فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: {واشدد على قُلُوبِهِمْ} ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان.
قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال.
ثم قال: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} وفيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يكون معطوفًا على قوله: {لِيُضِلُّواْ} والتقدير: ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ} يكون اعتراضًا.
والثاني: يجوز أن يكون جوابًا لقوله: {واشدد} والتقدير: اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا، فإنها تستحق ذلك.
ثم قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} وفيه وجهان: الأول: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، فلذلك قال: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضًا داع، لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضًا.
الثاني: لا يبعد أن يكون كل واحد منهما، ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال: إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله: {وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا} إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هارون قد ذكر ذلك الدعاء أيضًا.
وأما قوله: {فاستقيما} يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة، والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلًا فلا تستعجلا، قال ابن جُرَيْج: إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
وأما قوله: {وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} ففيه بحثان:
البحث الأول:
المعنى: لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابًا كان المقصود حاصلًا في الحال، فربما أجاب الله تعالى دعاء إنسان في مطلوبه، إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال لنوح عليه السلام: {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46].
واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] لا يدل على صدور الشرك منه.
البحث الثاني:
قال الزجاج: قوله: {وَلاَ تَتَّبِعَانّ} موضعه جزم، والتقدير: ولا تتبعا، إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية، وقرأ ابن عامر: {وَلاَ تَتَّبِعَانّ} بتخفيف النون. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {... رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها، قاله قتادة. فذكر لنا أن زروعهم وأموالهم صارت حجارة منقوشة، قاله الضحاك.
{وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: بالضلالة ليهلكوا كفارًا فينالهم عذاب الآخرة، قاله مجاهد.
الثاني: بإعمائها عن الرشد.
الثالث: بالموت، قاله ابن بحر.
الرابع: اجعلها قاسية.
{فَلاَ يُؤْمنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} قال ابن عباس هو الغرق.
قوله عز وجل: {قَالَ قَدْ أُجِيبت دَّعْوَتُكُمَا} قال أبو العالية والربيع: دعا موسى وأمَّن هارون فسمي هارون وقد أمّن على الدعاء داعيًا، والتأمين على الدعاء أن يقول آمين.
واختلف في معنى آمين بعد الدعاء وبعد فاتحة الكتاب في الصلاة على ثلاثة أقاويل:
أحدها: معناه اللهم استجب، قاله الحسن.
الثاني: أن آمين اسم من أسماء الله تعالى، قاله مجاهد، قال ابن قتيبة وفيه حرف النداء مضمر وتقديره يا آمين استجب دعاءنا.
الثالث: ما رواه سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آمين خَاتَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ» يعني أنها تمنع من وصول الأذى والضرر كما يمنع الختم من الوصول إلى المختوم عليه.
وفرق ابن عباس في معنى آمين بين وروده بعد الدعاء وبين وروده بعد فاتحة الكتاب فقال: معناه بعد الدعاء: اللهم استجب، ومعناه بعد الفاتحة: كذلك فليكن.
قال محمد بن علي وابن جريج: وأخّر فرعون بعد إجابته دعوتهما أربعين سنة.
{فَاسْتَقِيمَا} فيه وجهان:
أحدهما: فامضيا لأمري فخرجا في قومهم، قاله السدي.
الثاني: فاستقيما في دعوتكما على فرعون وقومه، وحكاه علي بن عيسى.
وقيل: إنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن لأن دعاءه موجب لحلول الانتقام وقد يجوز أن يكون فيهم من يتوب. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وقال موسى} الآية غضب من موسى على القبط ودعاء عليهم فقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها، و: {آتيت} معناه أعطيت وملكت، وتكرر قوله: {ربنا} استغاثة كما يقول الداعي بالله، وقوله: {ليضلوا} يحتمل أن يكون لام كي على بابها على معنى آتيتهم الأموال إملاء لهم واستدراجًا فكان الإيتاء كي يضلوا ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة، كما قال: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنًا} [القصص: 8] والمعنى آتيتهم ذلك فصار أمرهم إلى كذا، وروي عن الحسن أنه قال: هو دعاء ويحتمل أن يكون المعنى على جهة الاستفهام أي ربنا ليضلوا فعلت ذلك، وفي تقرير الشنعة عليهم.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وأبو رجاء وأهل مكة: {ليَضلوا} بفتح الياء على معنى ليضلوا في أنفسهم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي والأعمش وقتادة وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنه {ليُضلوا} بضم الياء على معنى ليضلوا غيرهم، وقرأ الشعبي {ليِضلوا} بكسر الياء، وقرأ الشعبي أيضًا وغير {اطمُس} بضم الميم، وقرأت فرقة {اطمِس} بكسر الميم وهما لغتان، وطمس يطمس ويطمُس، قال أبو حاتم: وقراءة الناس بكسر الميم والضم لغة مشهورة، معناه عف وغيره وهو من طموس الأثر والعين وطمس الوجوه ومنه قول كعب بن زهير: [البسيط]
من كل نضاخه الذفرى إذا عرفت ** عرضتها طامس الأعلام مجهول

وروي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة رجع سكرهم حجارة وزادهم ودنانيرهم وحبوبهم من الأطعمة رجعت حجارة، قاله محمد بن كعب القرظي وقتادة وابن زيد، قاله مجاهد وغيره، معناه أهلكها ودمرها، وروي أن الطمسة من آيات موسى التسع، وقوله: {اشدد على قلوبهم} بمعنى اطبع واختم عليهم بالكفر، قاله مجاهد والضحاك، ولما أشار عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أسرى بدر شبهه بموسى في دعائه على قومه الذين بعث إليهم في هذه الآية وبنوح في قوله: {لا تذر على الأرض من الكافريرن ديارًا} [نوح: 26]. وقوله: {فلا يؤمنوا} مذهب الأخفش وغيره أن الفعل منصوب عطفًا على قوله: {ليضلوا}، وقيل هو منصوب في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزوم على الدعاء ومنه قول الشاعر [الأعشى]: [الطويل]
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ** ولا تلقني إلاَّ وأنفُكَ راغمُ

وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية، وذلك لعلمه من قبل الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره، ثم أجاب الله هذه الدعوة في فرعون نفسه، قال ابن عباس: {العذاب} هنا الغرق، وقرأ الناس {دعوتكما}، وقرأ السدي والضحاك {دعواتكما}، وروي عن ابن جريج ومحمد بن علي والضحاك أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وحينئذ كان الغرق.
قال القاضي أبو محمد: وأعلما أن دعاءهما صادق مقدورًا، وهذا معنى إجابة الدعاء، وقيل لهما: {لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} أي في أن تستعجلا قضائي فإن وعدي لا خلف له، وقوله: {دعوتكما} ولم يتقدم الدعاء إلا لموسى، وروي أن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى، قاله محمد بن كعب القرظي، نسب الدعوة إليهما، وقيل كنّى عن الواحد بلفظ التثنية كما قال قفا نبكي ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن الآية تتضمن بعد مخاطبتهما من غير شيء، قال علي بن سليمان قول موسى: {ربنا} دال على أنهما دعوا معًا، وقوله: {فاستقيما} أي على ما أمرتما به من الدعاء إلى الله، وأمر بالاستقامة وهما على الإدامة والتمادي، وقرأ نافع والناس {تتّبعانّ} بشد التاء والنون على النهي، وقرأ ابن عامر وابن ذكوان {تتبعانّ} بتخفيف التاء وشد النون، وقرأ ابن ذكوان أيضًا: {تتّبعانِ} بشد التاء وتخفيف النون وكسرها، وقرأت فرقة {تَتبعانْ} بتخفيفها وسكون النون رواه الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فهي النون الثقيلة حذفت معها نون التثنية للجزم كما تحذف معها الضمة في لتفعلنّ بعد ألف التثنية وأما تخفيفها فيصح أن تكون الثقيلة خففت ويصح أن تكون نون التثنية ويكون الكلام خبرًا معناه الأمر، أي لا ينبغي أن تتبعا، قال أبو علي: إن شئت جعلته حالًا من استقيما كأنه قال غير متبعين. قال القاضي أبو محمد: والعطف يمانع في هذا فتأمله. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ} {آتَيْتَ} أي أعطيت.
{زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الحياة الدنيا} أي مال الدنيا، وكان لهم من فُسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزّبرجد والزّمرد والياقوت.
قوله تعالى: {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} اختلف في هذه اللام، وأصح ما قيل فيها وهو قول الخليل وسيبويه أنها لام العاقبة والصيرورة؛ وفي الخبر: «إن لله تعالى مَلَكا ينادي كلّ يوم لِدُوا للموت وابنوا للخراب» أي لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضِلّوا.
وقيل: هي لام كيّ، أي أعطيتهم لكي يضلوا ويَبْطَروا ويتكبروا.
وقيل: هي لام أجْل، أي أعطيتهم لأجل إعراضهم عنك فلم يخافوا أن تعرض عنهم.
وزعم قوم أن المعنى: أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا كما قال عز وجل: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176].
والمعنى: لأن لا تضلوا.
قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن؛ فموّه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل: {أَن تَضِلُّواْ}.
وقيل: اللام للدعاء، أي ابتلهم بالضلال عن سبيلك؛ لأن بعده: {اطمس عَلَى أَمْوَالِهِمْ واشدد}.
وقيل: الفعل معنى المصدر أي إضلالهم؛ كقوله عز وجل: {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ}.
قرأ الكوفيون: {لِيُضِلُّوا} بضم الياء من الإضلال، وفتحها الباقون.
قوله تعالى: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ} أي عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم.
قال الزجاج: طَمْسُ الشيء إذهابه عن صورته.
قال ابن عباس ومحمد بن كعب: صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافًا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد.
وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة.
وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا تُرَى؛ يقال: عين مطموسة، وطُمس الموضع إذا عفا ودرَس.
وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة.
محمد بن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين؛ قال: وسألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له فدعا بخريطة أُصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة.
وقال السدّي: وكانت إحدى الآيات التسع.
{واشدد على قُلُوبِهِمْ}.
قال ابن عباس: أي امنعهم الإيمان.
وقيل: قَسِّها واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان؛ والمعنى واحد.
{فَلاَ يُؤْمِنُواْ} قيل: هو عطف على قوله: {لِيَضِلُّوا} أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا؛ قاله الزجاج والمبرد.
وعلى هذا لا يكون فيه من معنى الدعاء شيء.
وقوله: {رَبَّنَا اطمس}، {واشدد} كلام معترَض.
وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء، فهو في موضع جزم عندهم؛ أي اللهم فلا يؤمنوا، أي فلا آمنوا.
ومنه قول الأعشى:
فلا ينبسطْ من بين عينَيْك ما انزوى ** ولا تَلْقَني إلا وأنفُك راغِمُ

أي لا انبسط.
ومن قال: {لِيَضِلّوا} دعاء أي ابتلهم بالضلال قال: عطف عليه {فَلاَ يُؤْمِنُوا}.
وقيل: هو في موضع نصب لأنه جواب الأمر؛ أي واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا.
وهذا قول الأخفش والفراء أيضًا، وأنشد الفراء:
يا ناق سيري عَنَقًا فسيحا ** إلى سليمان فنستريحا

فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب.
{حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} قال ابن عباس: هو الغرق.