فصل: قال السيوطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السيوطي:

السوء يأتي على أوجه:
1- الشدة {يسومونكم سوء العذاب}.
2- والعقر {ولا تمسوها بسوء}.
3- والزنى {ما جزاء من أراد بأهلك سوءا} {ما كان أبوك امرأ سوء}.
4- والبرص {بيضاء من غير سوء}.
5- والعذاب {إن الخزي اليوم والسوء}.
6 والشرك {ما كنا نعمل من سوء}.
7- والشتم {لا يحب الله الجهر بالسوء} {وألسنتهم بالسوء}.
8- والذنب {يعملون السوء بجهالة}.
9- وبمعنى بئس {ولهم سوء الدار}.
10- والضر {ويكشف السوء} {وما مسني السوء}.
11- والقتل والهزيمة {لم يمسسهم سوء}. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
هَذِهِ الْآيَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا وَاللَّوَاتِي بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَى شَعْبِ إِسْرَائِيلَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ مُجْمَلَةً، وَابْتُدِئَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ التَّفْضِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذِكْرِهِ، وَهُوَ نُهُوضُ الْهِمَّةِ إِلَى التَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الرِّضَا بِمَا دُونَ الْمَقَامِ الَّذِي رَفَعَهُمُ اللهُ إِلَيْهِ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ إِلَى آخَرِ مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعُقُوبَاتِ جَزَاءً عَلَى جَرَائِمِهِمْ، وَبِلُطْفِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ وَإِنْجَائِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَتَوْبَتِهِ عَلَيْهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِيُعَرِّفَهُمْ مِقْدَارَ فَضْلِهِ وَعُقُوبَتِهِ مَعًا.
وَالْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ سِلْسِلَةِ الذِّكْرَيَاتِ فَقَوْلُهُ: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} عَطْفُ تَفْصِيلٍ عَلَى الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} أَيْ: نِعَمِيَ الْكَثِيرَةَ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ: وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَفِرْعَوْنُ لَقَبٌ لِمَنْ تَوَلَّى مُلْكَ مِصْرَ قَبْلَ الْبَطَالِسَةِ، وَإِلَهُ خَاصَّتِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى قَوْمِهِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَلَمَّا كَانَتِ التَّنْجِيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ ظُلْمٍ أَوْ شَرٍّ، بَيَّنَ مَا نَجَّاهُمْ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أَيْ: يُكَلِّفُونَكُمْ وَيَبْغُونَكُمْ مَا يَسُوءُكُمْ وَيُذِلُّكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أَيْ: يَقْتُلُونَ ذُكْرَانَ نَسْلِكُمْ، وَيَسْتَبْقُونَ إِنَاثَهُ أَحْيَاءً لِإِضْعَافِكُمْ وَإِذْلَالِكُمُ الْمُفْضِي إِلَى قَطْعِ نَسْلِكُمْ وَإِبَادَتِكُمْ {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أَيْ: وَفِي ذَلِكُمُ الْعَذَابِ وَفِي التَّنْجِيَةِ مِنْهُ- فِي كُلٍّ مِنْهُمَا- بَلَاءٌ وَامْتِحَانٌ عَظِيمٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [7: 168].
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ عِبَارَةِ الْجَلَالِ مَا مِثَالُهُ: خَاطَبَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ لِآبَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى أُمَّةٍ بِعُنْوَانِ أَنَّهَا أُمَّةُ كَذَا، هُوَ إِنْعَامٌ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ مَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مِنْ أَفْرَادِهَا وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ، وَيَصِحُّ الِامْتِنَانُ بِهِ عَلَى اللَّاحِقِينَ مِنْهُمْ وَالسَّابِقِينَ، كَمَا يَصِحُّ الْفَخْرُ بِهِ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ يَخْتَصُّ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ كَلَبُوسٍ يَلْبَسُهُ، أَوْ لَذِيذِ طَعَامٍ يَطْعَمُهُ، يَكُونُ إِنْعَامًا عَلَى الشَّخْصِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ إِنْعَامٌ عَلَى لِسَانِ فُلَانٍ وَلَا عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ، وَلِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَى مُجْتَمَعٍ بِعُنْوَانِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالرَّابِطَةِ الَّتِي رَبَطَتْ أَفْرَادَهُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ، لاسيما إِذَا كَانَ الْوَاصِلُ مِنْ نِقْمَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ مُسَبِّبًا عَنْ عَمَلِ الْأُمَّةِ شَرًّا أَوْ خَيْرًا، وَيَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ فِي الْأُمَّةِ يُورِثُهُ السَّلَفُ الْخَلَفَ مَا بَقِيَتِ الْأُمَّةُ، وَأَنْوَاعُ الْبَلَاءِ الَّتِي ذَكَّرَهَا بِهَا الْيَهُودَ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ الْجَرَائِمَ الَّتِي كَانَ الْبَلَاءُ عُقُوبَةً عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّعْبِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يَتُوبُ عَلَى الشَّعْبِ بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ وَيُفِيضُ عَلَيْهِ النِّعَمَ؛ فَتَكُونُ الْعُقُوبَةُ تَرْبِيَةً وَتَعْلِيمًا تُفِيدُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهَا نِعْمَةً وَسَعَادَةً.
لَا أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِيمَاءٌ أَوْ إِشَارَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يَسْتَحْضِرُوا تَارِيخَ أُمَّتِهِمُ الْمَاضِيَ لِيَتَذَكَّرُوا صُنْعَ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ فَيُعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ نَعْمَاءَ وَضَرَّاءَ، وَسَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ، وَيَتَفَكَّرُوا فِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ؛ فَالرَّوَابِطُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَمِ وَجَمَاعَاتِهَا كَالرَّوَابِطِ الْحَيَوِيَّةِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِلَا فَرْقٍ. تَعَثَرُ الرِّجْلُ فَتُخْدَشُ أَوْ تُوثَأُ، وَالْأَلَمُ يُلِمُّ بِالشَّخْصِ كُلِّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَخْصٌ حَيٌّ بِحَيَاةٍ وَاحِدَةٍ تَسْتَوِي فِيهَا رِجْلُهُ وَسَائِرُ أَعْضَائِهِ؛ وَلِذَلِكَ يَسْعَى بِجُمْلَتِهِ لِإِزَالَةِ أَلَمِ الرِّجْلِ، وَيَتَوَقَّى أَسْبَابَ الْعِثَارِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ.
عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالَى هَذَا بِمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَأَنْعَمَ عَلَى أُمَّتِنَا- الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِشَعْبٍ وَلَا جِنْسٍ- بِهَذَا الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَكَانَ لَهُمْ بِهِ نِعَمٌ لَا تُحْصَى تُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَأَصْبَحُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَ الشُّعُوبِ الْقَوِيَّةِ وَدِيَارَهَمْ وَجَعَلَ لَهُمُ السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَا تَفْرِيطَ عِنْدَهَا وَلَا إِفْرَاطَ؛ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ غَلَوْا وَأَفْرَطُوا، وَالَّذِينَ قَصَّرُوا وَفَرَّطُوا، ثُمَّ لَمَّا كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ أَنْزَلَ بِهَا أَلْوَانًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ التَّتَارَ إِنَّمَا نَكَّلُوا بِهَا وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَيْهَا الْغَرْبِيُّونَ أَيَّامَ حُرُوبِ الصَّلِيبِ وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، ثُمَّ إِنَّ الْفِتَنَ لَا تَزَالُ تَحُلُّ بِدِيَارِهِمْ، وَتُنْقِصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وَسَوْطَ عَذَابِ اللهِ يُصَبُّ عَلَيْهَا بِعُنْوَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ مَرَّتْ عَلَيْهَا قُرُونٌ وَهِيَ لَا تَعْتَبِرُ بِمَا مَضَى، وَلَا تَتَرَبَّى بِمَا حَضَرَ، بَلْ جَهِلَتِ الْمَاضِيَ فَحَارَتْ فِي الْحَاضِرِ، لَا تَعْرِفُ سَبَبَهُ وَلَا الْمَخْرَجَ مِنْهُ.
أَلَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْجُمْهُورَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْهَا هُمْ أَجْهَلُهَا بِتَارِيخِهَا، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَاضِيهَا وَلَا حَاضِرِهَا؟ وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي بَلَاءٍ كَبِيرٍ، وَيَعْتَذِرُونَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ، وَيَكِلُونَ إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ النَّجَاةَ مِنْهُ أَوِ الْبَقَاءَ فِيهِ.
إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دِيَارُهَا وَتَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَتَهَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ تَارِيخِهَا الْمَاضِي، فَلابد مِنْ تَتَبُّعِ السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ إِلَى الْيَنْبُوعِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ.
كَانَ سَلَفُنَا- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- يَضْبِطُونَ أَحْوَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِكُلِّ اعْتِنَاءٍ وَدِقَّةٍ، حَتَّى كَانُوا يَرْوُونَ الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ أَوِ النُّكْتَةَ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَمَعْشُوقَتِهِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ مِمَّا يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ أُمَّةً بِدِينِهَا وَلُغَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَعَادَاتِهَا، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظْ خَلَفُهَا عَنْ سَلَفِهَا هَذِهِ الْمُقَوِّمَاتِ بِحِفْظِ تَارِيخِهَا، تَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّغَيُّرِ بِتَأْثِيرِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَتَقَلُّبَاتِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ جَهْلِ الْمُتَأَخِّرِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَبِكَيْفِيَّةِ حُدُوثِ التَّغْيِيرِ الضَّارِّ لِلْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ، بِهَذَا تَفْعَلُ فَوَاعِلُ الْكَوْنِ بِالْأُمَّةِ الْجَاهِلَةِ أَفَاعِيلَهَا حَتَّى تَقْلِبَ كِيَانَهَا، وَتُقَوِّضَ بُنْيَانَهَا، وَتَقْطَعَ عُرَى الرُّبُطِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا لِلْمَصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَهِيَ لَا حِفَاظَ لَهَا فِي مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أَهْمَلَتْ تَكُونُ الْأُمَّةُ مِنَ الْهَالِكِينَ.
عُنِيَتْ أُمَّتُنَا بِالتَّارِيخِ عِنَايَةً لَمْ تَسْبِقْهَا بِهِ أُمَّةٌ، فَلَمْ تَكْتَفِ بِضَبْطِ الْوَقَائِعِ وَتُلْقِيهَا بِالرِّوَايَةِ كَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، بَلْ تَفَنَّنَتْ فِيهَا فَصَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْأَشْخَاصِ كَمَا صَنَّفَتْ فِي تَارِيخِ الْبِلَادِ وَالشُّعُوبِ، ثُمَّ نَوَّعَتْ تَارِيخَ الْأَشْخَاصِ فَجَعَلَتْ لِكُلِّ طَبَقَةٍ تَارِيخًا، فَنَرَى فِي الْمَكَاتِبِ طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ، وَطَبَقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبَقَاتِ النَّحْوِيِّينَ، وَطَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ، وَطَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ اهْتَدَى بَعْضُهُمْ إِلَى اسْتِنْبَاطِ قَوَاعِدِ الْعُمْرَانِ وَأُصُولِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ التَّارِيخِ فَصَنَّفَ ابْنُ خَلْدُونَ فِي ذَلِكَ مُقَدِّمَةَ تَارِيخِهِ، وَلَوْ لَمْ تَنْقَطِعْ بِنَا سِلْسِلَةُ الْعِلْمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَكُنَّا أَتْمَمْنَا مَا بَدَأَ بِهِ سَلَفُنَا، وَلَكِنَّنَا تَرَكْنَاهُ وَسَبَقَنَا غَيْرُنَا إِلَى إِتْمَامِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ؛ فَالتَّارِيخُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَكْبَرُ لِلْأُمَمِ الْعَزِيزَةِ الْيَوْمَ إِلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنْ سَعَةِ الْعُمْرَانِ وَعِزَّةِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَوَّلُ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ مِنْهُ، وَكَانَ الِاعْتِقَادُ بِوُجُوبِ حِفْظِ السُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ هُوَ الْمُرْشِدُ الثَّانِي إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ الدِّينُ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أُهْمِلَ التَّارِيخُ، بَلْ صَارَ مَمْقُوتًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِ الدِّينِ، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ سُنَّةَ قَوْمٍ آخَرِينَ.
نَكْتَفِي الْآنَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ وَنَعُودُ إِلَى إِتْمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي صَرَفَتْنَا إِلَيْهِ بِمُخَاطَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ بِمَا كَانَ مِنْ تَعْذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ لِسَلَفِهِمْ، وَإِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ.
أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ مِصْرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ يُوسُفُ عليه السلام، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِخْوَتُهُ وَنَمَا نَسْلُهُ وَنَسْلُهُمْ فِيهَا وَكَثُرَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَهَذَا النُّمُوُّ كَانَ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لَا يُحِبُّونَ مُسَاكَنَةَ الْغُرَبَاءِ، فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ نُمُوَّ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَافَ مَغَبَّةَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِذَا كَثُرُوا يَتَبَسَّطُونَ فِي الْأَرْضِ وَيُزَاحِمُونَ الْمِصْرِيِّينَ، فَطَفِقَ يَسْتَذِلُّهُمْ وَيُكَلِّفُهُمُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، كَصُنْعِ الطُّوبِ لِبِنَاءِ الْهَيَاكِلِ وَالْبَرَابِي لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الذُّلَّ يُقَلِّلُ النَّسْلَ وَيُفْضِي بِالْأُمَّةِ إِلَى الِانْقِرَاضِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلُّوا مَعَ الِاسْتِذْلَالِ يَتَنَاسَلُونَ وَيَكْثُرُونَ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْحُكَّامُ الْمِصْرِيُّونَ يَزْدَادُونَ نَسْلًا، وَأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا مُحَافِظُونَ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ، وَلَا يُمَازِجُونَ الْمِصْرِيِّينَ، وَعِنْدَهُمُ الْأَثَرَةُ وَالْإِبَاءُ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ وَأَفْضَلُ خَلْقِهِ، خَافُوا أَنْ يَقْوَوْا بِالْكَثْرَةِ فَيَعْدُوا عَلَيْهِمْ وَيَغْلِبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَزْدَادُونَ عَلَى الذُّلِّ نَسْلًا؛ لِأَنَّ الذُّلَّ لَا يُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الذَّلِيلَ الَّذِي لَا تُطْلَقُ إِرَادَتُهُ فِي أَعْمَالِهِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ الَّذِي يَضْعُفُ عَنْ تَنَاوُلِ الْغِذَاءِ الَّذِي يَمُدُّ حَيَاتَهُ، فَهُوَ يَذْبُلُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَنْحَلَ وَيَمُوتَ، وَالْقُوَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي تَحْفَظُ حَيَاةَ الْأُمَمِ هِيَ قُوَّةُ الْأَرْوَاحِ وَالْإِرَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ مَحْمُولٌ بِالرُّوحِ. وَالْعَمَلُ النَّافِعُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِرَادَةِ، فَمَتَى خُذِّلَتِ النُّفُوسُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَى إِرَادَتِهَا تَبِعَهَا الْجِسْمُ فَيَضْعُفُ بِضَعْفِهَا، وَالضَّعِيفُ يَأْتِي بِنِتَاجٍ ضَعِيفٍ، وَيَكُونُ نَسْلُ نِتَاجِهِ أَضْعَفَ مِنْ نَسْلِهِ، وَيَتَسَلْسَلُ هَكَذَا حَتَّى يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ ضَعْفِ النَّسْلِ إِسْرَاعُ الْمَوْتِ إِلَى صِغَارِهِ قَبْلَ بُلُوغِ سِنِّ الرُّشْدِ، وَبِهَذَا يَنْقَرِضُ النَّسْلُ، كَمَا حَصَلَ لِهُنُودِ أَمْرِيكَا وَسُكَّانِ شَمَالِيِّ أُسْتُرَالِيَا.
اسْتَبْطَأَ الْمِصْرِيُّونَ أَثَرَ الِاسْتِذْلَالِ فِي الْإِسْرَائِيلِيِّينَ فَعَمِلُوا عَلَى انْقِرَاضِهِمْ بِقَتْلِ ذُكْرَانِهِمْ، وَاسْتِحْيَاءِ إِنَاثِهِمْ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ الْقَوَابِلَ بِأَنْ يَقْتُلْنَ كُلَّ ذَكَرٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْخَلْقِ أَنَّ قِوَامَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ وَحِفْظَ الْأَجْنَاسِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالذُّكُورِ. وَقَالَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: إِنَّ سَبَبَ الْعَذَابِ وَتَقْتِيلِ الْأَبْنَاءِ دُونَ الْبَنَاتِ هُوَ أَنَّ بَعْضَ الْكَهَنَةِ أَخْبَرَ فِرْعَوْنَ بِأَنْ سَيُولَدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَدٌ يَنْزِعُ مِنْهُ مُلْكَهُ، وَيَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ هُلْكُهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ سَنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا يُعْرَفُ فِي التَّارِيخِ، وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَيَتَنَاقَلُونَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمُقَدَّسَةِ وَغَيْرِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي نَفْسِهِ أَيْضًا.
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
جَاءَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ذِكْرُ تَنْجِيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ الْإِنْجَاءِ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ النَّجَاةَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نِعْمَتَهُ فِي طَرِيقِ الْإِنْجَاءِ بِالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِبَيَانِ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ فِيهَا، إِذْ جَعَلَ وَسِيلَتَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَجَعَلَ فِي طَرِيقِهِ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهَا بَيَانُ الْإِجْمَالِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
لَمَّا أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عليه السلام إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَإِلَى أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِطْلَاقِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْبَادِ وَالتَّعْذِيبِ، لَمْ يَزِدْهُمْ فِرْعَوْنُ إِلَّا تَعْذِيبًا وَتَعْبِيدًا، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ تَارِيخِ التَّوْرَاةِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْبَأَ مُوسَى بِأَنَّهُ يُقَسِّي قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَلَا يُخَفِّفُ الْعَذَابَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يُرْسِلُهُمْ مَعَ مُوسَى حَتَّى يُرِيَهُ آيَاتِهِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الدَّعْوَةِ زَادَ ظُلْمًا وَعُتُوًّا، فَأَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا يُسَخِّرُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي الْقَسْوَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمُ التِّبْنَ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَهُمْ إِيَّاهُ لِعَمَلِ اللَّبِنِ الطُّوبِ، وَيُكَلِّفُوهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا التِّبْنَ وَيَعْمَلُوا كُلَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ اللَّبِنِ، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَعْطَى اللهُ تَعَالَى مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَحَاوَلَ فِرْعَوْنُ مُعَارَضَتَهَا بِسِحْرِ السَّحَرَةِ، فَلَمَّا آمَنَ السَّحَرَةُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَأْيِيدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَرَأَى مَا رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى، سَمَحَ بِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ طَرَدَهُمْ، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي شَهْرِ أَبِيبٍ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُمْ فِي مِصْرَ 430 سَنَةٍ. ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، وَأَنْجَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}.
بعد أن حذر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل من يوم لا تنفع فيه الشفاعة. أراد أن يذكرهم بفضله عليهم وبنعمه. قوله تعالى: {إذ} هي ظرف لشيء وسبق أن قلنا أن الظرف نوعان. لأن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمان يقع فيه وإلى مكان يقع فيه. وعندما أقول لك إجلس مكانك. هذا الظرف يراد به المكان. وعندما يخاطب الله عز وجل عباده: أذكر إذ فعلت كذا. أي اذكر وقت أن فعلت كذا ظرف زمان. وقول الحق تبارك وتعالى: {وإذ نجيناكم} أي اذكروا الوقت الذي نجاكم فيه من فرعون.
والآية التي نحن بصددها وردت ثلاث مرات في القرآن الكريم. قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49].
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [الأعراف: 141].
وقوله جل جلاله في سورة إبراهيم: {إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم: 6].
الاختلاف بين الأولى والثانية هو قوله تعالى في الآية الأولى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}. وفي الثانية: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ}.
{ونجينا} في الآية الأولى: {وأنجينا} في الآية الثانية. ما الفرق بين نجينا وأنجينا؟ هذا هو الخلاف الذي يستحق أن تتوقف عنده.. في سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ}. الكلام هنا من الله. أما في سورة إبراهيم فنجد {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ}.
الكلام هنا كلام موسى عليه السلام. ما الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام موسى؟
إن كلام موسى يحكي عن كلام الله. إن الله سبحانه وتعالى حين يمتن على عباده يمتن عليهم بقمم النعمة، ولا يمتن بالنعم الصغيرة. والله تبارك وتعالى حين امتن على بني إسرائيل قال: {نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}. ولم يتكلم عن العذاب الذي كان يلاقيه قوم موسى من آل فرعون. إنهم كانوا يأخذونهم أجراء في الأرض ليحرثوا وفي الجبال لينحتوا الحجر وفي المنازل ليخدموا. ومن ليس له عمل يفرضون عليه الجزية. ولذلك كان اليهود يمكرون ويسيرون بملابس قديمة حتى يتهاون فرعون في أخذ الجزية منهم. وهذا معنى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61].
أي أنهم يتمسكون ويظهرون الذلة حتى لا يدفعوا الجزية. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يمتن عليهم بأنه أنجاهم من كل هذا العذاب. بل يمتن عليهم بقمة النعمة. وهي نجاة الأبناء من الذبح واستحياء النساء. لأنهم في هذه الحالة ستستذل نساؤهم ورجالهم. فالمرأة لا تجد رجلا يحميها وتنحرف.
كلمة نجَّى وكلمة أنجى بينهما فرق كبير.
كلمة نَجَّى تكون وقت نزول العذاب. وكلمة أنجى يمنع عنهم العذاب. الأولى للتخليص من العذاب والثانية يبعد عنهم عذاب فرعون نهائيا. ففضل الله عليهم كان على مرحلتين. مرحلة أنه خلصهم من عذاب واقع عليهم. والمرحلة الثانية أنه أبعدهم عن آل فرعون فمنع عنهم العذاب.
قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ما هو السوء؟ إنه المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والسخرة والعمل بالأشغال الشاقة. ما معنى يسوم؟ يقال سام فلان خصمه أي أذله وأعنته وأرهقه. وسام مأخوذة من سام الماشية تركها ترعى. لذلك سميت بالسام أي المتروكة. وعندما يقال إن فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب. معناها أن كل حياتهم ذل وعذاب.. فتجد أن الله سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن حكام مصر من الفراعنة يتكلم عن فراعنة قدماء كانوا في عهد عاد وعهد ثمود. واقرأ قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَالَّيلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 1- 12].
أي أن الله تبارك وتعالى جاء بحضارة الفراعنة وقدماء المصريين بعد عاد وثمود. وهذا دليل على أن حضارة عاد وثمود قديمة. والله سبحانه وتعالى وصف عادا بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد. أي أنها حضارة أرقى من حضارة قدماء المصريين.
قد يتساءل بعض الناس كيف يصف الله سبحانه وتعالى عادا بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد. مع أنه يوجد الآن حضارات متقدمة كثيرة.
نقول إن الله قد كشف لنا حضارة الفراعنة وآثارهم. ولكنه أخفى عنا حضارة عاد. ولقد وجدنا في حضارة الفراعنة أشياء لم نصل إليها حتى الآن. مثل براعتهم في تحنيط الموتى والمحافظة على الجثث. وبناء الأهرامات وغير ذلك. وبما أن حضارة عاد كانت أرقى من حضارة الفراعنة. فإنها تكون قد وصلت إلى أسرار مازالت خافية على العالم حتى الآن. ولكنا لا نعرف شيئا عنها، لأن الله لم يكشف لنا آثارها.
ولقد تحدث الحق تبارك وتعالى عن الفراعنة باسم فرعون. وتكلم عنهم في أيام موسى باسم آل فرعون. ولكن الزمن الذي كان بين عهدي يوسف وموسى لم يسم ملك مصر فرعون، إنما سماه العزيز الذي هو رئيس الوزراء ورئيسه الملك. وقال الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50].
إذن فالحاكم أيام يوسف كان يسمى ملكا ولم يسم فرعون. بينما حكام مصر قبل يوسف وبعده كانوا يلقبون بفرعون. ذلك لأنه قبل عهد يوسف عليه السلام حكم مصر الهكسوس أهل بني إسرائيل.
فقد أغاروا على مصر وانتصروا على الفراعنة. وحكموا مصر سنوات حتى تجمع الفراعنة وطردوهم منها.
والغريب أن هذه القصة لم تعرف إلا بعد اكتشاف حجر رشيد، وفك رموز اللغة الهيروغليفية. وكان ملوك الهكسوس من الرعاة الذين استعمروا مصر فترة. ولذلك نرى في قصة يوسف عليه السلام قول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}.
وهكذا نعلم أن القرآن الكريم قد روى بدقة قصة كل حاكم في زمنه. وصف الفراعنة بأنهم الفراعنة. ثم جاء الهكسوس فلم يكن هناك فرعون ولكن كان هناك ملك. وعندما جاء موسى كان الفراعنة قد عادوا لحكم مصر. فإذا كان هذا الأمر لم نعرفه إلا في مطلع القرن الخامس. عندما اكتشف الفرنسيون حجر رشيد، ولكن القرآن أرخ له التاريخ الصحيح منذ أربعة عشر قرنا. وهذه معجزة تنضم لمعجزات كبيرة في القرآن الكريم عن شيء كان مجهولا وقت نزول القرآن وأصبح معلوما الآن. لنجد أن القرآن جاء به في وضعه الصحيح والسليم.
بعد أن تحدثنا عن الفرق بين نجيناكم وأنجيناكم. نتحدث عن الفرق بين {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}. و{يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ}. الذبح غير القتل.. الذبح لابد فيه من إراقة دماء. والذبح عادة يتم بقطع الشرايين عند الرقبة، ولكن القتل قد يكون بالذبح أو بغيره كالخنق والإغراق. كل هذا قتل ليس شرطا فيه أن تسفك الدماء.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن فرعون حينما أراد أن ينتقم من ذرية بني إسرائيل انتقم منهم انتقامين.. انتقاما لأنهم كانوا حلفاء للهكسوس وساعدوهم على احتلال مصر. ولذلك فإن ملك الهكسوس اتخذ يوسف وزيرا. فكأن الهكسوس كانوا موالين لبني إسرائيل. وعندما انتصر الفراعنة انتقموا من بني إسرائيل بكل وسائل الانتقام. قتلوهم وأحرقوا عليهم بيوتهم.
أما مسألة الذبح في قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} فلقد رأى فرعون نارا هبت من ناحية بيت المقدس فأحرقت كل المصريين ولم ينج منها غير بني إسرائيل. فلما طلب فرعون تأويل الرؤيا. قال له الكهان يخرج من ذرية إسرائيل ولد يكون على يده نهاية ملكك. فأمر القوابل الدايات بذبح كل مولود ذكر من ذرية بني إسرائيل. ولكن قوم فرعون الذين تعودوا السلطة قالوا لفرعون: إن بني إسرائيل يوشك أن ينقرضوا وهم يقومون بالخدمات لهم. فجعل الذبح سنة والسنة الثانية يبقون على المواليد الذكور. وهارون ولد في السنة التي لم يكن فيها ذبح فنجا. وموسى ولد في السنة التي فيها ذبح فحدث ما حدث.
إذن سبب الذبح هو خوف فرعون من ضياع ملكه. وفرض الذبح حتى يتأكد قوم فرعون من موت المولد. ولو فعلوه بأي طريقة أخرى كأن القوة من فوق جبل أو ضربوه بحجر غليظ. أو طعنوه بسيف أو برمح قد ينجو من الموت. ولكن الذبح يجعلهم يتأكدون من موته في الحال فلا ينجو أحد.
والحق يقول: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}. كلمة الابن تطلق على الذكر، ولكن الولد يطلق على الذكر والأنثى. ولذلك كان الذبح للذكور فقط. أما النساء فكانوا يتركونهن أحياء.
ولكن لماذا لم يقل الحق تبارك وتعالى يذبحون أبناءكم ويستحيون بناتكم بدلا من قوله: {يستحيون نساءكم}. الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن الفكرة من هذا هو إبقاء عنصر الأنوثة يتمتع بهن آل فرعون. لذلك لم يقل بنات ولكنه قال نساء. أي أنهم يريدونهن للمتعة وذلك للتنكيل ببني إسرائيل. ولا يقتل رجولة الرجل إلا أنه يرى الفاحشة تصنع في نسائه.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}. ما هو البلاء؟ بعض الناس يقول إن البلاء هو الشر. ولكن الله تبارك وتعالى يقول: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
إذن هناك بلاء بالخير وبلاء بالشر. والبلاء كلمة لا تخيف. أما الذي يخيف هو نتيجة هذا البلاء؛ لأن البلاء هو امتحان أو اختبار. إن أديته ونجحت فيه كان خيرا لك. وأن لم تؤده كان وبالا عليك. والحق سبحانه وتعالى يقول في خليله إبراهيم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124].
فإبراهيم نجح في الامتحان، والبلاء جاء لبني إسرائيل من جهتين.. بلاء الشر بتعذيبهم وتقتيلهم وذبح أبنائهم. وبلاء الخير بإنجائهم من آل فرعون. ولقد نجح بنو إسرائيل في البلاء الأول. وصبروا على العذاب والقهر وكان بلاء عظيما. وفي البلاء الثاني فعلوا أشياء سنتعرض لها في حينها. اهـ.