فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى: لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح.
و(لو) تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها.
فالمعنى: لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق.
وجملة: {أفأنت تكره الناس} إلخ مفرّعة على التي قبلها، لأنّه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعًا.
والاستفهام في: {أفأنت تُكره الناس} إنكاري، فنزّل النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه.
ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، فقيل: {أفأنت تُكره الناس} دون أن يقال: أفتكره الناس، أو أفأنت مُكره الناس، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار.
وهذا تعريض بالثناء على النبي ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه، ومَن بلغ المجهود حق له العذر.
وليس تقديم المسند إليه هنا مفيدًا للتخصيص، أي القصر، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر، إذ مجرد تنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه.
فما وقع في الكشاف من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه، لأن قرينة التقوي واضحة كما أشار إليه السكاكي.
والإكراه: الإلجاء والقسر.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} عطف على جملة: {أفأنت تكره الناس} [يونس: 99] لتقرير مضمونها لأن مضمونها إنكار أن يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على إلجاء الناس إلى الإيمان لأن الله هو الذي يقدر على ذلك.
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير المخاطب، أي كيف يمكنك أن تكره الناس على الإيمان والحال أنه لا تستطيع نفس أن تؤمن إلا بإذن الله لها بالإيمان. والإذن: هنا إذن تكوين وتقدير.
فهو خلْق النفس مستعدة لقبول الحق مميزة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، متوصلة بالنظر الصحيح إلى معرفة ما ينبغي أن يُتبع وما لا ينبغي، متمكنة بصحة الإرادة من زجر داعية الهوى والأعراض العاجلة ومن اتباع داعية الحق والعاقبة الدائمة حتى إذا وُجه إليها الإرشاد حصل فيها الهدى.
ويومئ إلى هذا المعنى من الإذن قوله في مقابله: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} فقابَلَ هذه الحالة بحالة الذين لا يعقلون فعلم أن حالة الإيمان حالة من يعقلون، فبينت آية: {ولو شك ربك لآمن مَن في الأرض} [يونس: 99] أن إيمان من لم يؤمن هو لعدم مشيئة الله إيمانه.
وبينت هذه الآية أن إيمان من آمن هو بمشيئة الله إيمانه، وكلاهما راجع إلى تقدير التكوين في النفوس والعقول.
والرجس: حقيقته الخبث والفساد. وأطلق هنا على الكفر، لأنه خبث نفساني، والقرينة مقابلته بالإيمان كالمقابلة التي في قوله: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا} إلى قوله: {فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 124، 125].
والمعنى: ويوقع الكفر على الذين لا يعقلون.
والمراد نفي العقل المستقيم، أي الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك الحق ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة.
و: {على} للاستعلاء المجازي المستعمل في التمكن.
وقرأ الجمهور: {ويجعل الرجس} بياء الغيبة، والضمير عائد إلى اسم الجلالة الذي قبله.
وقرأه أبو بكر عن عاصم: {ونجعل} بنون العظمة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}
والحق سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أنه إن قامت معركة بين نبي مرسل ومعه المؤمنون به، وبين من كفروا به، فلابد أن يُنزِل الحق سبحانه العذاب بمن كفروا.
وإياك أن تفهم أن الحق سبحانه إلى يحتاج عبادة الناس؛ لان الله عَزَّ وجل قديم أزليٌّ بكل صفات الكمال فيه قبل أن يخلق الخلق، وبكماله خلق الخلق، وقوته سبحانه وتعالى في ذاته، وهو خالق من قبل أن يخلق لخلق، ورازق قبل أن يخلق الزرق والمرزوق، والخلق من آثار صفات الكمال فيه، وهو الذي أوجد كل شيء من عدم.
ولذلك يُسمّون صفاته سبحانه وتعالى صفات الذات؛ لأنها موجودة فيه من قبل أن يوجد متعلقها.
فحين تقول: حيٌّ، ومُحْيٍ، فليس معنى ذلك أن الله تعالى موصوف بمُحْيٍ بعد أن وجد مَنْ يحييه، لا، إنه مُحيٍ، وبهذه الصفة أحيا.
ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل تشبيه: قد نرى المصوِّر أو الرسام الذي صنع لوحة جميلة، هنا نرى أثر موهبة الرسم التي مارسها، واللوحة ليست إلا أثرًا لهذه الموهبمة.
الحق سبحانه وتعالى إذن له كل صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق، وبصفات الكمال خَلَق الخَلْق.
فإياك أن تفهم أن هناك أمرًا قد جَدَّ على الله تعالى، فلا شيء يجِدُّ علىلحق سبحانه، وهو سبحانه لا ينتفع من خلقه بل هو الذي ينفعهم.
ونحن نعلم أن الإيمان مطلوب من الإنسان، وهو الجنس الظاهر لنا ونحن منه، ومطلوب من جنس آخر أخبرنا عنه الله تبارك وتعالى وهو الجن.
وأما بقية الكون فمُسبِّح مؤمن بالله تعالى، والكون عوالم لا حصر لها، ولكلٍّ نظام لا يحيد عنه.
ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يُدخِل الثقلين الإنس والجن في نظام التسخير ما عَزَّ عليه ذلك؛ لكن هذا التسخير يثبت له القدرة ولا يثبت له المحبوبية.
ولذلك ترك الحق سبحانه الإنسان مختارًا ليؤمن أو لا يؤمن، وهذا ما يثبت له المحبوبية إن جئته مؤمنًا، وهذا يختلف عن إيمان القَسْر والقهر، فالإيمان المطلوب من الإنسان أو الجن هو إيمان الاختيار.
وأما إيمان القسر والقهر، فكل ما في الكون من عوالم مؤمن بالحق سبحانه، مُسبِّح له.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
وهذا ليس تسبيح دلالة ورمز، بل هو تسبيح حقيقي، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
فإن فقَّهك الله تعالى في لغاتهم لعلمت تسبيح الكائنات، بدليل أنه عَلَّم سليمان عليه السلام منطق الطير، وسمع النملة تقول: {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
والهدهد قال لسليمان عليه السلام ما رآه عن بلقيس ملكة سبأ: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].
إذن: فكل ما في الكون مُسبِّح لله تعالى، يسير على منهجه سبحانه ما عدا المختار من الثقلين: الإنسان والجان؛ لأن كلًا منهما فيه عقلٌ، وله مَيْزة الاختيار بين البدائل.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن خلق للإنسان الاختيار حتى يذهب المؤمن إليه اختيارًا، ولو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجبر الإنسان على الإيمان لَفعلَ.
أقول ذلك حتى لا يقولن أحد: ولماذا كل هذه المسائل من خَلْق وإرسال رُسل، وتكذيب أناس، ثم إهلاك المكذِّبين؟
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
إذن: فالحق سبحانه خلق الإنسان وسخَّر له كل الأجناس، ولم يجبره على الإيمان، بل يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحبًّا مخلصًا لقومه وعشيرته، وذاق حلاوة الإيمان، وحزن لأنهم لم يؤمنوا، فينبهه الحق سبحانه وتعالى أن عليه مهمة البلاغ فقط، فلا يكلّف نفسه شَططًا.
والحق سبحانه وتعالى شاء أن يجعل للإنسان حقَّ الاختيار وسخَّر له الكون، ومن الناس من يؤمن، ومن الناس من يكفر، بل ومن المؤمنين من يطيع مرة، ويعصي أخرى، وهذه هي مشيئة الحق ليتوازن الكون، فكل صفة خيِّرة إنْ وجد من يعارض فيها فهذا ما شاءه الله سبحانه وتعالى للإنسان، فلا تحزن يا رسول الله؛ فالحق سبحانه وتعالى شاء ذلك.
وإنْ غضب واحد من أن الآخرين لم يعترفوا بصفاته الطيبة نقول له: إن الحق سبحانه هو خالق الكون وهو الرازق، قد كفروا به وألحدوا، وجعلوا له شركاء، فتَخلَّقوا بأخلاق الله؟
ولذلك قال الحق سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. إنه سبحانه وتعالى يريد إيمان المحبة وإيمان الاختيار.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} هكذا يُبيِّن لنا الحق سبحانه أن أحدًا لا يؤمن إلا بإذن من الله تعالى؛ لأن معنى أن تؤمن أن يكون إيمانك إيمان فطرة نتيجة تفكُّر في سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجَاج، وبحار تَزْخر، ورياح تَصْفِر، كل ذلك يدل على وجود الخالق سبحانه.
لكن أتَرَكَ الله سبحانه وتعالى الناس للفطرة؟
لا، بل أرسل سبحانه لهم الرسل ليذكِّروهم بالآيات الموجودة في الكون، ولينتبه الغافل؛ لأنه سبحانه لا يريد أن يأخذ الناس على حين غفلة.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].
لذلك ينبههم الحق سبحانه بأن هناك أشياء كان يجب أن تُذكر، وكأن الحق سبحانه يُبيِّن لنا: إياكم أن تفهموا أن أحدًا يخرج عن مُلكي إلا بإرادتي، فأنا بخلقي له مختارًا سمحت له أن يكفر أو يؤمن، وسمحت له أن يطيع أو أن يعصي.
كل ذلك من أجل أن يثبت لي صفة المحبوبية.
لذلك فلا أحد يؤمن إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يكفر إلا بإذنه سبحانه؛ لأن مَنْ خلقه مختارًا عَلِمَ برضاء منه بما يكون من المخلوق، فالكافر لم يكفر قهرًا، والمؤمن لم يؤمن قهرًا من الله سبحانه.
وساعةَ يأتي الرسول ليعرض قضية الإيمان، يتذكر الإنسان إيمان الفطرة ويقول: لقد جاء هذا الرسول بهذا المنهج ليعدِّل لي حياتي، فلابد أن أرْهِفَ له السمع.
وساعة يُقْبِل العبد على الله تعالى، فسبحانه يأذن له أن يدخل إلى حظيرة الإيمانَ.
إن العبد مِنَّا إذا ما ذهب للقاء عبد مثله له سيادة وجاه، ويدرك العبد صاحب السيادة والجاه بفضل من الله السبب الذي جاء من أجله العبد الآخر؛ فيقول صاحب السيادة لمعاونيه: لا تُدْخِلوه. وهو يقول ذلك؛ لأن الله سبحانه أطلعه على ما في قلب العبد الآخر من غلًّ ومن حقدٍ ومن نفاق.
أما إذا دقَّ بابه عبد آخر، فتجده يأمر معاونيه أنْ يُدخلوه وأن يفسحوا له؛ لأنه علم بما في قلبه من محبة ورغبة في صِدْق اللقاء والمودة.
إذا كان هذا يحدث بين العباد، وهم كلهم أغيار، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى؟
والله سبحانه هو القائل في حديث قدسي: {من ذكرني في نفسه ذكرتُه في ملأ خير منه}. ما بالنا بالعبد إذا دخل على الإيمان بالله غير مشحون بعقيدة عدا الله. إذن: أقْبِلْ على الله سبحانه وعلى ذكر الله، وأنت إنْ ذكرت الله في نفسك، فالله يذكرك فيه نفسه، وإن ذكرته في ملأ ذكرك في ملأ خير منه، فالملأ الذي ستذكره فيه ملأ خَطَّاءٌ، والله سبحانه سيذكرك في ملأ طاهر. ويقول الحق سبحانه في ذات الحديث القدسي: «إنْ تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا». والذراع أطول من الشِّبر. ويقول: «وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
فالمشي قد يُتعب العبد، لذلك يُسرع إليه الحق عز وجل، وهو سبحانه بكل ربوبيته ما إنْ يعلمْ أن عبدًا قد صفا قلبه من خصومة الله تعالى في شيء، حتى يفتح أمامه أبواب محبته سبحانه، فيحبِّب فيه خلقه، ويجعل له مدخل صدق في كل أمر ومخرج صدق من كل ضيق، وهو الحق القائل: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
ونلحظ أن الحق سبحانه يؤكد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنه لو شاء لآمن مَنْ في الأرض جميعًا؛ ليبيِّن لنا أنه حتى إبليس الذي دخل في جدالٍ مع الله، لو شاء الحق سبحانه لآمن إبليس.
وجاء الحق سبحانه بهذا التأكيد؛ لِيُحْكِمَ الأمرَ حول كل خَلْقه ومخلوقاته، فلا يشذ منهم أحد.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].