فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في ذكر فرعون عدو الله:
وفِرْعَونُ اسمٌ أَعجمىٌّ ممنوعٌ من الصّرف، والجمع فَراعِنَةٌ كقَياصِرة وأَكاسِرَة وهو اسمٌ لكلّ من مَلَك مِصْرَ، فإِذا أُضِيفَت إِليها الاسكَنْدرِيّةَ سُمِّىَ عَزِيزًا.
واختلف في اسمه، فقيل: مُصْعَب بن الولِيد، وقِيل رَيَّانُ بن الوَلِيد، وقيل الوَلِيدُ ابن رَيّان.
وكان أَصله من خُراسانَ من مدينة بسورمان، وقيل من قرية مجهولة تسمّى نوشخ.
ولما قَعَد على سرير الملك قال: أَين عجائِز نُوشَخ.
وقد صدر منه ما لَمْ يَصْدُر من أَحَدٍ من الكُفَّار والمتمرِّدين، ولا من قائِدهم إِبْليس، منها: إِنكارُ العبوديّة ودَعْوَى الرُّبُوبِيّةِ بقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرِي} ومنها: نَكالُ زَوْجَته وقَتْلُها أَشدَّ قِتْلَة بسبب إِيمانها بالله؛ ومنها: جَمْعُ السَحَرة لمُعارَضةِ الأَنْبِياء.
وقد دعاه الله تعالَى في القرآن بأَسماءٍ تُشْعِر بخِذْلانِهِ وذُلِّهِ وخِزْيه، منها: المُكَذِّب والعاصى: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} مُدْبِرٌ وساعِى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} حاشِرٌ، ومُنادِى: {فَحَشَرَ فَنَادَى} مُدَّعِى ومُعْتَدِى: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} مُسْتَعْلِى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ} مُفْسِدٌ: {وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} مُجْرِمٌ: {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} مُسْرِفٌ: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} كَيّادٌ: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} مَكَّار: {فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} مُتَكَبِّر وجَبَّارٌ: {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} عَدُوٌّ: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} فِرعَونُ وطاغِى: {إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}.
وقد ذكره الله تعالى باسمه مقرونا بأَنواع فساده:
1- إِلزام الحجّة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ}.
2- إِتيانُ موسى ببيان الحَقِّ له: {يافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}.
3- تسميتهم مُوسى بالسّاحِر: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}.
4- إِصرارُهم على الكُفْرِ وقَسَمُهُم بعزَّته: {وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}.
5- في جَمْعه السَّحَرة للمَكْر والحِيلة: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَائنِ حَاشِرِينَ}.
6- استدعاؤه السّحرة في حال الخَلْوة: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ}.
7- تهديدُه السَّحرة لَمّا آمنُوا: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ}.
8- {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى}.
9- الإِخبارُ بهلاكه ودماره: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ}.
10- الإِخبارُ عن كَيْدِ بعد الهرب والهزيمة: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ}.
11- الإِخبار عن إِضلاله قومه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}.
12- الإِخبار عن مُوافَقَتِه لأَهل الكُفْرِ لشَقاوته: {وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ}.
13- الإِخبارُ عن مُجادلته موسى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
14- الإِخبارُ عن تَمرُّده وتجبُّره: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ}.
15- الإِخبارُ عن كونه في الخَطأ ليلًا ونَهارًا سِرًّا وجهارًا: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ}.
16- الإِخبارُ عن إِظْهار القُدْرةِ بجعْل تَرْبية موسى على يد فِرْعون: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا}.
17- الإِخْبارُ عن مُلاطفات آسِيةَ ومساعِيها في نَجاة مُوسى وسلاَمته: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}.
18- تَشَبُّه كفَّار مكة في قُبْح سيرتهم بفِرْعَوْن {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}.
19- الإِخبار عن هلاكهم وسُوء عاقِبَتِهم: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}.
20- الإِخبار بأَن يجرى عليهم نظيرُ ما جَرَى على قومِ عادٍ وثمود: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} إِلى قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ} قال:
تَكَبَّر فِرْعَوْنُ القُبَيْطىّ عاتِيًا ** فصارَ غَرِيقَ البَحْرِ في قَعْرِ يَمِّهِ

كما تاه إِبْليسُ اللَّعِين تَجَبُّرًا ** وكانَ وَقودًا للسَّعِير بغَمّه

.تفسير الآية رقم (50):

قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما فعل بهم في البحر إهلاكًا للرجال وإبقاء للنساء طبق ما فعلوا ببني إسرائيل عقبه به فقال: {وإذ} أي واذكروا إذ {فرقنا} من الفرق وهو إفراج الواحد لحكمة إظهار التقابل- قاله الحرالي.
فصارت لكم مسالك على عدد أسباطكم {بكم} أي بسببكم عقب إخراجنا لكم من أسر القبط قال الحرالي: هو المتسع الرحب البراح مما هو ظاهر كالماء، ومما هو باطن كالعلم الذي منه الحبر، تشاركا بحروف الاشتقاق في المعنى.
{فأنجيناكم} من الإنجاء وهو الإسراع في الرفعة عن الهلاك إلى نجوة الفوز- انتهى.
ومن عجائب ذلك أنه كما كان الإنجاء منه كان به.
قال الحرالي: وجعل البحر مفروقًا بهم كأنهم سبب فرقة، فكأن نجاتهم هي السبب وضرب موسى عليه السلام بالعصاة هي الأمارة والعلامة التي انفلق البحر عندها بسببهم، وجعل النجاة من بلاء فرعون تنجية لما كان على تدريج، وجعل النجاة من البحر إنجاء لما كان وحيًا في سرعة وقت- انتهى.
{وأغرقنا آل فرعون} فيه وبه {وأنتم تنظرون} إسراعه إليهم في انطباقه عليهم، وهذا مثل ما خاض العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر الملح في ناحية البحرين أو انحسر له على اختلاف الروايتين، ومثل ما قطع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة في وقائع الفُرس عومًا بالخيول بجميع عساكره وكانوا زيادة على ثلاثين ألفًا لم يُفقد منهم أحد، وكان الفرس إذا تعب وثب فصار واقفًا على ظهر الماء كأنه على صخر، فإذا استراح عام.
قال الحرالي: {وأغرقنا} من الغرق وهو البلاغ في الشيء إلى غايته بحسبه، فإن كان في الهلاك فهو غاية وظهر معناه في الماء والبحر لبُعد قعره، وهو في الماء بمنزلة الخسف في الأرض، والنظر التحديق للصورة من غير تحقق ولا بصر- انتهى.
فذكرهم سبحانه بنعمة الإنجاء منه بالرحيل عنه أولًا، ثم بإغراقه الذي هو أكبر من ذلك ثانيًا بما كان بعينه سبب سلامتهم واستمر يذكرهم بما تابع لهم من النعم حيث كانوا يستحقون النقم.
قال الحرالي: وقررهم على نظرهم إليهم، وفيه إشعار بفقد بصرهم لضعف بصائرهم من حيث لم يقل: وأنتم تبصرون، ولذلك عادوا بعدها إلى أمثال ما كانوا فيه من الشك والإباء على أنبيائهم بعد ذلك- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الخازن:

وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون، أمر الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر بالليل، فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح، وأن يستعيروا حلى القبط لتبقى لهم أو ليتبعوهم لأجل المال، وأخرج الله كل ولد زنا كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل وكل ولد زنا كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى يرجع كل ولد إلى أبيه وألقى الله الموت على القبط فمات كل بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم وقيل: بلغ ذلك فرعون فقال لا أخرج في طلبهم حتى يصيح الديك فما صاح تلك الليلة ديك وخرج موسى في بني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفًا لا يعدون ابن عشرين سنة لصغره، ولا ابن ستين سنة لكبره، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانًا ما بين رجل وامرأة فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبوا فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا: إن يوسف لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدًا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموه فقال موسى.
ينادي أنشد الله كل من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني به ومن لم يعلم صمت أذناه عن سماع قولي: فكان يمر بالرجل وهو ينادي فلا يسمع صوته حتى سمعته عجوز منهم فقالت له: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما أسألك فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي فأمره أن يعطيها سؤالها فقالت: إني عجوز لا أستطيع المشي فاحملني معك وأخرجني من مصر هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من غرف الجنة إلا نزلتها معك قال: نعم، قالت: إنه في النيل في جوف الماء فادع الله أن يحسر عنه الماء فدعا الله فحسر عنه الماء، ودعا الله أن يؤخر عنه طلوع الفجر حتى يفرغ من أمر يوسف، ثم حفر موسى ذلك الموضع فاستخرجه وهو في صندوق من مرمر وحمله معه حتى دفنه بالشام، فعند ذلك فتح لهم الطريق فسار موسى ببني إسرائيل هو في ساقتهم وهارون في مقدمتهم، ثم خرج فرعون في طلبهم في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم سبعون ألفًا من دهم الخيل سوى سائر الشيات وقيل: كان معهن مائة ألف حصان أدهم وكان فرعون في الدهم وكان على مقدمة عسكر هامان، وكان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ألف ناشب ومائة ألف ألف حراب ومائة في ألف ألف حراب ومائة في ألف ألف، معهم الأعمدة واسر بنو إسرائيل حتى وصلوا البحر والماء في غاية الزيادة، ونظروا حين أشرقت الشمس فإذا هم بفرعون في جنوده فبقوا متحيرين وقالوا: يا موسى أين ما وعدتنا به فكيف نصنع هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله إليه أن كنه فضربه، وقال: انفلق يا أبا خالد فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وظهر فيه اثنا عشر طريقًا لكل سبط منهم طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر، حتى صار يبسًا وخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق عن جوانبهم الماء كالجبل الضخم لا يرى بعضهم بعضًا فخافوا، وقال: كل سبط منهم قد هلك إخواننا فأوحى الله إلى جبال الماء أن تشبكي فصار الماء كالشباك يرى بعضهم بعضًا، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فَأَنجَيْنَاكُمْ} إذ في موضع نصب.
و{فَرَقْنَا} فلقنا؛ فكان كل فِرْق كالطَّوْد العظيم، أي الجبل العظيم.
وأصل الفَرْق الفصل؛ ومنه فَرْق الشّعر؛ ومنه الفُرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل؛ ومنه: {فالفارقات فَرْقًا} [المرسلات: 4] يعني الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل؛ ومنه: {يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] يعني يوم بَدْر، كان فيه فرق بين الحق والباطل، ومنه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] أي فصّلناه وأحكمناه.
وقرأ الزُّهْرِيّ: {فرّقنا} بتشديد الراء؛ أي جعلناه فرقًا.
ومعنى {بكم} أي لكم، فالباء بمعنى اللام.
وقيل: الباء في مكانها؛ أي فرقنا البحر بدخولكم إياه.
أي صاروا بين الماءين، فصار الفرق بهم؛ وهذا أوْلَى يبيّنه {فانفلق} [الشعراء: 63].
قوله تعالى: {الْبَحْرَ} معروف، سُمي بذلك لاتساعه.
ويقال: فَرَسٌ بَحْرٌ إذا كان واسع الجَرْي؛ أي كثيره.
ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنْدُوب فرس أبي طلحة: «وإنْ وجدناه لبحرًا» والبحر: الماء الملح.
ويقال: أبحر الماء: مَلُح؛ قال نُصَيب:
وقد عاد ماءُ الأرض بَحْرًا فزادني ** إلى مَرَضِي أن أبْحَرَ المَشْربُ العذْبُ

والبحر: البلدة؛ يقال: هذه بَحْرَتُنا؛ أي بلدتنا.
قاله الأُمويّ.
والبَحَر: السُّلال يصيب الإنسان.
ويقولون: لقيته صَحْرَةً بَحْرَةً؛ أي بارزًا مكشوفًا.
وفي الخبر عن كعب الأحبار قال: إن لله ملَكًا يقال له: صندفاييل، البحار كلها في نقرة إبهامه.
ذكره أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن خالد بن مَعْدان عن كعب.
قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاكُمْ} أي أخرجناكم منه؛ يقال: نجوت من كذا نجاء، ممدود، ونجاة، مقصور.
والصدق منجاة.
وأنجيت غيري ونجّيته؛ وقرئ بهما {وإذ نجيناكم} {فأنجيناكم}. اهـ.

.قال الفخر:

هذا هو النعمة الثانية، وقوله: {فَرَقْنَا} أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرئ: {فَرَقْنَا} بالتشديد بمعنى فصلنا.
يقال: فرق بين الشيئين وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنتي عشرة على عدد الأسباط، فإن قلت: ما معنى: {بكم}؟
قلنا: فيها وجهان:
أحدهما: أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما.
الثاني: فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم ثم ها هنا أبحاث:
البحث الأول: إغراق فرعون والقبط:
روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط، وذلك لغرضين:
أحدهما: ليخرجوا خلفهم لأجل المال.
والثاني: أن تبقى أموالهم في أيديهم ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي وقال لموسى: أخرج قومك ليلًا، وهو المراد من قوله: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} [طه: 77] وكانوا ستمائة ألف نفس لأنهم كانوا اثني عشر سبطًا كل سبط خمسون ألفًا، فلما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك.
قال الراوي: فوالله ما صاح ليلته ديك فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط، وقال قتادة: اجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف نفس كل واحد منهم على فرس حصان فتبعوهم نهارًا.
وهو قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] أي بعد طلوع الشمس.
{فَلَمَّا تَرَاءا الجمعان قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فقال موسى: {كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] فلما سار بهم موسى وأتى البحر قال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك؟ فقال موسى: إلى أمامك وأشار إلى البحر فأقحم يوشع بن نون فرسه في البحر فكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر، فسبح الفرس وهو عليه ثم رجع وقال له: يا موسى أين أمرك ربك؟ فقال البحر، فقال: والله ما كذبت، ففعل ذلك ثلاث مرات، فأوحى الله إليه: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 67]، فانشق البحر اثني عشر جبلًا في كل واحد منها طريق، فقال له: ادخل فكان فيه وحل فهبت الصبا فجف البحر، وكل طريق فيه حتى صار طريقًا يابسًا كما قال تعالى: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا في البحر يَبَسًا} [طه: 77]، فأخذ كل سبط منهم طريقًا ودخلوا فيه فقالوا لموسى: إن بعضنا لا يرى صاحبه، فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ وكوى فرأى بعضهم بعضًا، ثم أتبعهم فرعون، فلما بلغ شاطئ البحر رأى إبليس واقفًا فنهاه عن الدخول فهم بأن لا يدخل البحر فجاء جبريل عليه السلام على حجرة فتقدم فرعون وهو كان على فحل فتبعه فرس فرعون ودخل البحر، فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم الحقوا آخركم بأولكم، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله الماء حتى نزل عليهم في ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فأنجيناكم} وقيل كان ذلك اليوم يوم عاشوراء، فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكرًا لله تعالى. اهـ.