فصل: الْبَابُ السَّادِسُ: فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِي الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ-عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(الْخَامِسَةُ: الْجَهْلُ وَاتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْخَلِيقَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ غَرَائِزَهُ الْخِلْقِيَّةَ أَضْعَفُ مِنْ غَرَائِزِ الْحَشَرَاتِ وَالْعَجْمَاوَاتِ، وَجَعَلَ عِمَادَ أَمْرِهِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ التَّدْرِيجِيِّ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (16: 78) وَآيَةِ الْأَمَانَةِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الظُّلْمِ. وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تعالى: {وَمَا يَتِّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (36) وَقَوْلُهُ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (66).
(السَّادِسَةُ: الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ) وَالْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ مِمَّا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ، حَتَّى لَا تَعُودَ تَقَبْلُ مَا يُخَالِفُ تَقَالِيدَهَا الْمَوْرُوثَةَ وَالرَّاسِخَةَ بِمُقْتَضَى الْعَمَلِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تعالى: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} (74) فَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ نَتِيجَةً مَعْلُولَةً لِاعْتِدَاءِ حُدُودِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِهَا، لَا كَمَا يَفْهَمُهُ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الصُّرَحَاءِ وَالْمُتَأَوِّلِينَ، وَغَايَةُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ الْقَلْبِيَّةِ النَّفْسِيَّةِ فِي الدُّنْيَا الْحِرْمَانُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُقْتَضَى كَلِمَةِ اللهِ فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ كَلِمَةِ التَّكْلِيفِ، لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ الْمُرْشِدَةِ لِلْفِطْرَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمَا هُوَ تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 23 و66- 101.
(السَّابِعَةُ: الْغُرُورُ وَالْبَطَرُ بِالرَّخَاءِ وَالنِّعَمِ) فَهُمْ فِي أَثْنَائِهَا يَمْكُرُونَ فِي آيَاتِ اللهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا أَصَابَتْهُمُ الشَّدَائِدُ تَذَكَّرُوا وَأَخْلَصُوا فِي دُعَائِهِ، فَإِذَا كَشَفَهَا عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى شِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ 21- 23 و88.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوَائِلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِهَا مُشْرِكُونَ مُعَانِدُونَ كَافِرُونَ ظَالِمُونَ مُجْرِمُونَ جَاهِلُونَ، مُسْتَكْبِرَةٌ رُؤَسَاؤُهُمْ، مُقَلِّدَةٌ دُهَمَاؤُهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا تَقْدِيمَ الْإِنْذَارِ فِيهَا عَلَى التَّبْشِيرِ كَمَا تَرَاهُ فِي أَوَّلِهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ الصِّفَاتِ وَالْخَلَائِقِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ النَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يُعْلَمُ أَكْثَرُهُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَكَوْنِ أَصْلِ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَوْنِهِ فُطِرَ عَلَى تَرْجِيحِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، أَوِ التَّجَارِبِ الْعَمَلِيَّةِ، وَكَوْنِ الدِّينِ مُؤَيِّدًا لِلْعَقْلِ، حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْهَوَى وَالْجَهْلُ.
فَتَأَمَّلِ الْأَصْلَ فِي تَكْوِينِ الْأُمَمِ وَوَحْدَتِهَا فِي فِطْرَتِهَا، ثُمَّ طُرُوءَ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ 19- ثُمَّ انْظُرْ فِي مُقَدِّمَةِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي آخِرِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ 99- 103 وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي اسْتِعْدَادِهِمُ الْمَذْكُورِ، وَكَوْنِهِ اخْتِيَارِيًّا لَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَتَعْبِيرَهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي تَرْجِيحِهِمُ الرِّجْسَ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِجَعْلِهِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا يَهْتَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِسُنَّتِهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ وَعَاقِبَةُ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ.
ثُمَّ تَأْمَّلْ خُلَاصَةَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ 104 إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي دِينِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَكَوْنِ الشَّكِّ جَهْلًا، وَكَوْنِهِمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ وَهْمًا، وَكَوْنِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكَوْنِهِمْ يَعْبُدُونَ مَنْ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَكَوْنِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ هُوَ الْحَقَّ، وَكَوْنِهِمْ مُخْتَارِينَ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، وَكَوْنِ مَا يَخْتَارُونَهُ إِمَّا لِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مُوَكَّلًا بِهِدَايَتِهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ.
وَهَذِهِ الْخُلَاصَةُ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، فَارْجِعْ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالدَّلَائِلِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مَغْرُوسَةٌ فِي أَعْمَاقِ أَنْفُسِهِمْ، وَبِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ فِي الْخَامِسَةِ: {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وَفِي السَّادِسَةِ {لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} وَخِطَابِهِ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ لِلْعَقْلِ بِقَوْلِهِ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وَفِي الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ لِلْفِكْرِ بِقَوْلِهِ: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ثُمَّ ارْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ إِقَامَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} الْآيَاتِ 35- 39، ثُمَّ إِلَى بَيَانِهِ لَهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أُصُولِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْآيَةِ 57 وَمَا بَعْدَهَا- وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ.

.الْبَابُ السَّادِسُ: فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِي الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ-عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ:

وَأَخَّرْنَاهُ لِأَنَّهُ الثَّمَرَةُ وَالنَّتِيجَةُ وَهُوَ قِسْمَانِ:

.الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ:

(1) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} وَالصَّالِحَاتُ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَنْفُسُ الْأَفْرَادِ وَنِظَامُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْبُيُوتِ وَالْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ، هَذَا هُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ مُجْمَلًا، وَفُصِّلَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ بِحَسْبِ مَا كَانَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاحِ أَوِ الْإِصْلَاحِ فَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، فَإِمَّا فَاسِدٌ فِي أَصْلِهِ، وَإِمَّا أُدِّيَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ.
(2) قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (9) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا عَلَاقَةَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَوْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ هَذَا وَيَتَوَخَّهُ لَمْ يَفْقَهْ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ صَالِحًا يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَفِي أَمْثَالِهِمَا مِنْ طُولَى السُّورِ وَمِئِينِهَا وَمُفَصَّلِهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا (وَهِيَ سُورَةُ وَالْعَصْرِ) وَيُؤَيِّدُ هَذَا اتِّحَادُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْمَاصَدَقِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْهُومِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ 84 و90، فَمَفْهُومُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ الْإِذْعَانِيُّ الْجَازِمُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَمَفْهُومُ الْإِسْلَامِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَصِحُّ فَيَكُونُ إِسْلَامًا إِلَّا بِهِ.
(3) قَوْلُهُ تعالى: {لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (26) ظَاهِرٌ فِي دَلَالَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مُضَاعَفَةِ هَذَا الْجَزَاءِ.
(4) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّعْرِيفِ بِأَوْلِيَائِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (63) فَالتَّقْوَى جِمَاعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْحَسَنَةِ مَعَ اتِّقَاءِ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ السَّيِّئَةِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَبْسَطُهَا وَأَظْهَرُهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرَقَانًا} [29] الآية.
(5) قَوْلُهُ حِكَايَةً لِوَصِيَّةِ مُوسَى لِقَوْمِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (87).

.الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي السَّيِّئَاتِ وَفِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا:

(6) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، الرَّاضِينَ الْمُطَمْئِنِينَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا غَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِيهَا: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (8).
(7) قَوْلُهُ فِيمَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَيَدْعُونَهُ فِي الضَّرَّاءِ وَيَنْسَوْنَهُ فِي السَّرَّاءِ: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (12).
(8) قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ بَغْيِ النَّاسِ فِي السَّرَّاءِ وَغُرُورِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَوْنِ وَبَالِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْآيَاتِ 21- 23 (وَهِيَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهَا): {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (23).
(9) قَوْلُهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15).
(10) قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} (27) الآية.
(11) قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} (52).
(12) قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (81).
(13) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (14).
(14) قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (41).
(15) قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (61).
(16) قَوْلُهُ فِي الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (108).
فَنَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُصْلِحَ أَعْمَالَنَا، وَيَجْعَلَ خَيْرَهَا خَوَاتِيمَهَا.
وَهَذَا آخَرُ مَا نَخْتِمُ بِهِ خُلَاصَةَ هَذِهِ السُّورَةِ الْبَلِيغَةِ، وَنَضْرَعُ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، مُفَصَّلًا وَمُجْمَلًا، كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي كُلِّ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ.
وَصَلَّى الله عَلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالْمُهْتَدِينَ مِنْ خَلْقِهِ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} استئناف ابتدائي هو كذيل لما مضى في السورة كلها وحوصلة لما جرى من الاستدلال والمجادلة والتخويف والترغيب، ولذلك جاء ما في هذه الجملة كلامًا جامعًا وموادعة قاطعة.
وافتتاحها بـ: {قل} للتنبيه على أنه تبليغ عن الله تعالى فهو جدير بالتلقي.
وافتتاح المقول بالنداء لاستيعاء سماعهم لأهمية ما سيقال لهم، والخطاب لجميع الناس من مؤمن وكافر، والمقصود منه ابتداءً المشركون، ولذلك أطيل الكلام في شأنهم، وقد ذكر معهم من اهتدى تشريفًا لهم.
وأكد الخبر بحرف: {قد} تسجيلًا عليهم بأن ما فيه الحق قد أبلغ إليهم وتحقيقًا لكونه حقًا.
والحق: هو الدين الذي جاء به القرآن، ووصفه بـ: {من ربكم} للتنويه بأنه حق مبين لا يخلطه باطل ولا ريب، فهو معصوم من ذلك.
واختيار وصف الرب المضاف إلى ضمير: {الناس} على اسم الجلالة للتنبيه على أنه إرشاد من الذي يحب صلاح عباده ويدعوهم إلى ما فيه نفعهم شأن من يربّ، أي يسوس ويدبر.
وتفريع جملة: {فمن اهتدى} على جملة: {قد جاءكم} للإشارة إلى أن مجيء الحق الواضح يترتب عليه أن إتباعه غنم لمتبعه وليس مزية له على الله، ليتوصل من ذلك إلى أن المعرض عنه قد ظلم نفسه، ورتب عليها تبعة الإعراض.
واللام في قوله: {لنفسه} دالة على أن الاهتداء نعمة وغنى وأن الإعراض ضر على صاحبه.
ووجه الإتيان بطريقتي الحصر في: {فإنما يهتدي لنفسه} وفي: {فإنما يضل عليها} للرد على المشركين إذ كانوا يتمطَّون في الاقتراح فيقولون: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} [الإسراء: 90] ونحو ذلك مما يفيد أنهم يمنون عليه لو أسلموا، وكان بعضهم يظهر أنه يغيظ النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الكفر فكان القصر مفيدًا أن اهتداءه مقصور على تعلق اهتدائه بمعنى اللام في قوله: {لنفسه} أي بفائدة نفسه لا يتجاوزه إلى التعلق بفائدتي.
وأن ضلاله مقصور على التعلق بمعنى على نفسه، أي لمضرتها لا يتجاوزه إلى التعلق بمضرتي.
وجملة: {وما أنا عليكم بوكيل} معطوفة على جملة: {من اهتدى} فهي داخلة في حيز التفريع، وإتمام للمفرع، لأنه إذا كان اهتداء المهتدي لنفسه وضلال الضال على نفسه تحقق أن النبي صلى الله عليه وسلم غير مأمور من الله بأكثر من التبليغ وأنه لا نفع لنفسه في اهتدائهم ولا يضره ضلالهم، فلا يحسبوا حرصه لنفع نفسه أو دفع ضر عنها حتى يتمطّوا ويشترطوا، وأنه ناصح لهم ومبلغ ما في اتباعه خيرهم والإعراض عنه ضُرُّهم.
والإتيان بالجملة الاسمية المنفية للدلالة على دوام انتفاء ذلك الحكم وثباته في سائر الأحوال.
ومعنى الوكيل: الموكول إليه تحصيل الأمر.
و: {عليكم} بمعنى على اهتدائكم فدخل حرف الجر على الذات والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام.
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} عطف على: {قل} أي بلغ الناس ذلك القول: {واتّبع ما يوحى إليك}، أي اتبع في نفسك وأصحابك ما يوحى إليك.
و: {اصبر} أي على معاندة الذين لم يؤمنوا بقرينة الغاية بقوله: {حتى يحكم الله} فإنها غاية لهذا الصبر الخاص لا لمطلق الصبر.
ولما كان الحكم يقتضي فريقين حذف متعلقه تعويلًا على قرينة السياق، أي حتى يحكم الله بينك وبينهم.
وجملة: {وهو خير الحاكمين} ثناء وتذييل لما فيه من العمُوم، أي وهو خير الحاكمين بين كل خصمين في هذه القضية وفي غيرها، فالتعريف في: {الحاكمين} للاستغراق بقرينة التذييل. و: {خير} تفضيل، أصله أخير فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والأخيرية من الحاكمين أخيرية وفَاء الإنصاف في إعطاء الحقوق. وهي هنا كناية عن معاقبة الظالم، لأن الأمر بالصبر مشعر بأن المأمور به معتدًى عليه، ففي الإخبار بأن الله خير الحاكمين إيماء بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا وهذا كلام جامع فيه براعة المقطع. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} إذن: فالحق سبحانه لم يُقصِّر مع الخلق، فقد خلق لكم العقول، وكان يكفي أن تفكّروا بها لتؤمنوا من غير مجيء رسول، وكان على هذه العقول أن تفكر في القويُّ الذي خلق الكون كله، بل هي التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القويّ رسولًا بما يطلبه سبحانه من عباده، فإذا ما جاء رسول ليخبرهم أنه رسول من الله ويحمل البلاغ منه، كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول.
إذن: كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم؛ ولذلك نجد أن الفلاسفة حين بحثوا عن المعرفة، قالوا: إن هناك فلسفة مادية تحاول أن تتعرف على مادية الكون، وهناك فلسفة ميتافيزيقية تبحث عما وراء المادة.
فَمَنْ أعلمَ الفلاسفة إذن أن هناك شيئًا وراء المادة.