فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

.فصل في قوله تعالى: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ}:

إنما ذكر لفظه ثم لأنه تعالى وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين.
وأظهر في ذلك درجة موسى عليه السلام وفضيلة بني إسرائيل ليكون ذلك تنبيهًا للحاضرين على علو درجتهم وتعريفًا للغائبين وتكملة للدين، كان ذلك من أعظم النعم فلما أتوا عقيب ذلك بأقبح أنواع الجهل والكفر كان ذلك في محل التعجب فهو كمن يقول إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا، ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء. اهـ.

.فصل: قصة السامري وما فيها من أمور تخالف العقل:

قال الفخر:
قال أهل السير: إن الله تعالى لما أغرق فرعون ووعد موسى عليه السلام إنزال التوراة عليه قال موسى لأخيه هارون: {اخلفنى في قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142]، فلما ذهب موسى إلى الطور، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط قال لهم هارون إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها فجمعوا نارًا وأحرقوها، وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه السلام حين تقدم على فرعون في دخول البحر فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة، ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصور منه عجلًا وألقى ذلك التراب فيه فخرج منه صوت كأنه الخوار، فقال للقوم: {هذا إلهكم وإله موسى} [طه: 88]، فاتخذه القوم إلهًا لأنفسهم.
فهذا ما في الرواية ولقائل أن يقول: الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز أن يتفقوا على ما يعلم فساده ببديهة العقل وهذه الحكاية كذلك لوجوه:
أحدها: أن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم المتخذ من الذهب الذي لا يتحرك ولا يحس ولا يعقل يستحيل أن يكون إله السموات والأرض، وهب أنه ظهر منه خوار ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلهًا.
وثانيها: أن القوم كانوا قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات القاهرة التي تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السلام، فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حد الضرورة ومع أن صدور الخوار من ذلك العجل المتخذ من الذهب يستحيل أن يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهًا.
والجواب: هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلا على وجه واحد، وهو أن يقال: إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السلام إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات، فقال السامري للقوم: وأنا أتخذ لكم طلسمًا مثل طلسمه وروح عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى عليه السلام في الإتيان بالخوارق، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام فلذلك وقعوا في تلك الشبهة. اهـ.

.فصل: فوائد في قصة السامري:

قال الفخر:
هذه القصة فيها فوائد:
أحدها: أنها تدل على أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، لأن أولئك اليهود مع أنهم شاهدوا تلك البراهين القاهرة اغتروا بهذه الشبهة الركيكة جدًّا، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم مع أنهم محتاجون في معرفة كون القرآن معجزًا إلى الدلائل الدقيقة لم يغتروا بالشبهات القوية العظيمة، وذلك يدل على أن هذه الأمة خير من أولئك وأكمل عقلًا وأزكى خاطرًا منهم.
وثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذه الحكاية مع أنه لم يتعلم علمًا، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام استفادها من الوحي.
وثالثها: فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل فإن أولئك الأقوام لو أنهم عرفوا الله بالدليل معرفة تامة لما وقعوا في شبهة السامري.
ورابعها: في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى بالخلاف عليه وكأنه تعالى أمره بالصبر على ذلك كما صبر موسى عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة النكدة فإنهم بعد أن خلصهم الله من فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت اغتروا بتلك الشبهة الركيكة، ثم إن موسى عليه السلام صبر على ذلك فلأن يصبر محمد عليه الصلاة والسلام على أذية قومه كان ذلك أولى.
وخامسها: أن أشد الناس مجادلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وعداوة له هم اليهود فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد فكيف هؤلاء الأخلاف. اهـ.
قوله تعالى: {وَأَنتُمْ ظالمون}.

.فصل في تفسير الظلم:

قال الفخر:
وفيه وجهان:
الأول: قال أبو مسلم الظلم في أصل اللغة هو النقص، قال الله تعالى: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الخالق المحيي المميت واشتغلوا بعبادة العجل فقد صاروا ناقصين في خيرات الدين والدنيا.
والثاني: أن الظلم في عرف الشرع عبارة عن الضرر الخالي من نفع يزيد عليه ودفع مضرة أعظم منه والاستحقاق عن الغير في علمه أو ظنه، فإذا كان الفعل بهذه الصفة كان فاعله ظالمًا ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤديه إلى العقاب والنار قيل: إنه ظالم نفسه وإن كان في الحال نفعًا ولذة كما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقال: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِه} [فاطر: 32] ولما كانت عبادتهم لغير الله شركا وكان الشرك مؤديًا إلى النار سمي ظلمًا. اهـ.

.فصل: مسألة خلق المعاصي:

قال الفخر:
استدلت المعتزلة بقوله: {وَأَنتُمْ ظالمون} على أن المعاصي ليست بخلق الله تعالى من وجوه:
أحدها: أنه تعالى ذمهم عليها ولو كانت مخلوقة لله تعالى لما استحق الذم إلا من فعلها.
وثانيها: أنها لو كانت بإرادة الله تعالى لكانوا مطيعين لله تعالى بفعلها لأن الطاعة عبارة عن فعل المراد.
وثالثها: لو كان العصيان مخلوقًا لله تعالى لكان الذم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود وأبيض وطويلًا وقصيرًا، والجواب: هذا تمسك بفعل المدح والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذلك مرارًا. اهـ.

.فائدة: ضرر الكفر لا يعود إلا على صاحبه:

قال الفخر:
في الآية تنبيه على أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم، وذلك يدل على أن جلال الله منزه عن الاستكمال بطاعة الاتقياء والانتقاص بمعصية الأشقياء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}.
تذكير لهم بنعمة عفو الله عن جرمهم العظيم بعبادة غيره وذلك مما فعله سلفهم، فإسناد تلك الأفعال إلى ضمير المخاطبين باعتبار ما عطف عليه من قوله: {ثم عفونا عنكم} فإن العفو عن الآباء منة عليهم وعلى أبنائهم يجب على الأبناء الشكر عليه كما تقدم عند قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40، 47].
ووقع في الكشاف وتفسير البغوي وتفسير البيضاوي أن الله وعد موسى أن يؤتيه الشريعة بعد أن عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد مهلك فرعون، وهذا وهم فإن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر البتة بعد خروجهم، كيف والآيات صريحة في أن نزول الشريعة كان بطورسينا وأن خروجهم كان ليعطيهم الله الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وقد أشار في الكشاف في سورة الدخان إلى التردد فيه ولا ينبغي التردد في ذلك.
وقوله: {ثم اتخذتم العجل من بعده} هو المقصود وأما ما ذكر قبله فهو تمهيد وتأسيس لبنائه وتهويل لذلك الجرم إظهارًا لسعة عفو الله تعالى وحلمه عنهم.
وتوسيط التذكير بالعفو عن هذه السيئة بين ذكر النعم المذكورة مراعاة لترتيب حصولها في الوجود ليحصل غرضان غرض التذكير وغرض عرض تاريخ الشريعة.
والمراد من المواعدة هنا أمر الله موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاة الله تعالى وإطلاق الوعد على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة.
وقراءة الجمهور {وواعدنا} بألف بعد الواو على صيغة المفاعلة المقتضية حصول الوعد من جانبين الواعد والموعود والمفاعلة على غير بابها لمجرد التأكيد على حد سافر وعافاه الله، وعالج المريض وقاتله الله، فتكون مجازًا في التحقيق لأن المفاعلة تقتضي تكرر الفعل من فاعلين فإذا أخرجت عن بابها بقي التكرر فقط من غير نظر للفاعل ثم أريد من التكرر لازمه وهو المبالغة والتحقق فتكون بمنزلة التوكيد اللفظي.
والأشهر أن المواعدة لما كان غالب أحوالها حصول الوعد من الجانبين شاع استعمال صيغتها في مطلق الوعد وقد شاع استعمالها أيضًا في خصوص التواعد بالملاقاة كما وقع في حديث الهجرة: وواعداه غار ثور.
وقول الشاعر:
فواعديه سَرْحَتَي مالك ** أو الرُّبا بينهما أسهلا

واستعملت هنا لأن المناجاة والتكلم يقتضي القرب فهو بمنزلة اللقاء على سبيل الاستعارة ولذلك استغني عن ذكر الموعود به لظهوره من صيغة المواعدة.
وقيل المفاعلة على بابها بتقدير أن الله وعد موسى أن يعطيه الشريعة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى ربه أن يمتثل لذلك، فكان الوعد حاصلًا من الطرفين وذلك كاف في تصحيح المفاعلة بقطع النظر عن اختلاف الموعود به، وذلك لا ينافي المفاعلة لأن مبنى صيغة المفاعلة حصول فعل متماثل من جانبين لاسيما إذا لم يذكر المتعلق في اللفظ كما هنا لقصد الإيجاز البديع لقصد إعظام المتعلق من الجانبين، ولك أن تقول سوغ حذفه علم المخاطبين به فإن هذا الكلام مسوق للتذكير لا للإخبار والتذكير يكتفى فيه بأقل إشارة فاستوى الحذف والذكر فرجح الإيجاز وإن كان الغالب اتحاده.
وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وعدنا} بدون ألف عقب الواو على الحقيقة.
وموسى هو رسول الله إلى بني إسرائيل وصاحب شريعة التوراة، وهو موسى بن عمران ولم يذكر اسم جده ولكن الذي جاء في التوراة أنه هو وأخوه هارون من سبط لاوى بن يعقوب.
ولد بمصر في حدود سنة ألف وخمسمائة قبل ميلاد عيسى ولما ولدته أمه خافت عليه أن يأخذه القبط فيقتلوه لأنه في أيام ولادته كان القبط قد ساموا بني إسرائيل سوء العذاب لأسباب غير مشروعة كما تقدم عند قوله تعالى: {يذبحون أبناءكم} [البقرة: 49] فأمر ملك مصر بقتل كل ذكر يولد في إسرائيل.
وأمه تسمى يوحانذ وهي أيضًا من سبط لاوى وكان زوجها قد توفي حين ولدت موسى فتحيلت لإخفائه عن القبط مدة ثلاثة أشهر ثم ألهمها الله فأرضعته رضعة ووضعته في سفط منسوج من خوص البردي وطلته بالمغرة والقار لئلا يدخله الماء ووضعت فيه الولد وألقته في النيل بمقربة من مساكن فرعون على شاطئ النيل ووكلت أختًا له اسمها مريم بأن ترقب الجهة التي يلقيه النيل فيها وماذا يصنع به، وكان ملك مصر في ذلك الوقت تقريبًا هو فرعون رعمسيس الثاني، ولما حمله النهر كانت ابنة فرعون المسماة ثرموت مع جَوارٍ لها يمشين على حافة النهر لقصد السباحة والتبرد في مائه قيل كانوا في مدينة عين شمس فلما بصرت بالسفط أرسلت أمة لها لتنظر السفط فلما فتحنه وجدن الصبي فأخذته ابنة فرعون إلى أمها وأظهرت مريم أخت موسى نفسها لابنة فرعون فلما رأت رقة ابنة فرعون على الصبي قالت: إن فينا مرضعًا أفأذهب فأدعوها لترضعه؟ فقالت: نعم فذهبت وأتت بأم موسى.
وأخذت امرأة فرعون الولد وتبنته وسمته موشى قيل: إنه مركب من كلمة مو بمعنى الماء وكلمة شى بمعنى المنقَذ وقد صارت في العربية موسى والأظهر أن هذا الاسم مركب من اللغة العبرية لا من القبطية فلعله كان له اسم آخر في قصر فرعون وأنه غير اسمه بعد ذلك.
ونشأ موسى في بيت فرعون كولد له ولما كبر علم أنه ليس بابن لفرعون وأنه إسرائيلي ولعل أمه أعلمته بذلك وجعلت له أمارات يوقن بها وأنشأه الله على حب العدل ونصر الضعيف وكان موسى شديدًا قوي البنية ولما بلغ أشده في حدود نيف وثلاثين من عمره حدث له حادث قتل فيه قبطيًا انتصارًا لإسرائيلي ولعل ذلك كان بعد مفارقته لقصر فرعون أي بعد موت مربيه فخاف موسى أن يقتص منه وهاجر من مصر ومر في مهاجرته بمدين وتزوج ابنة شعيب ثم خرج من مدين بعد عشر سنين وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة.
وأوحى الله إليه في طريقه أن يخرج بني إسرائيل من مصر وينقذهم من ظلم فرعون فدخل مصر ولقي أخاه هارون في جملة قومه في مصر وسعى في إخراج بني إسرائيل من مصر بما قصه الله في كتابه وكان خروجه ببني إسرائيل من مصر في حدود سنة 1460 ستين وأربعمائة وألف قبل المسيح في زمن منفطاح الثاني وتوفي موسى عليه السلام قرب أريحا على جبل نيبو سنة 1380 ثمانين وثلاثمائة وألف قبل ميلاد عيسى ودفن هنالك وقبره غير معروف لأحد كما هو نص التوراة.
وقوله: {أربعين ليلة} انتصب على أنه ظرف لمتعلق {واعدنا} وهو اللقاء الموعود به ناب هذا الظرف عن المتعلق أي مناجاة وغيرها في أربعين ليلة إن جعل {واعدنا} مسلوب المفاعله وإن أبقي على ظاهره قدرنا متعلقين وعلى كلا التقديرين فانتصاب أربعين على الظرفية لذلك المحذوف على أن إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه مجاز شائع في كلام البلغاء ومنه {واتقوا يومًا لا تجزى نفس} [البقرة: 48] كما تقدم والأمور التي اشتملت عليها الأربعون ليلة معلومة للمخاطبين يتذكرونها بمجرد الإلماع إليها.
وبما حررناه في قوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} تستغني عن تطويلات واحتمالات جرت في كلام الكاتبين هنا من وجوه ذكرها التفتازاني وعبد الحكيم وقد جمع الوجه الذي أبديناه محاسنها.
وجعل الميقات ليالي لأن حسابهم كان بالأشهر القمرية.
وعطفت جملة {اتخذتم العجل من بعده} بحرف {ثم} الذي هو في عطف الجمل للتراخي الترتيبي للإشارة إلى ترتيب في درجات عظم هذه الأحوال وعطف {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} أيضًا لتراخي مرتبة العفو العظيم عن عظيم جرمهم فروعي في هذا التراخي أن ما تضمنته هذه الجمل عظائم أمور في الخير وضده تنبيهًا على عظم سعة رحمة الله بهم قبل المعصية، وبعدها وحذف المفعول الثاني لاتخذتم لظهوره وعلمهم به ولشناعة ذكره وتقديره معبودًا أو إلهًا وبه تظهر فائدة ذكر {من بعده} لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي تزيدهم كمالًا لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم الله تعالى وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد أن رأوا معجزاته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] الآية.
وفائدة ذكر من للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليه السلام وهذه أيضًا حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد طول المغيب على أنه ضعف في العهد كما قال الحرث بن كلدة:
فما أدري أغيَّرهم تناءٍ ** وطول العهد أم مالٌ أصابوا

ففي قوله: {من بعده} تعريض بقلة وفائهم في حفظ عهد موسى.
وقوله: {من بعده} أي بعد مغيبه وتقدير المضاف مع بعد المضاف إلى اسم المتحدث عنه شائع في كلام العرب لظهوره بحسب المقام وإذا لم يكن ما يعنيه من المقام فالأكثر أنه يراد به بعد الموت كما في قوله تعالى: {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولًا} [غافر: 34] وقوله: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى} [البقرة: 246].
وإنما اتخذوا العجل تشبهًا بالكنعانيين الذين دخلوا إلى أرضهم وهم الفنيقيون سكان سواحل بلاد الشام فإنهم كانوا عبدة أوثان وكان العجل مقدسًا عندهم وكانوا يمثلون أعظم الآلهة عندهم بصورة إنسان من نحاس له رأس عجل جالس على كرسي مادًا ذراعيه كمتناول شيء يحتضنه وكانوا يحمونه بالنار من حفرة تحت كرسيه لا يتفطن لها الناس فكانوا يقربون إليه القرابين وربما قربوا له أطفالهم صغارًا فإذا وضع الطفل على ذراعيه اشتوى فظنوا ذلك أمارة قبول القربان فتبًا لجهلهم وما يصنعون.
وكان يسمى عندهم بعلا وربما سموه مولوك وهم أمة سامية لغتها وعوائدها تشبه في الغالب لغة وعوائد العرب فلما مر بهم بنو إسرائيل قالوا لموسى {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة} [الأعراف: 138] فانتهرهم موسى وكانوا يخشونه فلما ذهب للمناجاة واستخلف عليهم هارون استضعفوه وظنوا أن موسى هلك فاتخذوا العجل الذي صنعوه من ذهب وفضة من حليهم وعبدوه. اهـ.
وقال ابن عاشور:
وقوله: {وأنتم ظالمون} حال مقيدة لاتخذتم ليكون الاتخاذ مقترنًا بالظلم من مبدئه إلى منتهاه وفائدة الحال الإشعار بانقطاع عذرهم فيما صنعوا وأن لا تأويل لهم في عبادة العجل أو لأنهم كانوا مدة إقامتهم بمصر ملازمين للتوحيد محافظين على وصية إبراهيم ويعقوب لذريتهما بملازمة التوحيد فكان انتقالهم إلى الإشرك بعد أن جاءهم رسول انتقالًا عجيبًا.
فلذلك كانوا ظالمين في هذا الصنع ظلمًا مضاعفًا فالظاهر أن ليس المراد بالظلم في هاته الآية الشرك والكفر وإن كان من معاني الظلم في اصطلاح القرآن لظهور أن اتحاذ العجل ظلم فلا يكون للحال معه موقع.
وقد اطلعت بعد هذا على تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي فوجدته قال: {وأنتم ظالمون} أي لا شبهة لكم في اتخاذه. اهـ.