فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أَيْ نَجِّنَا مِنْ سُلْطَانِهِمْ وَحُكْمِهِمْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَافِرِ لَا يُطَاقُ، وَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فِي جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (60: 4، 5) وَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ بِهَذِهِ الْأُسْوَةِ وَتَجْدِيدِ الْإِنَابَةِ، وَتَكْرَارُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاشِعِينَ مُعْتَبِرِينَ مُسْتَعْبِرِينَ فَقَدْ أَصْبَحُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} يُقَالُ تَبَوَّأَ الدَّارَ: اتَّخَذَهَا مُبَوَّءًا أَوْ مَبَاءَةً أَيْ مَسْكَنًا ثَابِتًا وَمَلْجَأً يَبُوءُ إِلَيْهِ، أَيْ يَرْجِعَ كُلَّمَا فَارَقَهُ لِحَاجَةٍ، وَبَوَّأَهَا غَيْرَهُ، وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَبَوَّا} تَفْسِيرٌ لِأَوْحَيْنَا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى قُلْنَا لَهُمَا: اتَّخِذُوا لِقَوْمِكُمَا بُيُوتًا فِي مِصْرَ تَكُونُ مَسَاكِنَ وَمَلَاجِئَ يَبُوءُونَ إِلَيْهَا وَيَعْتَصِمُونَ بِهَا.
{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أَيْ مُتَقَابِلَةً فِي وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يُقَابِلُ الْإِنْسَانَ وَيَكُونُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَمِنْهُ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَخَصُّ وَيَصِحُّ الْجَمْعُ هُنَا بَيْنَ الْمَعْنِيِّينَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَيْ فِيهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ فِي الِاتِّجَاهِ يُسَاعِدُ عَلَى اتِّحَادِ الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حِكْمَةِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ «وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» وَحِكْمَةُ هَذَا أَنْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِتَبْلِيغِهِمَا إِيَّاهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ وَيَعْنِيهِمْ مِمَّا بُعِثَا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ إِنْجَاؤُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِاسْتِقْبَالِهَا وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِنَصٍّ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بِحِفْظِ اللهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِتْنَةِ فِرْعَوْنَ وَمِلْئِهِ الظَّالِمِينَ لَهُمْ وَتَنْجِيَتِهِمْ مِنْ ظُلْمِهِمْ. خَصَّ اللهُ مُوسَى بِهَذَا الْأَمْرِ {التَّبْشِيرِ} لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ الْمَنُوطِ بِهِ، وَأَشْرَكَ هَارُونَ مَعَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ عَمَلِيٌّ هُوَ وَزِيرُهُ الْمُسَاعِدُ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ.
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا الرَّابِطَتَانِ بَيْنَ سِيرَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي مِصْرَ، وَبَيْنَ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ لَهُ عَلَيْهِ وَإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَإِهْلَاكِهِ عِقَابًا لَهُ كَمَا وَقَعَ لِنُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ.
{وَقَالَ مُوسَى} بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ إِعْدَادًا دِينِيًّا دُنْيَوِيًّا، مُتَوَجِّهًا إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي إِتْمَامِ الْأَمْرِ، بَعْدَ قِيَامِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَسْبَابِ: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ إِنَّكَ أَعْطَيْتَ فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ وَكُبَرَاءَهُمْ دُونَ دُهَمَائِهِمْ- مِنَ الصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ وَالْجُنْدِ وَالْخَدَمِ- زِينَةً مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَالْآنِيَةِ وَالْمَاعُونِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ، وَأَمْوَالًا كَثِيرَةَ الْأَنْوَاعِ وَالْمَقَادِيرِ، يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيُنْفِقُونَ مِنْهَا فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِدُونِ حِسَابٍ {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ هَذَا الْعَطَاءِ إِضْلَالَ عِبَادِكَ عَنْ سَبِيلِكَ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِكَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الزِّينَةَ سَبَبُ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالطُّغْيَانِ عَلَى النَّاسِ، وَكَثْرَةَ الْأَمْوَالِ تُمَكِّنُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَتُخْضِعُ رِقَابَ النَّاسِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (96: 6، 7) وَذَلِكَ دَأْبُ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ، بِهِ تَشْهَدُ آثَارُهُمْ وَرِكَازُهُمُ الَّتِي لَا تَزَالُ تُسْتَخْرَجُ مِنْ بِرَابِيهِمْ وَنَوَاوِيسِ قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا الَّذِي أَكْتُبُ فِيهِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتُحْفَظُ فِي دَارِ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيُوجَدُ مِثْلُهَا دُورٌ أُخْرَى فِي عَوَاصِمِ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ مَلْأَى بِأَمْثَالِهَا، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {لِيُضِلُّوا} تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ وَهِي الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا أَثَرٌ وَغَايَةٌ فِعْلِيَّةٌ لِمُتَعَلِّقِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ لَا بِالسَّبَبِيَّةِ وَلَا بِقَصْدِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (28: 8) وَيُمَيَّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ كَيِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلَّةِ الْفِعْلِ بِالْقَرِينَةِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ هُنَا مِنْهَا وَحَمَلُوهَا عَلَى الِاسْتِدْرَاجِ، أَيْ آتَيْتَهُمْ ذَلِكَ لِكَيْ يُضِلُّوا النَّاسَ فَيَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ وَقَدْ يُعَزِّزُهُ قَوْلُهُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} يُقَالُ: طَمَسَ الْأَثَرُ وَطَمَسَتْهُ الرِّيحُ إِذَا زَالَ حَتَّى لَا يُرَى أَوْ لَا يُعْرَفَ {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} (36: 66) وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْعَمَى وَبِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} (43) وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَى هُنَا عَمَى الْبَصِيرَةِ لَا الْبَصَرِ وَالْمَعْنَى هُنَا: رَبَّنَا امْحَقْ أَمْوَالَهَمْ بِالْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُ حَرْثَهُمْ وَأَنْعَامَهُمْ وَتُنْقِصُ مَكَاسِبَهُمْ وَثَمَرَاتِهِمْ وَغَلَّاتِهِمْ فَيَذُوقُوا ذُلَّ الْحَاجَةِ {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا، وَزِدْهَا قَسَاوَةً وَإِصْرَارًا وَعِنَادًا، حَتَّى يَسْتَحِقُّوا تَعْجِيلَ عِقَابِكَ فَتُعَاقِبَهُمْ {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} هَذَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ أَوْ دُعَاءٌ آخَرُ بِلَفْظِ النَّهْيِ مُتَمِّمٌ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَمَّنَ هَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لَهُمَا بِقَوْلِهِ: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} أَيْ قُبِلَتْ، وَإِذَا قُبِلَتْ نُفِّذَتْ {فَاسْتَقِيمَا} عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْ إِعْدَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَامْضِيَا لِأَمْرِي وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ وَلَا تَسْلُكَانِ طَرِيقَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ سُنَّتِي فِي خَلْقِي وَإِنْجَازِ وَعْدِي لِرُسُلِي، فَتَسْتَعْجِلَا الْأَمْرَ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَتَسْتَبْطِئَا وُقُوعَهُ فِي إِبَّانِهِ.
هَذَا- وَإِنَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مَا يُفَسِّرُ اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ، بِمَا يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا مِنْ إِرْسَالِ اللهِ النَّوَازِلَ عَلَى مِصْرَ وَأَهْلِهَا، وَلُجُوءِ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ إِلَى مُوسَى عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْهَا لِيَدْعُوَ رَبَّهُ فَيَكْشِفَهَا عَنْهُمْ فَيُؤْمِنُوا بِهِ، حَتَّى إِذَا مَا كَشَفَهَا قَسَّى الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَأَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} إلى قوله: {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (7: 133: 136) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الطَّمْسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ مِنْ أَبَاطِيلِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ مِنْهَا كَمَا نَرَى صَدَّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَرَوْنَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ فِي وَقَائِعَ عَمَلِيَّةٍ وَأُمُورٍ حِسِّيَّةٍ.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكِ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ بِآخِرِ الْقِصَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ تَأْيِيدِ اللهِ لِمُوسَى وَأَخِيهِ الضَّعِيفَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَدَوْلَةً. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في الآيات: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الانتفاع وذلك لعدم استعدادهم حقيقة أو حكمًا بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيآت المظلمة؛ وكذا يقال فيما بعد، ثم إنه تعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا} بسلب حواسهم وعقولهم مثلًا: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] حيث طلب استعدادهم الغير المجعول ذلك: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار} لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية، وهذا التعارف قد يبقى إذا اتحذوا في الوجهة واتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا اختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذٍ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة.
{قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [يونس: 45] لما ينتفعون به: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} من جنسهم ليتمكنوا من الاستفاضة منه: {فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ} بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] فيعاملوا بخلاف ما يستحقون: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} [يونس: 48] إنكار للقيامة لاحتجابهم بما هم فيه من الكثافة: {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله} [يونس: 49] سلب لاستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن الله تعالى فيه، وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك استعجال ما وعدهم به: {تُرْجَعُونَ يا أيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب: {وَشِفَاء لِمَا في الصدور} أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين والتصفية والتهيء لتجليات الصفات الحقة: {وهدى} لأرواحكم إلى الشهود الذاتي: {وَرَحْمَةً} [يونس: 57] بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الاستعداد في مقام النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولًا ثم باليقين ثانيًا ثم بالعيان ثالثًا.
وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، ويقال: إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الامتحان: {قُلْ بِفَضْلِ الله} بتوفيقه للقبول في المقامتت: {وَبِرَحْمَتِهِ} بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} لا بالأمور الفانية القليلة المقدار الدنية القدر: {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] من الخسائس والمحقرات، وفسر بعضهم الفضل بانكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات.
وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء الله تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا انقطاع، ومن هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس سره: وقتي سرمد وبحري بلا شاطئ؛ وقيل: فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الانفصال، وقيل: فضله إلقاء نيران المحبة في قلوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين، وقيل: فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلى المحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية.
وقال الجنيد: فضل الله تعالى في الابتداء ورحمته في الانتهاء وهو مناسب لما قلنا، وقال الكتاني: فضل الله تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك،: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ} أي أخبروني ما أنزل الله سبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية: {فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا} كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة: {وَحَلاَلًا} كالقسم الثاني حيث قبلتموه: {قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ} في الحكم بالتحليل والتحريم: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] في ذلك، ثم أنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز من قائل: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ} إلخ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علومًا لا تحصى يمن الله تعالى بها على من يشاء، وفي قوله تعالى: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا} [طه: 114] إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم: {مَا أُوتِيتُمْ مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئًا من أهل الله تعالى مخالفًا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا: زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنًا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائمًا بينهم على ساق.
على أنه قد يقال لهم: ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضًا كسائر مجتهديكم؟ فإن قالوا: إن للمجتهد شروطًا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا: هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحًا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك، وإن كان الواضع لها أنتم وأنتم أجهل من ابن يوم فهي رد عليكم ولا حبًا ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذًا بكلام من ليس مجتهدًا وأنتم لا تجوزونه، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدًا متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدًا وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه، وأيضًا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطًا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى؟ وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه آثار التصفية والتهئ وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر.