فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: أن تكونَ ما في محلّ رفعٍ بالابتداءِ، والسحر على ما تقدَّم مِنْ كونِه مبتدأً أو خبرًا، والجملةُ خبر ما الاستفهامية. قال الشيخ بعدما ذكر الوجه الأول: ويجوز عندي أن تكونَ في هذا الوجهِ استفهاميةً في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التحقيرِ والتقليلِ لِما جاؤوا به، و{السحر} خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السحر.
قلت: ظاهرُ عبارتِه أنه لم يَرَه غيرُه، حيث قال عندي، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكي. قال أبو البقاء: لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان، ثم قال: ويجوزُ أن تكونَ ما استفهامًا، و{السحر} خبر مبتدأ محذوف. وقال مكي في قراءةِ غيرِ أبي عمرو بعد ذِكره كونَ ما بمعنى الذي: ويجوز أن تكونَ ما رفعا بالابتداء وهي استفهامُ، و{جئتم به} الخبر، و{السحر} خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو السحر، ويجوز أن تكونَ ما في موضعِ نصبٍ على إضمارِ فعلٍ بعد ما تقديرُه: أيُّ شيء جئتم به، و{السحرُ} خبر ابتداء محذوف.
الرابع: أن تكونَ هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: إنها على نيةِ الاستفهام، ولكن حُذِفَتْ أداتُه للعلم بها، قال أبو البقاء: ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه استفهامٌ في المعنى أيضًا: وحُذِفَتْ الهمزةُ للعِلْم بها، وعلى هذا الذي ذكره يكونُ الإِعرابُ على ما تقدم. واعلم أنَّك إذا جَعَلْتَ ما موصولةً بمعنى الذي امتنع نصبُها بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. قال مكي: ولا يجوز أن تكونَ ما بمعنى الذي في موضعِ نصبٍ لأن ما بعدها صلتُها، والصلةُ لا تعملُ في الموصول، ولا يكون تفسيرًا للعامل في الموصول، وهو كلامٌ صحيح، فتلخَّص من هذا أنها إذا كانَتْ استفهاميةً جاز أن تكونَ في محل رفع أو نصب، وإذا كانت موصولةً تعيَّن أن يكون مَحَلُّها الرفع بالابتداء.
وقال مكي: وأجاز الفراءُ نصبَ السحر، تجعل ما شرطًا، وتنصِبُ السحرَ على المصدر، وتضمرُ الفاء مع {إن الله سيُبْطِله}، وتجعلُ الألفَ واللامَ في {السحر} زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز علي ابن سليمان حَذْفَ الفاءِ من جواب الشرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، ولم يُجِزْه غيره إلا في ضرورة شعر. قلت: وإذا مَشَيْنا مع الفراء فتكون ما شرطًا يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به فإن الله سيبطله، ويُبَيِّن أن ما يراد بها السحر قولُه: {السحر}، ولكن يَقْلَقُ قولُه: إن نصب السحر على المصدرية، فيكون تأويله أنه منصوبٌ على المصدرِ الواقعِ موقعَ الحال، ولذلك قدَّره بالنكرة، وجَعَلَ أل مزيدةً منه.
وقد نُقِلَ عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفراء: وإنما قال: {السحر} بالألف واللام لأنَّ النكرةَ إذا أُعيدت أعيدَتْ بالألِفِ واللام، يعني أن النكرةَ قد تَقَدَّمَتْ في قوله: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ}، وبهذا شَرَحَه ابنُ عطية. قال ابن عطية: والتعريفُ هنا في {السحر} أَرْتَبُ لأنه قد تقدَّم منكَّرًا في قولهم: {إنَّ هذا لسِحْر}، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أول الرسالة سلامٌ عليك.
قال الشيخ: وما ذكراه هنا في {السحر} ليس مِنْ تقدُّم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأنَّ شَرْطَ هذا أن يكون المعرَّفُ بأل هو المنكَّرَ المتقدَّمَ، ولا يكون غيره، كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15-16]، وتقول: زارني رجلٌ فأكرمت الرجل لَمَّا كان إياه جاز أن يُؤْتى بضميره بَدَلَه، فتقول: فأكرمتُه، والسحرُ هنا ليس هو السحرَ الذي في قولهم: {إنَّ هذا لسحر} لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحرٌ هو ما ظهر على يَدَي موسى من معجزة العصا والسحر الذي في قولِ موسى، إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عَمَّا جاؤوا به، ولذلك لا يجوز أن يُؤْتى هنا بالضمير بدلَ السحر، فيكونَ عائدًا على قولهم: {لسِحْر}.
قلت: والجوابُ أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدمَ الذِّكر في اللفظ، وإن كان الثاني هو غيرَ عينِ الأول في المعنى، ولكن لمَّا أُطْلِق عليهما لفظ {السحر} جاز أن يُقال ذلك، ويدلُّ على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى: {والسلام عَلَيَّ} [مريم: 33]: إن الألفَ واللام للعهد لتقدُّم ذكر السلام في قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15]، وإن كان السلامُ الواقعُ على عيسى هو غيرَ السلام الواقع على يحيى، لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصُه به، وهذا النقل المذكورُ عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نَقَله عنه مكيٌّ فيهما، اللهم إلا أن يُقال: يُحتمل أن يكونَ له مقالتان، وليس ببعيدٍ فإنه كلما كَثُر العلمُ اتسعت المقالاتُ.
وقوله: {المفسدين} مِنْ وقوع الظاهرِ موقعَ ضمير المخاطب إذ الأصلُ: لا يُصلح عملَكم، فأبرزهم في هذه الصفةِ الذَّميمةِ شهادةً عليهم بها.
{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}، وقرئ: {بكلمته} بالتوحيد، وقد تقدَّم نظيرُه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف الإمام القشيري في الآيات:
قال عليه الرحمة:
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)}
لما استعان في استدفاع ما استقبله بغير الله لم يلبث إلا يسيرًا حتى تَبَرَّأَ منهم وتَوَعدَّهم بقوله: لأفعلنَّ ولأصنعنَّ، وكذلك قصارى كل حجة وولاية إذا كانت في غير الله فإنها تؤول إلى العداوة والبغضة، قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ} [الزخرف: 67].
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)}
أمَرَهُم أمرًا يُظْهِرُ به بُطْلاَنَهم ليُدخل الحقَّ على ما أتوا به من التموية، فلذلك قال موسى عليه السلام: {إن الله سيبطله}؛ فلمَّا التقمت عصا موسى- جميع ما جاءوا به من حِبَالِهم وعِصِيَّهِم- حين قَلَبَها اللَّهُ حيَّةً.. عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ أبطل تلك الأعيان وأفناها.
قوله جلَّ ذكره: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ}.
من جملة ما أَحقَّه أن السَّحَرَةَ كان عندهم أنهم يَنْصُرون فرعون ويجيبونه فكانوا يُقْسِمون بِعِزَّته حيث قالوا: {بِعِزَّةِ فرعونَ إنا لنحن الغالبون} وقال الحقُّ سبحانه: بعزتي إنكم لمغلوبون، فكان على ما قال تعالى: دون ما قالوه، وفي معناه قالوا:
كم رَمَتْني بِأَسْهُم صائباتٍ ** وتَعَمَّدْتُها بِسَهْمٍ فطاشا

.اهـ.

.تفسير الآية رقم (83):

قوله تعالى: {فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه إفسادًا، فثبت ما أتى به لمخالفته له، أخبر تعالى- تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وفطمًا عن طلب الإجابة للمقترحات- أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير، فقال تعالى: {فما آمن} أي متبعًا: {لموسى} أي بسبب ما فعل، ليعلم أن الآيات ليست سببًا للهداية إلا لمن أردنا ذلك منه؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله: {إلا ذرية} أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة: {من قومه} أي قوم موسى الذين لهم القدرة على القيام في المحاولة لما يريدونه، والظاهر أنهم كانوا أيتامًا وأكثرهم- كما قاله مجاهد: {على خوف} أي عظيم: {من فرعون وملئهم} أي أشراف قوم الذرية؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون أن يسلبهم رئاستهم، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال: {أن يفتنهم} وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكدًا تنزيلًا لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لعلوهم: {وإن فرعون لعال} أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له: {في الأرض} أي أرض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض: {وإنه لمن المسرفين} أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى: {وإن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] كان قياسًا بديهيًا منتجًا إنتاجًا صريحًا قطعيًا أن فرعون من أصحاب النار، تكذبيًا لأهل الوحدة في قولهم: إنه آمن، ليهونوا المعاصي عند الناس فيحلوا بذلك عقائد أهل الدين. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}
واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر، ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه، وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر، فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة، لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية.
واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه: الأول: أن الذرية هاهنا معناها تقليل العدد.
قال ابن عباس: لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير، ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه الإهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد.
الثاني: قال بعضهم: المراد أولاد من دعاهم، لأن الآباء استمروا على الكفر، إما لأن قلوب الأولاد ألين أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف.
الثالث: أن الذرية قوم كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل.
الرابع: الذرية من آل فرعون آسية امرأة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطتها.
وأما الضمير في قوله: {مِن قَوْمِهِ} فقد اختلفوا أن المراد من قوم موسى أو من قوم فرعون، لأن ذكرهما جميعًا قد تقدم والأظهر أنه عائد إلى موسى، لأنه أقرب المذكورين ولأنه نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل.
أما قوله: {على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} ففيه أبحاث:
البحث الأول:
أن أولئك الذين آمنوا بموسى كانوا خائفين من فرعون جدًا، لأنه كان شديد البطش وكان قد أظهر العداوة مع موسى، فإذا علم ميل القوم إلى موسى كان يبالغ في إيذائهم، فلهذا السبب كانوا خائفين منه.
البحث الثاني:
إنما قال: {وَمَلَئِهِمْ} مع أن فرعون واحد لوجوه: الأول: أنه قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع، والمراد التعظيم قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] الثاني: أن المراد بفرعون آل فرعون.
الثالث: أن هذا من باب حذف المضاف كأنه أريد بفرعون آل فرعون.
ثم قال: {أَن يَفْتِنَهُمْ} أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم.
ثم قال: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض} أي لغالب فيها قاهر: {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} قيل: المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور، والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين، وقيل: إنما كان مسرفًا لأنه كان من أخس العبيد فادعى الإلهية. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فَمَا ءَآمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذِرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ}
فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الذرية القليل، قاله ابن عباس.
الثاني: أنهم الغلمان من بني إسرائيل لأن فرعون كان يذبحهم فأسرعوا إلى الإيمان بموسى، قاله زيد بن أسلم.
الثالث: أنهم أولاد الزمن قاله مجاهد.
الرابع: أنهم قوم أمهاتهم من بني إسٍرائيل وآباؤهم من القبط.
ويحتمل خامسًا: أن ذرية قوم موسى نساؤهم وولدانهم.
{عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِمْ} يعني وعظمائهم وأشرافهم.
{أَنَ يَفْتِنَهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن يعذبهم، قاله ابن عباس.
الثاني: أن يكرههم على استدامة ما هم عليه.
{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان:
أحدهما: أي متجبر، قاله السدي.
الثاني: باغ طاغ، قاله ابن إسحاق.
{وِإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} يعني في بغيه وطغيانه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}
المعنى فما صدق موسى، ولفظة: {آمن} تتعدى بالباء، وتتعدى باللام وفي ضمن المعنى الباء، واختلف المتأولون في عود الضمير الذي في: {قومه} فقالت فرقة: هو عائد على موسى، وقالت فرقة هو عائد على: {فرعون}، فمن قال إن العود على موسى قال معنى الآية وصف حال موسى في أول مبعثه أنه لم يؤمن به إلا فتيان وشباب أكثرهم أولو آباء كانوا تحت خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل، فالضمير في الملأ كعائد على الذرية وتكون الفاء على هذا التأويل عاطفة جملة على جملة لا مرتبة، وقال بعض القائلين بعود الضمير على موسى: إن معنى الآية أن قومًا أدركهم موسى ولم يؤمنوا به وإنما آمن ذريتهم بعد هلاكهم لطول الزمان، قاله مجاد والأعمش، وهذا قول غير واضح، وإذا آمن قوم بعد موت آبائهم فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية، وأيضًا فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا، وهيئة قوله: {فما آمن} يعطي تقليل المؤمنين به لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه للبعض ولو كان الأكثر مؤمنًا لأوجب الإيمان أولًا ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يترجح قول ابن عباس في الذرية إنه القليل لا أنه أراد أن لفظة الذرية هي بمعنى القليل كما ظن مكي وغيره، وقالت فرقة إنما سماهم ذرية لأن أمهاتهم كانت من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط، فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء وهم الفرس المنتقلون مع وهرز بسعاية سيف بن ذي يزن، والأمر بكماله في السير، وقال السدي كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون.
قال القاضي أبو محمد: ومما يضعف عود الضمير على موسى أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قومًا قد تقدمت فيهم النبوات وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبيًا، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه واتبعوه ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به فكيف تعطي هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن، فالذي يترجح بحسب هذا أن الضمير عائد على فرعون ويؤيد ذلك أيضًا ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم وتوبيخهم على قولهم هذا سحر، فذكر الله ذلك عنهم، ثم قال: {فما آمن لموسى إلا ذرية} من قوم فرعون الذين هذه أقوالهم، وروي في ذلك أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه، قال ابن عباس، والسحرة أيضًا فإنهم معدودون في قوم فرعون وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا، وتكون الفاء مرتبة للمعاني، التي عطفت، ويعود الضمير في: {ملئهم} على الذرية، ولاعتقاد الفراء وغيره عود الضمير على موسى تخبطوا في عود الضمير في: {ملئهم}، فقال بعضهم: ذكر فرعون وهو الملك يتضمن الجماعة والجنود، كما تقول جاء الخليفة وسافر الملك وأنت تريد جيوشه معه، وقال الفراء: المعنى على خوف من آل فرعون وملئهم وهو من باب: {واسأل القرية} [يوسف: 82].
قال القاضي أبو محمد: وهذا التنظير غير جيد لأن إسقاط المضاف في قوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] هو سائغ بسبب ما يعقل من أن اسأل القرية لا تسأل، ففي الظاهر دليل على ما أضمر، وأما هاهنا فالخوف من فرعون متمكن لا يحتاج معه إلى إضمار، إما أنه ربما احتج أن الضمير المجموع في: {ملئهم} يقتضي ذلك والخوف إنما يكون من الأفعال والأحداث التي للجثة ولكن لكثرة استعماله ولقصد الإيجاز أضيف إلى الأشخاص، وقوله: {أن يفتنهم} بدل من: {فرعون} وهو بدل الاشتمال، ف: {أن} في موضع خفض، ويصح أن تكون في موضع نصب على المفعول من أجله، وقرأ الحسن والجراح، ونبيح {أن يُفتنهم} بضم الياء، ثم أخبر عن فرعون بالعلو في الأرض والإسراف في الأفعال والقتل والدعاوى ليتبين عذر الخائفين. اهـ.