فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}
روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتًا بمصر، قال مجاهد: {مصر} في هذه الآية الإسكندرية، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر، و: {تبوّا} معناه كما قلنا تخيرًا واتخذا، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها، ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ** لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا

وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرئ القيس: [الكامل]
يتبوأون مقاعدًا لقتالكم ** كليوثِ غابٍ ليلهن زئير

وقرأ الناس {تبوّا} بهمزة على تقدير تبوعا، وقرأ حفص في رواية هبيرة {تبويا} وهذا تسهيل ليس بقياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، قوله: {قبلة} ومعناه مساجد، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم، قالوا: خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم، وقيل يقابل بعضها بعضًا، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة، قاله ابن عباس، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة»، وقوله: {وأقيموا الصلاة} خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر، وقوله: {وبشر المؤمنين} أمر لموسى عليه السلام، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متمكن. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}
فيه خمس مسائل:
الأُولى:
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا} أي اتخذا.
{لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} يقال: بوّأت زيدًا مكانًا، وبوّأت لزيد مكانًا.
والمبوَّأ المنزل الملزوم؛ ومنه بوّأه الله منزلًا، أي ألزمه إياه وأسكنه؛ ومنه الحديث: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار» قال الراجز:
نحن بنو عدنان ليس شك ** تبوّأ المجد بنا والملك

ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية؛ في قول مجاهد.
وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أُسوان، والإسكندرية من أرض مصر.
الثانية:
قوله تعالى: {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلّون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أُرسل موسى أمر فرعونُ بمساجد بني إسرائيل فخرّبت كلها ومنعوا من الصلاة؛ فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيّرا لبني إسرائيل بيوتًا بمصر، أي مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة.
هذا قول إبراهيم وابن زيد والرّبيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم.
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جُبَير أن المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا.
والقول الأوّل أصح؛ أي اجعلوا مساجدكم إلى القِبلة؛ قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم؛ قاله ابن بحر.
وقيل الكعبة.
عن ابن عباس قال: وكانت الكعبة قِبلة موسى ومن معه، وهذا يدلّ على أن القبلة في الصلاة كانت شرعًا لموسى عليه السلام، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة؛ فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة.
وقيل: المراد صلّوا في بيوتكم سرًّا لتأمنوا؛ وذلك حين أخافهم فرعون فأمِروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله: {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا} [الأعراف: 128] الآية.
وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البِيَع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم.
قال ابن العربي: والأوّل أظهر القولين؛ لأن الثاني دعوى.
قلت: قوله: دعوى صحيح؛ فإن في الصحيح قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا» وهذا مما خُصّ به دون الأنبياء؛ فنحن بحمد الله نصلِّي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة؛ إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها.
وقبل الصلوات المفروضات وبعدها؛ إذ النوافل يحصل فيها الرياء، والفرائض لا يحصل فيها ذلك، وكلما خلَص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى.
روى مسلم عن «عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوّعه قالت: كان يصلّي في بيتي قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج فيصلّي بالناس، ثم يدخل فيصلّي ركعتين، وكان يصلّي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلِّي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين...» الحديث.
وعن ابن عمر قال: صلّيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين؛ فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته. وروى أبو داود عن كعب بن عُجْرة «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب؛ فلما قضْوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال: «هذه صلاة البيوت».
الثالثة:
واختلف العلماء من هذا الباب في قيام رمضان، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوِي عليه، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي.
وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل.
وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه.
والحجة لمالك ومن قال بقوله قولُه صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» خرّجه البخاريّ.
احتج المخالف بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد صلاّها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم» ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعًا متفرقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الأمر على ذلك وثبت سُنّة.
الرابعة:
وإذا تنزلنا على أنه كان أُبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدلّ به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة.
والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف زيادته، أو خوف جور السلطان في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق.
والمطرُ الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له وليِّ حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرّضه؛ وقد فعل ذلك ابن عمر.
الخامسة:
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين} قيل: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل لموسى عليه السلام، وهو أظهر، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوّهم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {وأوحينا إلى موسى وأخيه} هارون: {أن تبوا لقومكما بمصر بيوتًا} يعني اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا للصلاة فيها يقال تبوأ فلان لنفسه بيتًا إذا اتخذه مباءة أي وطنًا والمعنى اجعلا بمصر لقومكما بيوتًا ترجعون إليها للصلاة والعبادة: {واجعلوا بيوتكم قبلة} اختلف أهل التفسير في معنى هذه البيوت والقبلة فمنهم من قال أراد بالبيوت المساجد التي يصلى فيها وفسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة فعلى هذا يكون معنى الكلام واجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة وقيل معناه اجعلوا بيوتكم إلى القبلة.
واختلفوا في هذه القبلة، وظاهر القرآن لا يدل على تعيينها إلا أنه قد نقل عن ابن عباس أنه قال: كانت الكعبة قبلة لموسى وهارون، وهو قول مجاهد أيضًا قال ابن عباس: قالت بنو إسرائيل لموسى لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وأن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة وقيل كانت القبلة إلى جهة المقدس.
وقيل: أراد مطلق البيوت وعلى هذا يكون معنى قوله واجعلوا بيوتكم قبلة أي مقابلة يعني يقابل بعضها بعضًا وقيل معناه واجعلوا في بيوتكم قبلة تصلون إليها.
فإن قلت: إنه سبحانه وتعالى خص موسى وهرون بالخطاب في أول الآية بقوله سبحانه وتعالى: {وأخيه أن تبوا لقومكما} ثم إنه عم بهذا الخطاب فقال تعالى: {واجعلوا بيوتكم قبلة} فما السبب فيه.
قلت: إنه سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون بأن يتبوءا قومهما بيوتًا للعبادة وذلك مما يخص به الأنبياء فخصا بالخطاب لذلك.
ثم لما كانت العبادة عامة تجب على الكافة عمَّ بالخطاب الجميع فقال تعالى: {واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة} يعني في بيوتكم وذلك حين خاف موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل من فرعون وقومه إذا صلوا في الكنائس والبيع الجامعة أن يؤذهم فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يصلوا في بيوتهم خفية من فرعون وقومه، وقيل: كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في الكنائس الجامعة وكانت ظاهرة فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريب تلك الكنائس ومنعهم من الصلاة فيها فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون.
وقيل: إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وهارون وأظهرهما على فرعون أمرهم باتخاذ المساجد ظاهرة على رغم الأعداء وتكفل لهم بصونهم من شرهم وهو قوله سبحانه وتعالى: {وبشر المؤمنين} يعني بأنه لا يصل إليهم مكروه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}
لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولًا في قوله: {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون} وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعًا للعبادة والصلاة كما تقول: توطن اتخذ موطنًا، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر.
قال الضحاك: وهي مصر المحروسة، ومصر من البحر إلى أسوان، والاسكندرية من أرض مصر.
وقال مجاهد: هي الاسكندرية، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم، ومنعهم من الصلوات، وكلفهم الأعمال الشاقة.
وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأنْ يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام.
وقرأ حفص في رواية هبيرة: تبويا بالياء، وهذا تسهيل غير قياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، والظاهر أنّ المأمور بأنْ يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها.
ومعنى قبلة مساجد: أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله: النخعي، وابن زيد، وروي عن ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضًا: واجعلوا بيوتكم قبل القبلة، وعنه أيضًا: قبل مكة.
وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء: أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة.
وعن ابن عباس أيضًا وابن جبير: قبلة يقابل بعضها بعضًا.
وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر.
وبشر المؤمنين يعني: بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وهو أمر لموسى عليه السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء.
ثم نسق الخطاب عامًا لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيمًا له وللمبشر به. اهـ.