فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فاعلم فعلم المرء ينفعه

ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من ارتكاب عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام. و: {أَجْمَعُواْ} بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل، وقيل: إن أجمع متعد بنفسه واستشهد له بقول الحرث بن حلزة:
أجمعوا أمرهم بليل فلما ** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

ونص السدوسي على أن عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر، وقال أبو الهيثم: معنى أجمع أمره جعله مجموعًا بعد ما كان متفرقًا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه، ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض، وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثري لا دائمي، والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد: {وَشُرَكَاءكُمْ} أي التي زعمتم أنها شركاء لله سبحانه وتعالى، وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم، ويؤيد ذلك قراءة الحسن، وابن أبي إسحاق، وأبي عبد الرحمن السلمي، وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر أنه حينئذٍ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المنفصل.
وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه، وقيل: إن النصب بالعطف على: {أَمَرَكُمُ} بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناءً على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناءً على أن المراد بالشركاء الأصنام، وقيل: إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم، وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في: {واسئل القرية} [يوسف: 82]، وقيل: إن ذاك على المفعولية به لمقدر كما قيل في قوله:
علفتها تبنًا وماءً باردًا

أي وادعوا شركاءكم كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه، وقرأ نافع: {فَأَجْمِعُواْ} بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع، وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناءً على أنه يقال: جمعت شركائي كما يقال: جمعت أمري، وزعم بعضهم أن المعنى ذوي أمركم وهو كما ترى، والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة بالله تعالى وقلة مبالاة بهم، وليس المراد حقيقة الأمر: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ} ذلك: {عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي مستورًا من غمه إذا ستره، ومنه حديث وائل ابن حجر: «لا غمة في فرائض الله تعالى» أي لا تستر ولا تخفى وإنما تظهر وتعلن، والجار والمجرور متعلق بغمة، والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة عليهم فإن الأمر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار، فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه، وكلمة: {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، وإظهار الأمر في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وقيل: أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول، والمراد بالغمة الغم كالكربة والكرب، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالًا منها، وثم للتراخي في الزمان، والمعنى ثم لا يكن حالكم غمًا كائنًا عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات الله تعالى، واعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه: {ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} أي أدوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه، ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه استعارة مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي احكموا بما تؤدوه إلى ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضًا لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر، وقييل: المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي أجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما ثم سواء اعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في: {أَجْمَعُواْ} وقرئ: {أفضوا} إلى بالفاء أي انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج؛ فإن نوحًا عليه السلام مع قومه مَثَل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلًا ثم يؤخذون أخذة رابية، كما متع قوم نوح زمنًا طويلًا ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقيًا بالوجل والذعر في قلوبهم، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء، والصالحين من أقوامهم، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبيء عن ذلك قولهُ في نهاية هذه القصص: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99] الآيات.
وقوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} [يونس: 94] الآيات.
وبهذا يظهر حسن موقع (إذْ) من قوله: {إذ قال لقومه يا قوم} إلى آخره، فإن تقييد النبأ بزمن قوله: {لقومه} إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءَهم زمنًا طويلًا فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق.
و: {إذا} اسم للزمن الماضي.
وهو هنا بدل اشتمال من: {نبأ} أو من: {نوح}.
وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات} [يونس: 13].
وضمير: {عليهم} عائد إلى: {الذين يفترون على الله الكذب} [يونس: 69].
والتلاوة: القراءة.
وتقدمت في سورة الأنفال.
والنبأ: الخبر.
وتقدم في قوله: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} في سورة [الأنعام: 34].
والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران.
وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله: {إذ قَال لقومه} إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جَد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف: 69]، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد} [الأعراف: 74]
وظرف: {إذ} وما أضيف إليه في موضع الحال من: {نبأ نوح}.
وافتتاح خطاب نوح قومَه بـ: {يا قوم} إيذان بأهيمة ما سيلقيه إليهم، لأن النداء طلب الإقبال.
ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازًا في طلب الإقبال المجازي، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله.
واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخيرَ لهم، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيرًا.
وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.
ومعنى: {إن كان كبُر عليكم مقامي} شق عليكم وأحرجكم.
والكبَر: وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه، ويستعار الكبَر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه، فقد يكون مدحًا كقوله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45]، ويكون ذمًا كقوله: {كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: 5]، ويستعار الكبَر للمشقة والحرج، كقوله تعالى: {كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه} [الشورى: 13] وقوله: {وإن كان كَبُر عليك إعراضهم} [الأنعام: 35] وكذلك هنا.
والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام.
وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى: {ولمَن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]، وقوله: {قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مَقامًا} [مريم: 73] أي خير حالة وشأنًا.
وهو استعمال من قبيل الكناية، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته، وفيهما مظاهر أحواله.
وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه، فعطفه من عطف الخاص على العام.
فمعنى: {كَبُر عليكم مقامي وتذكيري} سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله.
وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعًا مُرّ المَذاق من نفوسهم، شديد الإيلام لقلوبهم، لما في منازعة الحق نفوسهم من صَولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم، وتشمئز منها نفوسهم، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم.
وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله.
والباء في: {بآيات الله} لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني، والمفعولُ الأول محذوف، والتقدير: تذكيري إياكم.
و: {آيات الله} مفعول ثان للتذكير.
يقال: ذكرته أمرًا نسيه، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5]، وقول مسور بن زيادةَ الحارثي:
أذَكَّر بالبقيا على من أصابني ** وبقياي أني جاهد غير مؤتلي

ولذلك قالوا في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله.
وآيات الله: دلائل فضله عليهم، ودلائل وحدانيته، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل، فكان يذكرهم بها، وذلك يُبرمهم ويحرجهم.
وجملة: {فعلى الله توكلت} جواب شرط: {إن كان كبُر عليكم مقامي} باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم، وهم في كثرة ومنعَة وهو في قلة وضعف، لا يصُده عن استمرار الدعوة، وأنه وإن كان بينهم وحيدًا فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله.
ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله: {فعلى الله توكلت} أي لا على غيره.
والتوكل: التعويل على من يدبر أمره.
وقد مر عند قوله: {فإذا عزمت فتوكل على الله} في سورة [آل عمران: 159].
والفاء في {فأجمعوا أمركم} للتفريع على جملة: {على الله توكلت} فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول: إن كان كبُر عليكم مقامي إلخ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت، كما قال هود لقومه: {فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم} [هود: 55، 56].
وإجماع الأمر: العزم على الفعل بعد التردد بين فِعله وفعل ضده.
وهوَ مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جَمَع ما كان متفرقًا.
فالهمزة فيه للجعل، أي جعلَ أمره جمعًا بعد أن كان متفرقًا.
ويقولون: جاؤوا وأمرهم جميع، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف.
والأمر: هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله.
و: {شركاءكم} منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه.
والواو بمعنى (مع) أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم.
وقرأ يعقوب: {وشركاؤكم} مرفوعًا عطفًا على ضمير: {فأجمعوا}، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول. والمعنى: وليجْمَع شركاؤكم أمرَهم. وصيغة الأمر في قوله: {فأجمعوا} مستعملة في التسوية، أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته.
وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشًا من القوم، وذلك تهكم بهم، كما في قوله تعالى: {قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون} [الأعراف: 195].