فصل: (سورة يونس: الآيات 71- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة يونس: الآيات 71- 73]:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}
{كَبُرَ عَلَيْكُمْ} عظم عليكم وشق وثقل. ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} ويقال: تعاظمه الأمر مَقامِي مكاني، يعنى نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان: وفلان ثقيل الظل. ومنه {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ} بمعنى خاف ربه. أو قيامي ومكثي بين أظهركم مددًا طوالا ألف سنة إلا خمسين عامًا. أو مقامي وتذكيري، لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بينًا وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى صلوات اللّه عليه أنه كان يعظ الحواريين قائمًا وهم قعود {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ} من أجمع الأمر وأزمعه، إذا نواه وعزم عليه. قال:
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِى مُجْمعُ

والواو بمعنى «مع» يعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. وقرأ الحسن: {وشركاؤكم} بالرفع، عطفا على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول: اضرب زيدًا وعمرو. وقرئ: فاجمعوا من الجمع. وشركاءكم نصب للعطف على المفعول، أو لأنّ الواو بمعنى «مع» وفي قراءة أبىّ: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. فإن قلت:
كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ}. فإن قلت: ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه، يعنى: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته وثقته بما وعده.
قوله «والحوادث جمة» أي كثيرة. جملة اعتراضية. وأغدون: مؤكد بالنون الخفيفة. وأمرى مجمع: أي منوي مجزوم بامتثاله. أو المعنى: وشملى مجتمع بعد تفرقه، وهي جملة حالية مغنية عن خبر أغدون. أو خبرها. وزيدت الواو لتوكيد الربط. وأجمع يتعلق بالمعقول، وجمع يتعلق بالمحسوس.
ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما:
أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعنى:
ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة: أي غما وهما. والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول، والغمة السترة من غمه إذا ستره.
ومنها قوله عليه السلام «ولا غمة في فرائض اللّه» أي لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعنى: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم ولكن مكشوفًا مشهورًا تجاهروننى به {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} ذلك الأمر الذي تريدون بى، أي: أدوا إلىَّ قطعه وتصحيحه، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ} أو أدّوا إلىّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكى كما يقضى الرجل غريمه {وَلا تُنْظِرُونِ} ولا تمهلوني. وقرئ: {ثم أفضوا إلىّ}، بالفاء بمعنى: ثم انتهوا إلىّ بشرّكم. وقيل هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أي أصحروا به إلىّ وأبرزوه لي {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي {فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} فما كان عندي ما ينفركم عنى وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي: ما نصحتكم إلا لوجه اللّه، لا لغرض من أغراض الدنيا {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا، يريد: أنذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به. والمراد أن يجعل الحجة لازمة لهم ويبرئ ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير {فَكَذَّبُوهُ} فتموا على تكذيبه وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان {وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ} يخلفون الهالكين بالغرق {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن مثله، وتسلية له.

.[سورة يونس: آية 74]:

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
{مِنْ بَعْدِهِ} من بعد نوح {رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ} يعنى هودًا وصالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا {فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} فما كان إيمانهم إلا ممتنعًا كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه {بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد {كَذلِكَ نَطْبَعُ} مثل ذلك الطبع المحكم نطبع {عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.

.[سورة يونس: الآيات 75- 78]:

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)}
{مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد الرسل بِآياتِنا بالآيات التسع {فَاسْتَكْبَرُوا} عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها {وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} كفارًا ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها {فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا} فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند اللّه، لا من قبل موسى وهرون قالُوا لحبهم الشهوات {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهًا وباطلا. فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} على أنه سحر، فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ} أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلا يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله: {سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} ثم قال: {أَسِحْرٌ هذا} فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} كأنه قيل. أتقولون ما تقولون، يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله: {أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} كما قال موسى للسحرة: {ما جئتم به السحر إنّ اللّه سيبطله} {لِتَلْفِتَنا} لتصرفنا. واللفت والفتل: أخوان، ومطاوعهما الالتفات والانفتال {عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} يعنون عبادة الأصنام {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ} أي الملك، لأنّ الملوك موصوفون بالكبر. ولذلك قيل للملك: الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعبًا في قوله:
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَة لَيْسَ فِيهِ ** جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ

ينفى ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض {وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ} أي مصدّقين لكما فيما جئتما به. وقرئ: {يطبع}، ويكون لكما، بالياء.

.[سورة يونس: الآيات 79- 82]:

{وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}
{ما جِئْتُمْ بِهِ} ما موصولة واقعة مبتدأ. و{السِّحْرُ} خبر، أي الذي جئتم به هو السحر وحاصل هذا البحث: أن قول موسى عليه السلام {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا} إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما، فقال: ما جئتم به آلسحر؟ على قراءة الاستفهام قرضًا بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والاخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد: أن اللّه تعالى حكى قول موسى عليه السلام: {ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان، وهو قول واحد دل على أن مؤدى الأمرين واحد ضرورة صدق الخبر. وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب، أو إضمار مفعول تقولون. استشكالا لوقوع الاستفهام محكيًا بالقول، والمحكي أولا عنهم الخبر. وقد أوضحنا أنه لا تنافر ولا تنافى بين الأمرين، فشد بهذا الفصل عرى التمسك، فانه من دقائق النكت. واللّه الموفق.
لا الذي سماه فرعون وقومه سحرًا من آيات اللّه. وقرئ: {آلسحر}، على الاستفهام. فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية، أي: أي شيء جئتم به، أهو السحر؟ وقرأ عبد اللّه: ما جئتم به سحر.
وقرأ أبىّ: {ما أتيتم به سحر}. والمعنى: لا ما أتيت به {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة {لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} ويثبته {بِكَلِماتِهِ} بأوامره وقضاياه. وقرئ: {بكلمته}، بأمره ومشيئته.

.[سورة يونس: آية 83]:

{فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}
{فَما آمَنَ لِمُوسى} في أوّل أمره {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} إلا طائفة من ذراري بنى إسرائيل، كأنه قيل: إلا أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: الضمير في قومه لفرعون، والذرية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {وَمَلَائِهِمْ}؟ قلت: إلى فرعون، بمعنى آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومضر. أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية، أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدل عليه قوله: {أَنْ يَفْتِنَهُمْ} يريد أن يعذبهم {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ} لغالب فيها قاهر {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتوّ، بادعائه الربوبية.

.[سورة يونس: الآيات 84- 86]:

{وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)}
{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} صدقتم به وبآياته {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون. ثم شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم للّه، أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها، لأن التوكل لا يكون مع التخليط. ونظيره في الكلام: إن ضربك زيد فاضربه، إن كانت بك قوّة {فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا} إنما قالوا ذلك، لأنّ القوم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ اللّه سبحانه قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص {لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً} موضع فتنة لهم، أي: عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.

.[سورة يونس: آية 87]:

{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطنًا. والمعنى اجعلا بمصر بيوتًا من بيوته مباءة لقومكما ومرجعًا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ} تلك {قِبْلَةً} أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة.
فإن قلت: كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلا، ثم جمع، ثم وحد آخرًا. قلت: خوطب موسى وهرون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عامًّا لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيما لها وللمبشر بها.

.[سورة يونس: آية 88]:

{وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)}
الزينة: ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. فإن قلت: ما معنى قوله: {رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}؟ قلت: هو دعاء بلفظ الأمر، كقوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ}، {وَاشْدُدْ}، وذلك أنه لما عرض عليهم آيات اللّه وبيناته عرضا مكرّرا وردّد عليهم النصائح والمواعظ زمانًا طويلا، وحذرهم عذاب اللّه وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرًا، وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة إلا نبوّا، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغى والضلال، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحي من اللّه- اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكراهته لحالهم، فدعا اللّه عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن اللّه إبليس، وأخزى اللّه الكفرة، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال.
وليكونوا ضلالا، وليطبع اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا وما علىّ منهم، هم أحق بذلك وأحق، كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته، وحردًا عليه، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه. ومعنى الشدّ على القلوب. الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان {فَلا يُؤْمِنُوا} جواب للدعاء الذي هو اشدد أو دعاء بلفظ النهى، وقد حملت اللام في ليضلوا على التعليل، على أنهم جعلوا نعمة اللّه سببًا في الضلال، فكأنهم أوتوها ليضلوا. وقوله: {فَلا يُؤْمِنُوا} عطف على ليضلوا. وقوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ} دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقرأ الفضل الرقاشي: {أإنك آتيت}؟ على الاستفهام، {واطمس} بضم الميم.