فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فجملة: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} معترضة، وهي تعليل لمضمون جملة: {إن الله سيبطله}، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح.
وتعريف: {المفسدين} بلام الجنس، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليُعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين، وإضافة: {عمل} إلى: {المفسدين} يؤذن بأنه عمل فاسد، لأنه فعل مَنْ شأنُهم الإفساد فيكون نسجًا على منوالهم وسيرة على معتادهم، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده.
وليس المراد نفي تصييره صالحًا، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحًا حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح، فإذا نفى الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنَها، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل.
ولما قدم قوله: {إن الله سيبطله} عُلم أن المراد من نفي إصلاحه تسليط أسباب بطلانه عليه حتى يبطل تأثيره، وأن عدم إصلاح أعمال أمثالهم هو إبطال أغراضهم منها كقوله تعالى: {ويُبطلَ الباطلَ} [الأنفال: 8] أي يظهرَ بطلانه.
وإنما كان السحرة مفسدين لأن قصدهم تضليل عقول الناس ليكونوا مسخرين لهم ولا يعلموا أسباب الأشياء فيبقوا ءالة فيما تأمرهم السحرة، ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلًا.
أما السحرة الذين خاطبهم موسى عليه السلام فإفسادهم أظهر لأنهم يحاولون إبطال دعوة الحق والدين القويم وترويج الشرك والضلالات.
وجملة: {ويُحق الله الحق} معطوفة على جملة: {إن الله سيبطله} أي سيبطله ويحق الحق، أي يثبت المعجزة.
والإحقاق: التثبيت.
ومنه سمِّي الحق حقًا لأنه الثابت.
وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم.
والباء في: {بكلماته} للسببية.
والكلمات: مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه.
وهي استعارة رشيقة، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم، وعلى علمه.
وجملة: {ولو كره المجرمون} في موضع الحال، و(لو) وصلية، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يُظن فيه تخلف حكم ما قبلها، كما تقدم عند قوله تعالى: {ولو افتدى به} في سورة [آل عمران: 91]، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه.
وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم.
وأراد {بالمجرمين} فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضًا بهم.
وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول: وإن كرهتم أيها المجرمون عدولًا عن مواجهتهم بالذم، وقوفًا عند أمر الله تعالى إذ قال له: {فقولا له قولًا لينًا} [طه: 44] فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك.
وهذا بخلاف مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال الله له: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} [الزمر: 64] لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم، وموسى عليه السلام كان في ابتداء الدعوة.
ولأن المشركين كانوا محاولين من النبي أن يعبد آلهتهم، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم، وموسى كان محاولًا فرعونَ وملأه أن يؤمنوا، فكان في مقام الترغيب باللين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)}
وكان فرعون يعلم تقدُّم السحرة في دولته، ويكفي أنه شخصيًا خَيَّل للناس أنه إله، وجاء أمره أن يأتي أعوانه بالسحرة، وفور أن قال الأمر جيء بالسحرة.
وأورد الحق سبحانه في الآية التي بعد ذلك: {فَلَمَّا جَاءَ السحرة}
وكأن المسافة بين نطق فرعون بالأمر وبين تنفيذ الأمر هي أضيق مسافة وقتية، وذلك حتى نفهم أن أمر صاحب السلطان لا يحتمل من الناس التأجيل أو التباطؤ في التنفيذ.
والقرآن حينما يعالج أمرًا من الأمور فهو يعطي صورة دقيقة للواقع، ولا يأتي بأشياء تفسد الصورة.
يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [يونس: 80].
وفي هذه الآية تلخيص للموقف كله، فحين علم السحرة أن فرعون يحتاجهم في ورطة تتعلق بالحكم، فهذه مسألة صعبة وقاسية، وعليهم أن يسرعوا إليه.
ولم يأت الحق سبحانه هنا بالتفصيل الكامل لذلك الموقف؛ لأن القصة تأتي بنقاطها المختلفة في مواضع أخرى من القرآن، وكل آية توضح النقطة التي تأتي بذكرها.
لذلك لم يقل الحق سبحانه هنا: إن أعوان فرعون نادوا في المدائن ليأتي السحرة، مثلما جاء في مواضع أخرى من القرآن.
ولم يقل لنا إن السحرة أرادوا أن يستفيدوا من هذه المسألة، وقالوا للفرعون: {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113].
ووَضْع مثل هذا الشرط يوضح لنا طبيعة العلاقات في ذلك المجتمع، فطلبهم للأجر، يعني أن عملهم مع الفرعون من قبل ذلك كان تسخيرًا وبدون أجر، ولما جاءتهم الفرصة ورأوا الفرعون في ازمة؛ طالبوا بالأجر.
ووعدهم فرعون بالأجر، وكذلك وعدهم أن يكونوا مقرَّبين؛ لأنهم لو انتصروا بالسحر على معجزة موسى؛ ففي ذلك العمل محافظة وصيانة للمُلْك، ولابد أن يصبحوا من البطانة المستفيدة، ووعدهم الفرعون بذلك شحذًا لهمتهم ليبادروا بإبطال معجزة موسى؛ ليستقر عرش الفرعون.
وشاء الحق سبحانه الإجمال هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وجاء ببقية اللقطات في المواضع الأخرى من القرآن.
وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [يونس: 80].
وألقى السحرة عِصيَّهم وحبالهم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {فَلَمَّا أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر}
ونحن نعلم أن الحق سبحانه هنا شاء الإجمال، ولكنه بيَّن بالتفصيل ما حدث، في آية أخرى، قال فيها سبحانه عن السحرة: {قَالُواْ ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115].
ونحن نعلم أن المواجهة تقتضي من كل خصم أن يدخل بالرعب على خصمه؛ ليضعف معنوياته.
وهنا أوضح لهم موسى عليه السلام أن ما أتوا به هو سحر ومجرد تخييل.
وقد أعلم الحق سبحانه نبيه موسى عليه السلام أن عصاه ستصير حية حقيقية، بينما ستكون عصيهم وحبالهم مجرد تخييل للعيون.
وقال لهم موسى عليه السلام حكم الله تعالى في ذلك التخييل: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} [يونس: 81].
وهكذا جاء القول الفصل الذي أنهى الأمر وأصدر الحكم فيما فعل فرعون ومَلَؤُه والسحرة، فكل أعمالهم كانت تفسد في الأرض، ولولا ذلك لما بعث الله سبحانه إليهم رسولًا مؤيَّدًا بمعجزة من صنف ما برعوا فيه، فهم كانوا قد برعوا في السحر، فأرسل إليهم الحق سبحانه معجزة حقيقية تلتهم ما صنعوا، فإن كانوا قد برعوا في التخييل، فالله سبحانه خلق الأكوان بكلمة كُنْ وهو سبحانه يخلق حقائق لا تخييلات.
ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ}
فالمسألة التي يشاؤها سبحانه تتحقق بكلمة {كن} فيكون الشيء. وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]. و{كن فيكون} عبارة طويلة بعض الشيء عند وقوع المطلوب، ولكن لا توجد عبارة أقصر منها عند البشر؛ لأن الكاف والنون لهما زمن، وما يشاؤه الله سبحانه لا يحتاج منه إلى زمن، والمراد من الأمر {كن} أن الشيء يوجد قبل كلمة {كن}؛ لأن كل موجود إنما يتحقق ويبرز بإرادة الله تعالى. ويريد الحق سبحانه هنا أن يبيِّن لنا أن الحق إنما يأتي على ألسنة الرسل، ومعجزاتهم دليل على رسالتهم؛ ليضع أنوف المجرمين في الرَّغام، وليريح العالم من إضلالهم ومن مفاسدهم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {لتلفتنا} قال: لتلوينا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه: {لتلفتنا} قال: لتصدنا عن آلهتنا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وتكون لكما الكبرياء في الأرض} قال: العظمة والملك والسلطان.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم رضي الله عنه قال: بلغني أن هذه الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى، يقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور الآية التي في يونس: {فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله} إلى قوله: {ولو كره المجرمون} وقوله: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} [الأعراف: 118] إلى آخر أربع آيات وقوله: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه: 69].
وأخرج ابن المنذر عن هرون رضي الله عنه قال: في حرف أبي بن كعب {ما أتيتم به سحر} وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه: {ما جئتم به سحر}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)}
وقوله تعالى: {بِكُلِّ سَاحِرٍ}: قرأ الأخَوان {سَحَّار} وهي قراءةُ ابنِ مُصَرِّف وابن وثاب وعيسى بن عمر.
{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)}
قوله تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر}: قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة {آلسحرُ} بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الداخلةِ على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بينَ بينَ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] وهي قراءةُ مجاهدٍ وأصحابه وأبي جعفر. وقرأ باقي السبعة بهمزةِ وصلٍ تَسْقط في الدَّرْج. فأمَّا قراءة أبي عمرو ففيها أوجهٌ، أحدها: أنَّ ما استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و{جِئْتُمْ به} الخبرُ، والتقديرُ: أيُّ شيءٍ جئتم، كأنه استفهامُ إنكارٍ وتقليلٌ للشيءِ المُجَاء به. و{السحر} بدلٌ من اسم الاستفهام، ولذلك أُعِيد معه أداتُه لما قرَّرْتُه في كتب النحو.
الثاني: أن يكون {السحر} مبتدأً خبرُه محذوف، تقديره: أهو السحر.
الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر تقديره: السحر هو. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكي، وفيهما بُعد.
الرابع: أن تكونَ ما موصولةً بمعنى الذي، وجئتم به صلتُها، والموصولُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والسحر على وجهيه من كونِه خبرَ مبتدأ محذوف، أو مبتدأً محذوفَ الخبر، تقديره: الذي جئتم به أهو السحر، أو الذي جئتم به السحر هو، وهذا الضميرُ هو الرابط كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو، قاله الشيخ.
قلت: قد منع مكي أن تكونَ ما موصولةً على قراءة أبي عمرو فقال: وقد قرأ أبو عمرو {آلسحرُ} بالمد، فعلى هذه القراءةِ تكون ما استفهامًا مبتدأ، و{جئتم به} الخبر، و{السحر} خبرُ ابتداء محذوف، أي: أهو السحر، ولا يجوزُ أن تكونَ ما بمعنى الذي على هذه القراءةِ إذا لا خبر لها. قلت: ليس كما ذكر، بل خبرُها الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزْأيها، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم يُجيزا كونَها موصولةً إلا في قراءة غيرِ أبي عمرو، لكنهما لم يتعرَّضا لعدمِ جوازه.
الخامس: أن تكونَ ما استفهاميةً في محلِّ نصب بفعل مقدرٍ بعدها لأنَّ لها صدرَ الكلام، و{جئتم به} مفسِّر لذلك الفعل المقدر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أَتَيْتُمْ جئتم به، و{السحر} على ما تقدم، ولو قرئ بنصب {السحر} على أنه بدلٌ مِنْ ما بهذا التقديرِ لكان له وجه، لكنه لم يُقرأ به فيما عَلِمْت، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء مِنْ جواز نصبِه لمَدْرَكٍ آخرَ على أنها قراءةٌ منقولة عن الفرَّاء.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجهٌ أيضًا، أحدها: أن تكون ما بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و{جئتم به} صلةٌ وعائدُه، و{السحرُ} خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحرُ، ويؤيِّد هذا التقديرَ قراءةُ أُبَيّ وما في مصحفه: {ما أتيتم به سحرٌ} وقراءةُ عبد الله والأعمش: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر}.
الثاني: أن تكونَ ما استفهاميةً في محلِّ نصبٍ بإضمارِ فعل على ما تقرَّر، و{السحر} خبر ابتداء مضمر أو مبتدأٌ مضمرُ الخبر.