فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْفُلْكِ (السَّفِينَةِ) الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ إِحَاطَةِ الْخَطَرِ بِهِمْ: {دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (22).
وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي السُّورِ، كُرِّرَتْ لِأَجْلِ انْتِزَاعِ هَذَا الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ مِنْ قُلُوبِ الْجُمْهُورِ الْأَكْبَرِ، وَقَدِ انْتُزِعَ مِنْ قُلُوبِ الَّذِينَ أَخَذُوا دِينَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ جُلَّ عِبَادَتِهِمْ تَكْرَارُ تِلَاوَتِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ثُمَّ عَادَ بِقَضِّهِ وَقَضِيضِهِ إِلَى الَّذِينَ هَجَرُوا تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَهُمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُعَاشِرِينَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْخُرَافِيَّيْنِ الْأُمِّيَّيْنِ، الْجَاهِلِينَ، وَأَكْثَرُ الْقَارِئِينَ مِنْهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ يَأْخُذُونَهَا مِنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ مُتَأَخَّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَدَلِيَّةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْخُرَافِيَّةِ، وَلَا يَكَادُ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ يَخْلُو مِنْ قَبْرٍ مُشْرِفٍ مَشِيدٍ، تُوقَدُ عَلَيْهِ السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ، وَقَدْ لَعَنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَاعِلِيهَا، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ، يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ يُقِيمُونَ فِيهَا، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِالْهَدَايَا وَالنُّذُورِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَبِعَرَائِضِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالدُّعَاءِ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، لِيَكْشِفُوا عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَهَبُوا لَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنَ النَّفْعِ، وَمِنْ أَمَامِهِمْ وَوَرَائِهِمْ عَمَائِمُ مُكَوَّرَةٌ، وَلِحًى طَوِيلَةٌ أَوْ مُقَصَّرَةٌ، يُسَمُّونَ شِرْكَهُمُ الْأَكْبَرَ تَوَسُّلًا، وَاسْتِغَاثَتَهُمُ اسْتِشْفَاعًا، وَنُذُورَهُمْ لِغَيْرِ اللهِ صَدَقَاتٍ مَشْرُوعَةً، وَطَوَافَهُمْ بِالْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ زِيَارَاتٍ مَقْبُولَةً، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ، بَلْ يُحَرِّفُونَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنُّذُورِ لِلْأَوْثَانِ، وَالتَّعْظِيمِ لِلصُّلْبَانِ، كَأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللهِ جَائِزٌ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنَ الْبَلَاءِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِمِصْرَ أَنْ أَصْدَرَتْ لَهُمْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً دِينِيَّةً، تُفْتِيهِمْ بِشَرْعِيَّةِ كُلِّ هَذِهِ الْبِدَعِ الشَّرِكِيَّةِ الْقُبُورِيَّةِ، سَمَّتْهَا (نُورَ الْإِسْلَامِ) وَأَلَّفَ لَهُمْ أَحَدُ خُطَبَاءِ الْفِتْنَةِ كِتَابًا فِي هَذَا وَاطَأَهُ عَلَيْهِ وَأَمْضَاهُ لَهُ سَبْعُونَ عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ بِزَعْمِهِ، بَلْ طَبَعَ فِي طُرَّتِهِ خَوَاتِمَ بَعْضِهِمْ وَتَوَاقِيعَ آخَرِينَ مِنْهُمْ بِخُطُوطِهِمْ وَذَكَرَ جَمِيعَ أَسْمَائِهِمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَبِهِ وَحْدُهُ الْمُسْتَعَانُ لِإِنْقَاذِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى نَفْعِ هَذَا الدُّعَاءِ لِغَيْرِ اللهِ بِالتَّجَارِبِ، كَمَا يَحْتَجُّ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ وَالنَّصَارَى، فَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا دَاحِضَةٌ لِشُبْهَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ بِأَنَّهُمْ طَالَمَا اسْتَفَادُوا مِنْ دُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فَشُفِيَتْ أَمْرَاضُهُمْ، وَكُبِتَتْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَكُشِفَ الضُّرُّ عَنْهُمْ، وَأُسْدِيَ الْخَيْرُ إِلَيْهِمْ، يَقُولُ تَعَالَى لِكُلِّ مُخَاطَبٍ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ الْإِسْلَامِ، بِكَلَامِ اللهِ وَتَبْلِيغِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ} أَيُّهَا الْإِنْسَانُ {بِضُرٍّ} كَمَرَضٍ يُصِيبُكَ بِمُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ، أَوْ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثَّمَرَاتِ بِأَسْبَابِهِ لَكَ فِيهِ عِبْرَةٌ، أَوْ ظُلْمٍ يَقَعُ عَلَيْكَ مِنَ الْحُكَّامِ الْمُسْتَبِدِّينَ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْمُعْتَدِينَ {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} وَقَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يَعْرِفُهُ خَلْقُهُ بِتَجَارِبِهِمْ، كَكَشْفِ الْأَمْرَاضِ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، وَخَوَاصِّ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي تُدَاوَى بِهَا، وَتَجَارِبِ الْأَعْمَالِ الْجِرَاحِيَّةِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا أَهْلُهَا، فَعَلَيْكَ أَنْ تَطْلُبَهَا مِنْ أَسْبَابِهَا، وَتَكِلَ أَعْمَالَهَا إِلَى أَرْبَابِهَا، وَتَأْتِيَ سَائِرَ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا، مَعَ الْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ لِمُسَخِّرِهَا، فَإِنْ جَهِلْتَ الْأَسْبَابَ أَوْ أَعْيَاكَ أَمْرُهَا، فَتَوَجَّهْ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَادْعُهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، يُسَخِّرْ لَكَ مَا شَاءَ أَوْ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ يَشْفِكَ مِنْ مَرَضِكَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ، كَمَا ضَرَبَ لَكَ الْأَمْثَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كِتَابِهِ {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} يَهَبْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ لَكَ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا سَعْيٍ مِنْكَ، {فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} أَيْ فَلَا أَحَدَ وَلَا شَيْءَ يَرُدُّ فَضْلَهُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ حَتْمًا، فَلَا تَرْجُ الْخَيْرَ وَالنَّفْعَ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا تَخَفْ رَدَّ مَا يُرِيدُهُ لَكَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يُصِيبُ بِالْخَيْرِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِكَسْبٍ وَبِغَيْرِ كَسْبٍ وَبِسَبَبٍ مِمَّا قَدَّرَهُ فِي السُّنَنِ الْعَامَّةِ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، فَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ عَامٌّ بِعُمُومِ رَحْمَتِهِ، بِخِلَافِ الضُّرِّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، أَوِ الْعَامَّةِ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ، فَالْأَوَّلُ مَعْلُومٌ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تَعْرِضُ بِتَرْكِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْوِقَايَةِ جَهْلًا أَوْ تَقْصِيرًا، وَفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسُقُوطِ الدُّوَلِ الَّذِي يَقَعُ بِتَرْكِ الْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ، وَالثَّانِي كَالضَّرَرِ الَّذِي يَعْرِضُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، وَطُغْيَانِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَزَلَازِلِ الْأَرْضِ وَصَوَاعِقِ السَّمَاءِ {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وَلَوْلَا مَغْفِرَتُهُ الْوَاسِعَةُ وَرَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ لَأَهْلَكَ جَمِيعَ النَّاسِ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (42: 30): {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (35: 45). اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}
أخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {وإن يردك بخير} يقول: بعافية.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه قال: ثلاث آيات وجدتها في كتاب الله تعالى اكتفيت بها عن جميع الخلائق، قوله: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله}.
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن عامر بن قيس رضي الله عنه قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهن عن جميع الخلائق: أولهن: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} والثانية: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له} [فاطر: 2] والثالثة: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6].
وأخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اطلبوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله تعالى فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن من روعاتكم».
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء رضي الله عنه موقوفًا. مثله سواء. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}
قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ}: قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام. وقال هنا في جواب الشرط الأول بنفي عام وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دونَ إيجاب، لأنَّ ما أراده لا يَرُدُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره؛ لأن إرادتَه قديمةٌ لا تتغيَّر، فلذلك لم يَجِيْء التركيب فلا رادَّ له إلا هو، هذه عبارةُ الشيخ، وفيها نظرٌ، وكأنه يقول بخلاف الكشف فإنه هو الفاعل لذلك وحدَه دون غيره بخلافِ إرادته تعالى، فإنها لا يُتَصَوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل السنة والاعتزال. قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ ذُكِر المَسُّ في أحدهما والإِرادةُ في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعًا: الإِرادة والإِصابة في كلِّ واحد من الضُّر والخير، وأنه لا رادَّ لِما يريده منهما، ولا مُزيلَ لما يُصيب به منهما، فأوجزَ الكلام بأنْ ذكرَ المَسَّ وهو الإِصابةُ في أحدهما والإِرادة في الآخر ليدلَّ بما ذَكَرَ على ما تَرَك، على أنه قد ذَكَر الإِصابة في الخير في قوله: {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف الإمام القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} كما تفرَّد بإبداع الضُرِّ واختراعه فلا شريكَ يُعْضِّدُه... كذلك توحَّدَ بكشف الضُرِّ وصَرْفِه فَلا نصيرَ يُنْجِدُه.
ويقال هوَّنَ على المؤمِن الضرِّ إليه بقوله: {وَإِن يَمْسسْكَ اللّهُ بِضُرٍ} حيث أضافه إلى نفسه، والحنظلُ يُسْتَلذُّ مِنْ كفَّ مَنْ تحبه.
وفَرَّقَ بين الضُرِّ والخير بإضافة الضرِّ إليه فقال: {وَإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍ} ولم يقل: وإنْ يُرِدْكَ بضرٍ- وإنْ كان ذلك الضرُّ صادرًا عن إرادته- وفي ذلك من حيث اللفظ دِقّة.
ويقال: عَذُبَ الضرّ حيث كان نفعه؛ فلمَّا أوجب مقاساة الضُّرِّ من الحرَبَ أبدل مكانَه السرورَ والطَّرَب. اهـ.

.تفسير الآيات (108- 109):

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت، وختم بأن من دعا غيره كان راسخًا في الظلم لا مجير له منه، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم، وضرر النفور ليس عائدًا إلا عليهم فقال تعالى: {قل يا أيها الناس} أي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب: {قد جاءكم الحق} أي الكامل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الكتاب، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به، وزاد الرغبة فيه بقوله: {من ربكم} أي المحسن إليكم: {فمن} أي فتسبب عن ذلك أنه من: {اهتدى} أي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعمل بما في الكتاب: {فإنما يهتدي لنفسه} أي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة: {ومن ضل} أي كفر بهما أو بشيء منهما: {فإنما يضل عليها} لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد غر نفسه: {وما أنا} ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك إنما هو إلى الله تعالى، كان تقديم ضميرهم أهم فقال: {عليكم بوكيل} فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنعه عنكم كما يطلب من الوكيل.
ولما كان أكثر ذلك وعظًا لهم وتذكيرًا ختمه بأمره صلى الله عليه وسلم بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا أو لمن يجيبوا، فقال عطفًا على قوله: {قل يا أيها الناس}، {واتبع} أي بجميع جهدك: {ما يوحى إليك} وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته صلى الله عليه وسلم وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله، فكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى: {واصبر} في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر من ضلال من لم يهتد وإعراضه وجفوته وأذاه: {حتى يحكم الله} أي الملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومن اهتدى: {وهو} أي وحده: {خير الحاكمين} لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه وأحقها وأحسنها وأعدلها، وهو المطلع على السرائر فاعمل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجميع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بأمره؛ قال الزمخشري: وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار قال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره، فإن صح فالسر فيه- والله أعلم- أنه لما أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له أشد اتباعًا كان أشد بلاء، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قيادًا وألين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه، فلما كان ذلك كذلك، خص النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار- رضي الله عنهم- لهذا الأمر، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا يتوهم تفضيلهم على المهاجرين بل المهاجرون أفضل لأنهم جمعوا إلى النصرة الهجرة مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسبق في الإسلام حظ وافر.
هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة.
والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، وقال: سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى: والوحي: إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء.
وهو هنا ما يجيء به الملك إلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس؛ والصبر: تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به، واعتياد الصبر في خصلة يسهل الصبر في خصلة أخرى لأن الخير يدعو إلى الخير فتمكن الإنسان في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ماشاكلها، وقد ختم سبحانه السورة بما ابتدأها به من أمر الكتاب والإشارة إلى الإرشاد لما ينفع من ثمرة إنزاله وهو العمل بما دل عليه أو أشار إليه إلى أن ينجلي الحكيم الذي انزله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة، وهذا لعينه هو أول التي بعدها، فكان ختم هذه السورة وسطًا بين أولها وأول التي تليها، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}
واعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوة والمعاد وزين آخر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مستبدًا بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع، ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية، وفي تفسيرها وجهان: الأول: أنه من حكم له في الأزل بالاهتداء، فسيقع له ذلك، ومن حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه.
الثاني: وهو الكلام اللائق بالمعتزلة قال القاضي: إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة: {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم، وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزيد مما فعلت.
قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بآية القتال.
ثم إنه تعالى ختم هذه الخاتمة بخاتمة أخرى لطيفة فقال: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}.
والمعنى أنه تعالى أمره باتباع الوحي والتنزيل، فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله فيه وهو خير الحاكمين.
وأنشد بعضهم في الصبر شعرًا فقال:
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ** وأصبر حتى يحكم الله في أمري

أصبر حتى يعلم الصبر أنني ** صبرت على شيء أمر من الصبر

تم تفسير هذه السورة والله أعلم بمراده بأسرار كتابه بعون الله وحسن توفيقه.
يقول جامع هذا الكتاب: ختمت تفسير هذه السورة يوم السبت من شهر الله الأصم رجب سنة إحدى وستمائة وكنت ضيق الصدر كثير الحزن بسبب وفاة الولد الصالح محمد أفاض الله على روحه وجسده أنواء المغفرة والرحمة، وأنا ألتمس من كل من يقرأ هذا الكتاب وينتفع به من المسلمين أن يخص ذلك المسكين بالدعاء والرحمة والغفران والحمدلله رب العالمين، وصلاته على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين. اهـ.