطفًا على جملة {اذكروا} [البقرة: 47] كما وقع في بعض التفاسير لأن ذلك يجعل {إذ} ظرفًا فيطلب متعلقًا وهو ليس بموجود، ولا يفيده حرف العطف لأن العاطف في عطف الجمل لا يفيد سوى التشريك في حكم الجملة المعطوف عليها، وليس نائبًا مناب عامل، ولا يريبك الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه أعني {وإذ نجيناكم} بجملة {واتقوا يومًا} [البقرة: 48] فتظنه ملجأ لاعتبار العطف على الجملة لما علمت فيما تقدم أن قوله: {واتقوا} ناشئ عن التذكير فهو من علائق الكلام وليس بأجنبي، على أنه ليس في كلام النحاة ما يقتضي امتناع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي فإن المتعاطفين ليسا بمرتبة الاتصال كالعامل والمعمول، وعُدي فعل {أنجينا} إلى ضمير المخاطبين مع أن التنجية إنما كانت تنجية أسلافهم لأن تنجية أسلافهم تنجية للخلف فإنه لو بقي أسلافهم في عذاب فرعون لكان ذلك لاحقًا لأخلافهم فذلك كانت منة النتجية منتين: منة على السلف ومنة على الخلف فوجب شكرها على كل جيل منهم ولذلك أوجبت عليهم شريعتهم الاحتفال بما يقابل أيام النعمة عليهم من أيام كل سنة وهي أعيادهم وقد قال الله لموسى: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5].
وآل الرجل أهله.
وأصل آل أهل قلبت هاؤه همزة تخفيفًا ليتوصل بذلك إلى تسهيل الهمزة مدًا.
والدليل على أن أصله أهل رجوع الهاء في التصغير إذ قالوا: أهيل ولم يسمع أُويل خلافًا للكسائي.
والأهل والآل يراد به الأقارب والعشيرة والموالي وخاصة الإنسان وأتباعه.
والمراد من آل فرعون وَزَعَته ووكلاؤه، ويختص الآل بالإضافة إلى ذي شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا يقال آل الجاني ولا آل مكة، ولما كان فرعون في الدنيا عظيمًا وكان الخطاب متعلقًا بنجاة دنيوية من عظيم في الدنيا أطلق على أتباعه آل فلا توقف في ذلك حتى يحتاج لتأويله بقصد التهكم كما أول قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46] لأن ذلك حكاية لكلام يقال يوم القيامة وفرعون يومئذ محقر، هلك عنه سلطانه.
فإن قلت: إن كلمة أهل تطلق أيضًا على قرابة ذي الشرف لأنها الاسم المطلق فلماذا لم يؤت بها هنا حتى لا يطلق على آل فرعون ما فيه تنويه بهم؟ قلت: خصوصية لفظ آل هنا أن المقام لتعظيم النعمة وتوفير حق الشكر والنعمة تعظيم بما يحف بها فالنجاة من العذاب وإن كانت نعمة مطلقًا إلا أن كون النجاة من عذاب ذي قدرة ومكانة أعظم لأنه لا يكاد ينفلت منه أحد.
ولا قرار على زأر من الأسد

وإنما جعلت النجاة من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل تعليقًا للفعل بمن هو من متعلقاته على طريقة الحقيقة العقلية وتنبيهًا على أن هؤلاء الوزعة والمكلفين ببني إسرائيل كانوا يتجاوزون الحد المأمور به في الإعنات على عادة المنفذين فإنهم أقل رحمة وأضيق نفوسًا من ولاة الأمور كما قال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان:
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ** لم يفعلوا مما أمرت فتيلًا

جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليه السلام في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوه، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين والهكصوص في سنة 3300 أو سنة 1900 قبل المسيح على خلاف ناشئ عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة 1700ق م عند ظهور العائلة الثامنة عشرة، فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي، واسم فرعون يومئذ أبو فيس أو أبيبي وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريّان بن الوليد وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة 1739 قبل ميلاد المسيح، ثم كانت سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف وصار بيده حكم المملكة المصرية السفلى.
وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمنًا طويلًا غير أن الإسرائيليين قد حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعًا بجهة يقال لها أرض جاسان ومكث الإسرائيليون على ذلك نحوًا من أربعمائة سنة تغلب في خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة التاسعة عشرة وملك ملوكها جميع البلاد المصرية ونبغ فيهم رعمسيس الثاني الملقب بالأكبر في حدود سنة 1311 قبل المسيح وكان محاربًا باسلًا وثارت في وجهه الممالك التي أخضعها أبوه ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب، فحدثت أسباب أو سوء ظنون أوجبت تنكر القبط على الإسرائيليين وكلفوهم أشق الأعمال وسخروهم في خدمة المزارع والمباني وصنع الآجر.
وتقول التوراة إنهم بنوا لفرعون مدينة مخازن فيثوم ومدينة رعمسيس ثم خشي فرعون أن يكون الإسرائيليون أعوانًا لأعدائه عليه فأمر باستئصالهم وكأنه اطلع على مساعدة منهم لأبناء نسبهم من العمالقة والعرب فكان يأمر بقتل أبنائهم وسبي نسائهم وتسخير كبارهم ولابد أن يكون ذلك لما رأى منهم من التنكر، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم فرعون أنه إن اختلطت جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين فأمر باستئصالهم.
وأما ما يحكيه القصاصون أن فرعون أخبره كاهن أن ذهاب ملكه يكون على يد فتى من إسرائيل فلا أحسبه صحيحًا إذ يبعد أن يروج مثل هذا على رئيس مملكة فيفنى به فريقًا من رعاياه، اللهم إلا أن يكون الكهنة قد أغروا فرعون باليهود قصدًا لتخليص المملكة من الغرباء أو تفرسوا من بني إسرائيل سوء النوايا فابتكروا ذلك الإنباء الكهنوتي لإقناع فرعون، بوجوب الحذر من الإسرائيليين ولعل ذبح الأبناء كان من فعل المصريين استخفافًا باليهود، فكانوا يقتلون اليهودي في الخصام القليل كما أنبأت بذلك آية: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [القصص: 15] والحاصل أن التاريخ يفيد على الإجمال أن عداوة عظيمة نشأت بين القبط واليهود آلت إلى أن استأصل القبط الإسرائيليين.
ولقد أبدع القرآن في إجمالها إذ كانت تفاصيل إجمالها كثيرة لا يتعلق غرض التذكير ببيانها.
وجملة: {يسومونكم سوء العذاب} حال من {آل فرعون} يحصل بها بيان ما وقع الإنجاء منه وهو العذاب الشديد الذي كان الإسرائيليون يلاقونه من معاملة القبط لهم.
ومعنى {يسومونكم} يعاملونكم معاملة المحقوق بما عومل به يقال سامه خسفًا إذا أذله واحتقره فاستعمل سام في معنى أنال وأعطى ولذلك يعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
وحقيقة سام عرض السوم أي الثمن.
وسوء العذاب أشده وأفظعه وهو عذاب التسخير والإرهاق وتسليط العقاب الشديد بتذبيح الأبناء وسبي النساء والمعنى يذبحون أبناء آبائكم ويستحيون نساء قومكم الأولين.
والمراد من الأبناء قيل أطفال اليهود وقيل: أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار، ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال: إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعًا للنسل ويسبون الأمهات استعبادًا لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج.
وإبقاء الرجال في مثل هاته الحالة أشد من قتلهم.
أو لعل تقصيرًا ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال ومربيات الصغار وكان سببه شغلهن بشئون أبنائهن فكان المستعبِدون لهم إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل.
والاستحياء استفعال يدل على الطلب للحياة أي يبقونهن أحياء أو يطلبون حياتهن.
ووجه ذكره هنا في معرض التذكير بما نالهم من المصائب أن هذا الاستحياء للإناث كان المقصد منه خبيثًا وهو أن يعتدوا على أعراضهن ولا يَجدن بدًا من الإجابة بحكم الأسر والاسترقاق فيكون قوله: {ويستحيون نساءكم} كناية عن استحياء خاص ولذلك أدخل في الإشارة في قوله: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} ولو كان المراد من الاستحياء ظاهره لما كان وجه لعطفه على تلك المصيبة.
وقيل إن الاستحياء من الحياء وهو الفرج أي يفتشون النساء في أرحامهن ليعرفوا هل بهن حمل وهذا بعيد جدًا وأحسن منه أن لو قال إنه كناية كما ذكرنا آنفًا.
وقد حكت التوراة أن فرعون أوصى القوابل بقتل كل مولود ذكر.
وجملة: {يذبحون أبناءكم} إلخ بيان لجملة {يسومونكم سوء العذاب} فيكون المراد من سوء العذاب هنا خصوص التذبيح وما عطف عليه وهو {ويستحيون نساءكم} لما عرفت فكلاهما بيان لسوء العذاب فكان غير ذلك من العذاب لا يعتد به تجاه هذا.
ولك أن تجعل الجملة في موضع بدل البعض تخصيصًا لأعظم أحوال سوء العذاب بالذكر وهذاهو الذي يطابق آية سورة إبراهيم (6) التي ذكر فيها {ويذبحون أبناءكم بالعطف على سوء العذاب} وليس قوله: {ويستحيون} مستأنفًا لإتمام تفصيل صنيع فرعون بل هو من جملة البيان أو البدل للعذاب ويدل لذلك قوله تعالى في الآية الأخرى: {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} [القصص: 4] فعقب الفعلين بقوله: {إنه كان من المفسدين}.
والبلاء الاختبار بالخير والشر قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168] وهو مجاز مشهور حقيقته بلاء الثوب بفتح الباء مع المد وبكسرها مع القصر وهو تخلقه وترهله ولما كان الاختبار يوجب الضجر والتعب سمي بلاء كأنه يُخلق النفس، ثم شاع في اختبار الشر لأنه أكثر إعناتًا للنفس، وأشهر استعماله إذا أطلق أن يكون للشر فإذا أرادوا به الخير احتاجوا إلى قرينة أو تصريح كقول زهير:
جزى الله بالإحساننِ ما فعلا بكم ** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فيطلق غالبًا على المصيبة التي تحل بالعبد لأن بها يختبر مقدار الصبر والأناة والمراد هنا المصيبة بدليل قوله: {عظيم}.
وقيل أراد به الإنجاء والبلاء بمعنى اختبار الشكر وهو بعيد هنا.
وتعلق الإنجاء بالمخاطبين لأن إنجاء سلفهم إنجاء لهم فإنه لو أبقى سلفهم هنالك للحق المخاطبين سوء العذاب وتذبيح الأبناء، أو هو على حذف مضاف أي نجينا آباءكم، أو هو تعبير عن الغائب بضمير الخطاب إما لنكتة استحضار حاله وإما لكون المخاطبين مثالهم وصورتهم فإن ما يثبت من الفضائل لآباء القبيلة يثبت لأعقابهم فالإتيان بضمير المخاطب على خلاف مقتضى الظاهر على حد ما يقال في قوله تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] فالخطاب ليس بالتفات لأن اعتبار أحوال القبائل يعتبر للخلف ما ثبت منه للسلف. اهـ.